انتهت الانتفاضة المسلحة أو المعسكرة - على حد تعبير بعضهم - ودخل الكفاح الفلسطيني مرحلة جديدة، أو أنه يجب أن يدخل مرحلة جديدة. واستهلت هذه المرحلة بدخول حركة"حماس"حلبة العمل السياسي من أوسع أبوابه، مدشنة"مرحلة ما بعد الانتفاضة المسلحة". والحق أن الانتفاضة الثانية - انتفاضة الأقصى والاستقلال - تحمّل خلالها الشعب العربي الفلسطيني أكثر مما يطيق على مدى خمس سنوات، ومن ذلك أربعة آلاف شهيد حتى الآن وعشرات الآلاف من الجرحى، وأكثر من سبعة آلاف أسير، محتجزين قسرا في السجون ومراكز الاعتقال لمدد غير محددة، حيث يتعرضون لممارسات تنتهك أبسط الحقوق القانونية، وبخاصة في مرحلة ما يسمى بالتحقيقات، وبغطاء من المحاكم الإسرائيلية. كذلك كان تدمير البنية الأساسية من طرق وتعليم وصحة وتجريف للأراضي وهدم المساكن والمخيمات، لاسيما مخيمات جنين وغزة ورفح، واقتلاع أشجار الزيتون ومصادرة الأراضي بغرض بناء المستعمرات اليهودية وإقامة الجدار العنصري وتأمين قوات الاحتلال. ارتفعت معدلات البطالة - كنسبة من القوة العاملة - إلى أكثر من 50 في المئة، فضلا عن إهدار"وقت العمل"في المؤسسات الإنتاجية والخدمية القائمة، من جراء فرض شبكة من الاتصال الأرضي، بفعل الحواجز والطرق الالتفافية وغيرها، بالإضافة إلى هدم المطار والموانئ وتعطيل خدمات النقل البحري والجوي، اضافة الى تعطيل حركة النقل البري بين فلسطين ومحيطها العربي والعالم الخارجي من منافذ الحدود مع مصر والأردن، بل تعطيل حركة النقل والانتقال بين الضفة وغزة نفسيهما. أما الآثار التي يصعب قياسها، فتتعلق بما يسمى، في المصطلح الاقتصادي -"كلفة الفرصة المضيّعة"، أي ما كان يمكن تحقيقه من إنجاز في مختلف مجالات حياة المجتمع الفلسطيني، ولم يتحقق بفعل الاحتلال. ويمكن الإشارة هنا إلى انعدام فرص التقدم على مستوى البنية العلمية التكنولوجية مثلاً، أو ما يسمى هذه الأيام بالتنمية البشرية وبخاصة في التعليم والصحة، وفق المقاييس والمؤشرات المعتمدة في أعمال المنظمات الدولية المعنية والتنمية الاقتصادية ممثلة في تطوير الهيكل الإنتاجي ورفع معدلات التشغيل والاستثمار والتجارة، ورفع معدل النمو الاقتصادي العام، وفي النهاية تحسين مستويات المعيشة بالمعايير المعتمدة دوليا والقابلة للمقارنة مع البلدان الأخرى. هناك ايضاً ما كان يمكن تحقيقه أو تعزيزه على صعيد الرفاه، بل على صعيد"التفتح الحيوي"بمفهومه الإنساني الشامل، والتحسن المتنوع لشروط الحياة، للإنسان الفلسطيني في مجتمعه، بدءاً من العائلة إلى الجماعة الكبيرة. بيد أن هذا كله، وغيره كثير، ثمن عظيم دفعه الشعب الفلسطيني معوضا جهدا مفتقدا من سائر أجزاء أمته العربية. ولقاء هذا الثمن استطاع هذا الشعب، القليل العدد والعدة، أن يحقق بانتفاضته الباسلة جملة نتائج مهمة نذكر منها: - بلورة الهوية الفلسطينية، وإبرازها بديلاً موثوقاً، مرفوع الهامة ومرتفع الصدقية، في ظل فشل الرهان على خيار أوسلو، والخيارات المتصلة بالعلاقة مع بعض النظم العربية. - وقف وقطع مسار"الغيبوبة الفلسطينية"- إذا صح هذا التعبير- وبخاصة على الصعيد الاقتصادي. وهي استمرت ردحا طويلا، متمثلة في تشغيل العمالة الفلسطينية في بناء بعض المستعمرات وفي المهن محدودة المهارة ومنخفضة العائد داخل فلسطين 1948، وكذلك في الربط التجاري والمالي والنقدي بل والإنتاجي بين الضفة وغزة من جهة، واقتصاد الكيان الصهيوني من جهة أخرى. وفي المقابل غياب الارتباط العضوي بين الاقتصاد والمجتمع الفلسطيني وبين سائر الاقتصاد والمجتمع العربي، مع علمنا بالقيود التى فرضها الاحتلال في هذا الشأن. - فرض حال من الارتباك، بل والتخبط، على الساحة السياسية الاسرائيلية، والتي أنهاها شارون بخطة الانسحاب الأحادي من غزة. - تبلور بؤرة للعمل العربي التحرري على أرض فلسطين. - بلورة نوع من أنواع العلاقة النضالية بين الشعب الفلسطيني وسائر الأمة العربية، وبخاصة في مصر، وبصفة أخص خلال فترة 2000-2003. ولكن ماذا بعد؟ وها هي الظروف المحيطة بالنضال الفلسطيني تتغير جذريا. فقد فقدت قوة الدفع المسلحة حركيتها العالية، بل وتكاد تنطفئ جذوتها، وها هو الكيان الصهيوني يتمتع بفائض القوة وفيضانها، على إثر الاختلال المبرمج في ميزان القوة الشاملة بينه وبين القوى العربية، بما في ذلك الميزان العسكري، بل خاصة الميزان العسكري. بل أخذ ذلك الكيان يستعرض ميزاته المتولدة من تفوقه النسبي، واحتكاره لبعض جوانبها الرئيسية، في المجال النووي تحديداً. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد شاء التحالف الأميركي- الأوروبي أن يوقف - حتى إشعار آخر - مساعي"التوسط"لاحياء"العملية السلمية"وفق اتفاقية اوسلو وخريطة الطريق. وشاءت المصادفات - أو لعلها الموافقات التاريخية - أن يترافق التوقف في مسار كل من الانتفاضة المسلحة و"العملية السلمية"مع سعي إحدى أهم الحركات الفلسطينية العاملة في المجال العسكري"حماس"إلى الانخراط في العمل السياسي الفلسطيني المحلي، بل وأن تحقق الغالبية في الانتخابات التشريعية، لتجد نفسها وجها لوجه أمام أكبر"ورطة"في تاريخها القصير نسبيا. فكيف يمكن أن تتصرف الحركة الوطنية الفلسطينية؟ تتجلى أمامنا ثلاثة بدائل لمسارات متصورة أو"سيناريوات": البديل الأول هو تخلي"حماس"عن ورطتها، والعودة إلى صفوف الجماهير لقيادة حركة شعبية جديدة في ظروف جديدة، تقوم على المزج بين العصيان المدني ضد الاحتلال اعتصامات وتظاهرات مستمرة على الحواجز وأمام الجدار العنصري والمجاهرة الجماعية بعصيان أوامر السلطات المحتلة وتعطيل حركة الجيش الإسرائيلي على طريقة غاندي ومقاطعة الاحتلال مقاطعة سلبية وبخاصة بالتوقف عن دفع الضرائب المقررة ومقاطعة إيجابية بإقامة مشاريع إنتاجية وخدمية تلبي الاحتياجات الأساسية للسكان، بطرق بسيطة وبمواد محلية وموارد ذاتية- مدعمة عربيا فيما نأمل!. يضاف إلى ذلك أن يتم العمل على فرض صيغ أولية للتكامل الاقتصادي التجاري والاستثماري بين فلسطين والبلدان العربية الأخرى ولاسيما دول الطوق، مصر والأردن وسورية ولبنان. أما البديل الثاني فهو خوض تجربة السلطة كما خاضتها"فتح"من قبل"حماس": تضخم في الأجهزة الأمنية، وتوجيه بنود الصرف من الموازنة العامة على البيروقراطية المدنية والأمنية، مع توسع محتمل في أنشطة المجالس المحلية لمصلحة المجتمع الفلسطيني، حيثما يمكن ذلك. يضاف إلى هذا انخراط في دوامة من المحاولات"السلمية"وفق جدول الأعمال الدولي المهيمن. ولا بأس من السماح بعدد متناثر ومتباعد - قليل الفاعلية - من العمليات ذات الطابع العنفي ضد سلطات الاحتلال أو في الداخل، تتبعها أعمال انتقامية موجعة جدا. فهذا إذن بديل لا يشكل بديلا، إذا صح التعبير. إذ تحل"حماس"محل حركة"فتح"، وكفى الله المؤمنين القتال! والبديل الثالث ، هو أن تقوم"حماس"بما يشبه المستحيل، فتلعب دور السلطة والمقاومة في الوقت نفسه: تحكم، وتمارس العمل المسلح أو تسمح به أو ربما تتغاضى عنه أيضا. ويبدو تحقيق هذا البديل الثالث مستحيلا أو شبه مستحيل. وليس البديل الثاني ببديل حقا، كما قلنا، فلا يبقى أمامنا وأمام"حماس"سوى البديل الأول. فهل تفعلها حماس؟ هل تملك ما يكفي من القسوة على نفسها، ما يجعلها تتخلص من ورطتها، فتترك الحكم لأهل الحكم - وبخاصة في دوائر"فتح"- وتكتفي في"لعبة الحكم"بكشف وتصحيح الفساد المعمم أينما وجد، وتتفرغ من ثم للمساهمة الكبرى في بناء الحركة الشعبية الجديدة: أي العصيان المدني الشامل، والمقاطعة السلبية، والمقاطعة الإيجابية، وبناء البديل المجتمعي الجديد؟ * اكاديمي مصري - معهد التخطيط القومي.