طالما قيل إنه اذا كانت"تيتوس اندرونيكوس"أولى مسرحيات شكسبير، فلحسن الحظ أنها لم تكن الأخيرة، لأنها أكثر أعماله الدرامية دموية وعراء من كل أثر للدراية الجمالية، إن لم نقل أكثرها"وثنية"، خصوصاً أن فضاءها الروماني يشي بالانحطاط على جميع مستوياته: الاحتفال بالخيانة والجريمة والتوسع اللامعقول في التنكيل والتعذيب، ناهيك عن الاغتصاب وأكل لحوم البشر. عملياً، هناك طريقتان لاخراج هذه المسرحية، الاولى مقاربتها وجهاً لوجه واستنباط اطر ابداعية لتحويل الضراوة الهمجية الى مشهدية مقبولة، وذلك ما حاولته اخيراً على مسرح غلوب اللندني لوسي بيلي. والطريقة الثانية تحويلها الى مهزلة كوميدية سوداء ... للمفارقة، ذلك ايضاً ما أرادت لوسي بيلي التلميح اليه، لكن اصابة عصفورين متناقضين بحجر واحد لم تكن سهلة على رغم الجهد المبذول. "في هذا الوادي القحل الكريه الأشجار، حتى في الصيف، نحيلة ذاوية يكسوها الطحلب ويأكلها الزنجار هنا لا تشرق الشمس ابداً ولا شيء ينمو عدا بوم الليل وغراب الويل حين أوصلاني الى هذا الجب المريع قالا لي، هنا في حلكة الليل الدامسة ألف عفريت، وألف ثعبان نافث وعشرة آلاف ضفدع لزج ومثله عدد الزواحف تصدر أصوات الهلع التي ما إن يسمعها الانسان حتى يدب فيه الجنون، او يدهمه الموت الزؤام" الشعر وحده ينقذ هذه المسرحية من المصير الذي تنبأه لها عام 1687 الناقد الانكليزي ادوارد رافنسكروفت حين قال إنها"حفنة قمامة"، علماً أن جمهور القرن السابع عشر كان مولعاً بالمشاهد الدموية وفنون التعذيب كولع هواة أفلام الرعب والعنف المبالغ في عصرنا الراهن، ولذا لاقت المسرحية آنذاك رواجاً شعبياً ونفوراً تقليدياً لدى المثقفين. غير أنها استمرت في مناوشة خيال المخرجين"الطليعيين"وپ"التجريبيين"عبر الحقب. وتقول لوسي بيلي إن حمّامات الدم والخيانات والغدر المجاني بالابرياء اسقاطات واضحة على ما يجري اليوم. الواقع أن لوسي تشير هنا من طرف خفيّ الى"انجازات"الثنائي بوش - بلير على الساحة الدولية، خصوصاً في العراق وافغانستان. إلا أن تلميحها المذكور يلقى آذاناً صماء لدى الجمهور والنقاد معاً. صحيح لدى رؤية فضاء مسرح غلوب مكسواً بالملاءات السود لا بد أن تتداعى الى الذاكرة ملابس النساء العراقيات يتفجعّن يوماً بعد يوم أمام عدسات التلفزة، وصحيح أن التنكيل الجسدي في سجن أبو غريب وغيره من معتقلات الاحتلال، اضافة الى قطع الرؤوس والاطراف على أيدي"المقاومين"، كلها تخفي وراءها صراعات صغيرة وكبيرة على السلطة والمال والنفوذ، بقدر ما تشي بانحطاط شمولي لدى جميع الافرقاء، يطاول احتقار الآخر وتقديم إلغائه على الاعتراف بوجوده، لكن مادة القصة في"تيتوس اندروينكوس"أقرب الى سيرك متواصل التحرك واللهو والمجانية منها الى عمل درامي كلاسيكي، ما يبدد المعاني ويموّه الاهداف ويجعل اللعبة مجرد لغو عبثيّ لا طائل تحته: لدى موت الامبراطور الروماني يختلف إبناه على خلافته فيقرر مجلس الشيوخ تتويج تيتوس الجندي البطل العائد الى روما بعد عشر سنوات من المعارك ضد الغوطيين، منتصراً ومعه ملكة الغوط وثلاثة من ابنائها، أسرى. لكن تيتوس ينأى عن قبول العرش متنازلاً لمصلحة ساتورنينوس بكر الامبراطور الراحل. ونعرف منذ البداية أن تيتوس فقد في المعارك 18 ولداً، ولم يبق لديه سوى ثلاثة، لوسيوس، كوينتوس ومارثيوس. الجريمة الاول يرتكبها هؤلاء اذ يقررون تقديم احد ابناء تامورا، ملكة الغوط الاسيرة، ذبيحة لأوثانهم. في الاثناء يتزوج الامبراطور المنتخب ابنة تيتوس الوحيدة لافينيا، وهذه مغرمة سراً بشقيقه المحبط باسيانوس. لكن حين يؤتى بتامورا وولديها الباقيين للمثول امام ساتورنينوس يقع الامبراطور في حبها من النظرة الاولى. عندئذ يعلن شقيقه عن حبه تجاه لافينيا، ويقرران الهرب معاً ضد مشيئة والدها تيتوس الذي يكلف ابنه البكر موتيوس منعهما. الا أن موتيوس يفضل سعادة اخته على أوامر أبيه فيغضب تيتوس ويقتل ابنه عقاباً على عصيانه. من جهة أخرى الامبراطور غير مهتم بفرار أو مصير لافينيا بل تراه يتوّج تامورا امبراطورة بعدما تزوجها ... لكن تامورا مغرمة سراً بالمغربي هارون، حامل منه، وسرعان ما ستلد طفلاً أسود! ومثلما يحدث في استرسالات ألف ليلة وليلة يتدهور الوضع في روما على ايقاع الانتقامات المتبادلة والمكائد، ويبدأ تيتوس بالهلوسة، ثم يدبّ فيه الجنون حين يتهم الامبراطور ولديه بقتل شقيقه باسيانوس ويسجنهما تمهيداً لمحاكمتهما، ثم يقوم إبنا تامورا باغتصاب ابنته لافينيا وقطع يديها ولسانها ... وهنا تدخل المسرحية فضاءها الأكثر جنوناً، اذ يدعو تيتوس تامورا الى العشاء ويطعمها فطائر محشوة بلحم ولديها، بعدما كان قتلهما وطبخهما على المسرح. تيتوس يقتل تامورا انتقاماً، ثم يقتل ابنته ليمحو عارها... الامبراطور يقتل تيتوس... لوسيوس ابن تيتوس يقتل الامبراطور وينصّب نفسه امبراطوراً ويقتل هارون ويدفنه مكشوفاً للضواري والكواسر، ثم يأمر بعدم اقامة مأتم لتامورا بل برميها في الغابة كما ترمى البهائم النافقة... ربما يتحرّى القارئ في هذه العربدة الدموية تماهياً مع نهر الدم والعبث بقيم الحياة مما يجري في انحاء كثيرة من عالمنا، غير أن الفن الدرامي ليس مجرد رادار يرصد ويعيد توليد الصور والمشاهد، بل هناك مهمة ابداعية تتجاوز تفاصيل الاحداث الى مكنوناتها الزمنية والانسانية والجمالية، ولا يكفي أن نرى تيتوس يقطع يده ليفدي ولديه الأسيرين، أو يحشو اللحم البشري في فطائر معدة من عظام ضحيتيه وهو يهلوس ويلغط، كي يستوعب وعينا مادة الزمن المعيش، خصوصاً أن أبصارنا وبصائرنا ممتلئة حد التخمة بكل ذلك، وبات المطلب الانساني الوحيد اليوم ضوءاً في آخر النفق، لا المزيد من الظلام.