مسرح"الأوديون"الباريسي، أحد أبرز معاقل الفنون المشهديّة الأوروبيّة منذ أيّام موليير، يستقبل اليوم ضيفه العربيّ الأوّل: الفاضل الجعايبي. هنا يفتتح المخرج التونسي المعروف، هذا المساء، مسرحيّته الجديدة"أجساد رهينة"، بعد أربعين عاماً بالتمام على معركة شهيرة اشتعلت في المكان نفسه اثر تقديم نص جان جينيه"السواتر"الذي حرّك المبضع آنذاك في الجراح الجماعيّة لبلد طالع من كابوس حرب الجزائر. والمبنى العريق الذي تأسس عام 1782، وأعيد افتتاحه أخيراً بعد عمليّات ترميم استغرقت سنتين، تعاقب عليه أكبر مخرجي القرن العشرين، من الفرنسي جان لوي بارو إلى الايطالي جورجيو شترلر، وصولاً إلى الروسي أناتولي فاسيلييف والسويسري كريستوف مارتالر قبل أسابيع... وها هو يختتم موسمه الحالي بمسرحيّة إشكاليّة، يؤدّيها ممثلون عرب، بلغتهم، تتناول قضايا الارهاب والتطّرف والفساد، وتلامس عدداً من المحظورات السياسيّة بلغة فنيّة ناضجة وخاصة هي، بشكل عام، جواز عبور المسرح الطليعي التونسي إلى الجمهور الغربي. ومن المتوقّع أن تثير مسرحيّة الجعايبي التي شارك في تأليفها مع رفيقة دربه الممثلة جليلة بكّار، سجالاً واسعاً يتجاوز حدود"الحيّ اللاتيني"إلى عواصم عربيّة عدّة، أولاها تونس. فالمسرحي المشاكس يعرّي مجتمعه ويسدد إصبع الاتهام إلى نخب بلاده والقيّمين على أوضاعها، محمّلاً"الجميع مسؤولية هذا"الانحطاط"العبثي الذي يحوّل راهننا السياسي والحياتي والفكري براكين متفجّرة"، بحسب تصريح إلى"الحياة". كما يخاطب العمل المجتمع الفرنسي من دون ممالأة ومحاباة، معتبراً أنه"شريك أساسي في دوّامة العنف التي تلفّ المقلب الآخر من المتوسّط". تبدأ مسرحية"أجساد رهينة"من حادثة مفجعة: أستاذة فيزياء محجّبة تفجّر نفسها، في ملعب مدرستها، وتحوّل"واحة الاستقرار والأمان المزدهرة والهانئة"بحسب الملصقات السياحيّة إلى بؤرة من القلق، تضجّ بمناخات كابوسية من النوع الذي يتقن الفاضل الجعايبي مسرحته بمهارة. أما الشرطة فلن تجد من تشتبه به سوى صديقة"الانتحاريّة"وشريكتها في المسكن، فتعتقلها على ذمّة التحقيق. وهذه الأخيرة أغراها الخطاب الأصولي خلال دراستها في فرنسا، مع انها ابنة مناضلين يساريين من جيل سبعينات القرن الماضي في تونس. بعد اعتقالها، ستجري أمّها السبعينيّة تحقيقاً مختلفاً، على طريقتها، لفهم ما جرى فعلاً. ومن خلال ذلك التحقيق تنكشف كواليس مجتمع مغلق ومأزوم، بصراعاته وتناقضاته وتفتّت شرائحه الاجتماعيّة وافتقاد جيله الجديد للقيم والمثل. والفاضل الجعايبي غنيّ عن التعريف في العالم العربي. اذ أثارت أعماله الاهتمام منذ عقدين، وشاهدها جمهور واسع في العالم العربي وأوروبا. لكنها المرّة الأولى التي يدخل فيها مدينة موليير من بابها العريض. ويتميّز أسلوبه في الاخراج وادارة الممثّل، باعتماد العنف المؤسلب وتقنيّات مسرح القسوة، للغوص في جراح الجماعة والمواضع المؤلمة من ضمير الانسان العربي المعاصر. وكان سبق له أن تطرّق إلى الإرهاب والأصوليّة والعنف في أعمال مرجعيّة من أبرزها"فاميليا"1993، و"عشّاق المقهى المهجور"1995، و"جنون"2002. يأتي الجعايبي إلى باريس محاطاً بفريقه المعتاد: قيس رستم سينوغرافيا، نوال إسكندراني تصميم الرقصات، الحبيب بلهادي إدارة انتاج. وتشارك في العمل نخبة من ممثلي المسرح التونسي من مختلف الأجيال، تضمّ إلى جانب بكّار نفسها، فاطمة بنسعيدان، جمال مداني، المعزّ مرابط، وفا طبوبي، لبنة مليكة، رياض حمدي، خالد بوزيد. وربّما جاز اعتبار الجعايبي"إرهابياً"بالمعنى السلمي والمجازي، إذ انّه ينقل العنف السياسي والاجتماعي الذي يعيشه العالم العربي إلى قلب المسرح الفرنسي.