لا دور أكثر أهمية من دور الذاكرة في بناء"دنيا"- رواية علوية صبح - التي تستدعي الزمن الماضي بوصفه مرآة الزمن الحاضر التي تومئ إلى الزمن المستقبل، فالذاكرة مبدأ الحركة في الحكي الذي لا يتوقف إلا بعد تكشف دلالاته العامة والخاصة، في مدى القصدية السردية التي تتولى تثبيت ما حدث أمام وعي السارد والمسرود عليه، وذلك بما يفرض على الاثنين معاً استيعاب الدلالات التي تنطوي عليها تجليات الماضي، والاحتمالات التي لا يزال يشير إليها في الحاضر المتحرك صوب المستقبل، فالذاكرة - من هذا المنظور - المعادل الموضوعي لفعل الوعي الذي ينقسم على نفسه، فيغدو ذاتاً وموضوعاً، ذاتاً متأملة فاحصة مدققة، وموضوعاً يغدو محلاً للمساءلة والمراجعة التي تبحث عن المعنى والمغزى بحثها عن الأسباب التي أدّت إلى النتائج. ولذلك تغدو الذاكرة سلاحاً للمقاومة المستمرة ما ظل الشر نفسه متأصلاً متواصلاً، ولا تفارق معنى الترياق المضاد الذي يحول دون تكرار المأساة أو الكارثة التي يحفرها الوعي على صفحته كي لا ينساها، وكي لا يغفر لمرتكبيها جرائمهم التي يمكن أن يعاودوها لو تغافلت الذات الجمعية أو الفردية. ولا يقل هذا الجانب السلبي أهمية عن الجانب الإيجابي، حيث تؤدي الذاكرة دور الحارس الأمين على إنجازات الماضي العظيمة، كي تضع معجزات السلف أمام أعين الخلف، مذكرة إياهم بها، ودافعة لهم على استلهامها أو الإضافة إليها. ولكن ذاكرة"دنيا"لا تعمل في هذا الاتجاه الأخير، فهي ذاكرة روّعت الحرب الأهلية وعيها الفردي والجمعي بكوارثها التي لم ترحم أحداً، وأحالت الوطن كله إلى مقبرة مفتوحة، متوحشة، لا تكف عن طلب المزيد من الضحايا، وانقلبت بالإنسان إلى وحش ينهش ضحاياه بعد أن يشل وعيهم، تماماً كما يفعل"الضبع"الذي هو الرمز الاستهلالي المتكرر. ولذلك تتوتر"دنيا"ما بين الوعي الفردي للمؤلفة المضمرة فيها والوعي الجمعي للوطن الذي تسعى إلى استرجاع أبشع لحظاته، باحثة عن الجذور والمقدمات التي انتهت إلى الوضع الكارثي الذي تضعه الرواية موضع المساءلة. وزمن الاسترجاع - فضلاً عن صفاته البندولية - زمن دائري كما سبقت الإشارة، أولاً لأنه يبدأ من النقطة التي يعود إليها، ما بين متناظرات ومتوازيات، تتشكل من علاقات تماثلاتها وتقابلاتها حركة الرواية ما بين البداية التي تشبه الحكاية الإطار التي تنطوي على دور الحكي في قهر الموت والتغلب على الخوف منه، وحضور الراوية التي لا تفتش عن نفسها في وجوه الأخريات فحسب، وإنما في مناماتهم وأحلامهم وكوابيسهم التي هي كوابيسها بأكثر من معنى. ويمضي الحكي في ما يشبه الدائرة التي تعود إلى ما ابتدأت منه، ولكن بعد تراكم الدلالات التي يتكشف بها البعد الغسقي للمخيلة التي تنطوي عليها الرواية، ولا تفارقها ذاكرة الشخصيات، سواء في بعدها الجمعي العام أو الخاص، فتكرر النهاية مبدأ البداية الذي هو معاد الحكي، لكن بعد أن استوعبه وعي المحكي والمحكي عليهم، في مدى الإمكان المستمر لعودة العالم الكابوسي الذي لا يمنع عودته إلا تحديه بالحكي، ومقاومته بالذاكرة التي لا تنسى، ولا تتوقف عن منازلة الخوف الذي يبلع الملامح، ويأكل النظرات، ويلتهم العظام كما يلتهمها الضبع. ويحدث ذلك في سياق متدافع من السرد الذي يؤكد أن الخوف هو الحكاية، ومن دونه لا نهاية لحكاياتنا، وذلك في اعتراف دنيا الكاتبة التي أسقطت عنها جميع أقنعتها، موضحة أنها تخترع حكاياتها وترويها لتهزم خوفها، مثل أهل قريتها في حكاياتهم عن الخوف من الضبع، ومثلنا في حكايتنا عن ما يهدد حضورنا، فالرواية ليست عن دنيا الراوية وإنما عن دنيا المروي عليهم في الوقت نفسه. وما بين الخوف الأول والخوف الثاني، يتحرك زمن الاسترجاع الذي هو زمن المنامات في هذا السياق، وذلك بما يصل بين المتشابهات والمتناقضات في كل لحظة، خلال وعي غسقي يتذبذب ما بين الوهم والحقيقة، ويصل بينهما في منطقة تماس، تغدو يقظة تشبه النوم، أو نوماً يشبه اليقظة، فلا تدري الشخصيات إن كان ما حدث لها مناماً أو حقيقة، فتظل في منزلة بين المنزلتين. ولذلك ترى دنيا نفسها - في ما يرى النائم - أنها تتأبط جدار ماء تكتب عليه حكايتها، كي لا تضيع منها الحكاية فتفقدها، ولا تفهم مغزاها، فالكتابة ليست قيد المعرفة التي تنتجها الذاكرة في سياق الوعي الغسقي فحسب، ولكنها - إضافة إلى ذلك - الفعل الملتبس الذي يبدو كما لو كان مكتوباً على جدار مائي في ما يشبه الحلم، أو في ما يرى النائم، بلا فارق. ولا تتوقف الشخصيات الرئيسة في الرواية عن التعبير عن هذه اللحظة الغسقية من الوعي التي يتشاركن فيها، فتؤكد دنيا معرفتها أن الوهم جزء من الدنيا، ولكن أن تكتشف أن الدنيا جزء من الوهم، تنتهي حين تنتهي الأوهام، فهذا ما يخيفها. وتؤكد شبيهتها فريال اختلاط الأمور عليها"كما صار يختلط منامي بدنياي". ويتكرر المعنى نفسه في تقلب الزمن الاسترجاعي للأجيال، ابتداء من الجدة الأولى في حكايتها مع الضبع، تلك الحكاية التي لا تدري الجدة إن كان ما حدث معها فيها مناماً أو حقيقة. لكن المؤكد أنها - بين المنام واليقظة - شعرت بأنفاس الضبع وحضوره الأليف، لا المخيف. وأتصور أن الوعي بهذا الوضع الغسقي الذي يتوتر فيه زمن الاسترجاع في حركته الدائرية المتوثبة حول مبدأها الذي هو معادها، يدفعنا إلى إعادة النظر في الحضور الظاهري للشخصيات الرئيسة في الرواية، دنيا والمؤلفة وفريال. أعني الحضور الذي يؤكد جوهره أنها شخصيات تدني بها علاقاتها الملتبسة، وأوضاعها في مدى الوعي الغسقي، إلى حال من الاتحاد، فتغدو كل واحدة منها مرآة لدنيا وموازياً رمزياً لها في حضورها الموزع على غيرها. أما الكاتبة فلا نراها إلا في لوحة لا تخلو من شبه بصورة دوريان غراي في رواية أوسكار وايلد 1854- 1900 الشهيرة التي كتبها سنة 1981 مبرزاً العلاقة بين الكائن وضميره أو وعيه الذي يغدو صورة له في مدى فعاله. ومصداق ذلك ما تقوله دنيا عن الكاتبة"لكأن ذاكرتي ذاكرتها"ص6، أو ما تقوله في موضع ثان:"غنيت بصمت غناء سحرياً حزيناً، تصاعد من روحي مثل ذلك الغناء الذي كان يطلع من أعماق الكاتبة حين تنهي رواية تكتبها"ص 398، وكذلك ما تقوله في موضع ثالث:"سألت الكاتبة في المنام ما إذا كان صراخي الذي تسمعه في الليل أم صراخها... الشيء ذاته فعلته فريال في المنام... وكل بطلات الرواية"ص 69 - 79. وغير بعيد عن ذلك ما تقوله دنيا رابعاً:"سألت نفسي، هل الكاتبة موجودة حقا أم أنني أحلم في المنام أني أروي وأكتب حكايتي؟". أو ما تقوله أخيراً:"رحت أشكك بوجود الكاتبة وأحسها وهماً بعدما صارت مناماتنا حكاياتها". ولا تفترق فريال في علاقتها الملتبسة بالمؤلفة عن علاقتها بدنيا، حين تقول:"تطلعت إلى دنيا... فالتبس عليّ الأمر بين عينيها وعيني الكاتبة. وظللت أجهل السر"ص 79. أو تقول في موضع ثان"كأن منامي ومنام دنيا كان واحداً"ص 283. أو تقول أخيراً:"يختلط منامي بدنياي"ص293. والفاصل بين الشخصيات الثلاث، في العلاقات الملتبسة للسرد في لحظاته الغسقية، أشبه بالفارق بين زجاج شفاف لا يخفي ما وراءه، أو مرايا متعددة، تعكس موضوعاً واحداً من زوايا مختلفة، فالشخصيات الثلاث وغيرها - في ما تصفهم دنيا -"رواةه وأبطال حكاية الضبع". وتشبيه العلاقة بين دنيا والكاتبة بعلاقة البطل بصورته في رواية"دوريان غراي"له ما يدعمه في السياق الذي لا نرى فيه من الكاتبة سوى صورتها الشاحبة كعلامات الموت التي تحيط بدنيا وتتخلل حضورها، خصوصاً في اللحظات التي تتخيل فيها الكاتبة وهما خالصاً، ولا تتخيلها جسداً، بل تتخيلها حضوراً شفافاً، كلما كتبت عن دنيا وصديقاتها: انمحت، في حين أن، دنيا لو كتبت عن صديقاتها، صار لهن أجساد وملامح وأسماء وحكايات، فالكاتبة هي المرآة التي ترى دنيا على صفحتها كل ما تفكر به وتحسه. وهو ما تؤكده كلماتها التي تقول:"إنني أنا الكاتبة التي ظننتها شبحاً". وهي كلمات لا تنطبق على الكاتبة وحدها، فيما تؤدي من وظيفة المعادل الرمزي، وإنما تنطبق على فريال التي تؤدي الوظيفة نفسها في علاقة الحكي بالحاكي. كأنها"جلد شفاف نرى من خلاله كل ما نفكر به". ولا أظنني في حاجة إلى الإشارة إلى انطواء هذه العلاقة على معنى التحرر والانعتاق من النسيان الذي يعني المحو، ومن الخوف الناتج عن القمع الذي يربك وعينا، حين تشتد وطأته الوحشية، فلا يمايز الوعي بين الوهم والحقيقة، أو بين الخيال والواقع الذي يبدو كابوساً مريعاً، فتغدو فصول حياتنا وهماً، ولا شيء يبقى فيها سوى بياض النسيان الذي نقترب منه كلما تقدمنا في العمر، أو كلما ثقلت علينا وطأة القمع بما يجعلنا لا نصدق حدوثه. ويعنى ذلك أن الخوف هو الحكاية كما تقول دنيا، ومن دونه لا دنيا لحكاياتنا، ولا نجاة منه إلا إذا ذهبنا إلى الموت، وواجهناه بالحكي الذي يقهره في عالم المقتولين القتلة. ولا تخرج الدراما السردية التي تؤديها رواية"دنيا"عن هذا المبدأ، خصوصاً في اللحظات الغسقية التي تخلط الوهم بالحقيقة، في عالم المقتولين القتلة، العالم الذي يجعل الخوف هو اللعنة المتسلطة على الأدمغة المحاصرة بما هو محكوم عليها به، حيث كل واحد يهرب من الخوف إلى حكايته لينتصر عليه، كما لو كان يهرب من الضبع كي لا يبول عليه ويضبعه، ثم يبحث في حياته عمن يبول هو عليه ويضبعه. هكذا"نشم روائحنا وكأننا في غابة: نشم ضعف الآخرين فنبول عليهم، والكل يحاول أن يبول على الكل"في العالم المملوء قمعاً الذي يتخلله الخوف من القمع كما تتخلل المبيدات الهواء المهلك في عالم من المقتولين القتلة. والترياق الوحيد لهذا الهواء المسموم هو الحكي، فالناس نيام فإذا حكوا انتبهوا، والدنيا كابوس لا ينتهي ولا نفيق منه إلا حين نحكيه ونتذكره، فننفي صفة المقتولين القتلة عن وجودنا، هكذا، تتكشف أسرار اللعبة السردية في"دنيا". ويصل الوعي إلى امتلائه بأن يدركها، ويدرك من خلالها الأسباب والوقائع التي أدت إلى ما انتهت إليه الذات الفردية والجماعية من مرض وجنون لا برء منه، ولا شفاء، إلا بأن تستعيد الذاكرة للوعي - كما يحدث في التحليل النفسي - كل المكبوتات البشعة التي يخفيها الوعي، في الطبقات السفلي من اللاوعي، مضطراً إلى مسايرة مبدأ الواقع، أو خوفاً من رقابته المباشرة أو حتى غير المباشرة. هكذا تؤدي الذاكرة دورها في الزمن الاسترجاعي المتقلب ما بين حركته البندولية وحركته الدائرية في رواية"دنيا"التي هي الاستمرار الصاعد للرواية السابق"مريم الحكايا"في سياق الحكي الذي تحكيه"دنيا"سواء من حيث هي جمع بصيغة المفرد، أو مفرد بصيغة الجمع - حيث تغوص حكاياها في قرارة الوعي بالتذكر، مقتحمة طبقات اللاوعي بواسطة المنامات والأحلام التي يتكشف بها - خلال لحظات السرد الغسقية - المقموع والممنوع والمسكوت عنه، كما تتكشف جذور"العقد"النفسية الغائرة بالتنويم المغناطسي الذي يستعين به المحلل النفسي لمراوغة رقابة الوعي، كشفا عن طبقات اللاوعي التي تنطوي على الأسباب التي أدّت بالمريض النفسي إلى ما هو عليه. ويترتب على ذلك تحول المنامات التي لا فارق جذرياً بينها والأحلام. ولا فارق بينهما والكوابيس إلا في الدرجة إلى لحمة السرد وسداه، في"نول"الذاكرة، التي تخلط أحلام الفرد بأحلام الجماعة، فاتحة المغلق من أبواب المخزون الشعبي، والمغلق من أبواب اللاوعي الفردي في آن، فيتوثب السرد بحيوية توازياته الرمزية، ويتصيد المشاهد الدالة، استعادة واسترجاعاً، مراقبة ورصداً، تماماً كما تتصيد العين الباصرة لدنيا مشاهد الحياة المحيطة بها ومدركاتها، مسلطة بؤرة الرؤية - في حكي ما تحدِّق فيه - على ما يوازي الدلالات المتكررة في المشاهد الدموية التي لا يكف التلفزيون وواقع الحياة اليومية عن إنتاجها وإعادة إنتاجها، ومن ثم نقلها إلى كل مكان، فيصل بين ما حدث ويحدث داخل لبنان وما يحدث خارجه من الدمار الذي تتجاور أسبابه أو تتشابه، فيغدو لبنان جزءاً دالاً على الكل، في التابوت الممتد من المحيط إلى الخليج، وتصبح المقبرة اللبنانية المفتوحة بحجم الوطن بعض المقبرة التي تمتد عبر العواصم العربية، ناشرة الموت والجنون في كل مكان. والبداية هي الدائرة الصغرى لمأساة دنيا في علاقتها بمالك، ولكن هذه الدائرة الصغرى تغدو بعض الدائرة التي تصل بينها وصديقاتها الأقنعة وبنات جنسها في التاريخ النسائي للمرأة التي لا تزال تعاني القمع الذكوري من دون أن تتحرر منه تماماً، أو تتخلص منه إلى الأبد. وتدخل هذه الدائرة، بدورها، في الدائرة الكبيرة بحجم الوطن، حيث يعاني الإناث والذكور من القمع الوحشي للحرب التي لا تنتهي بإعلان نهايتها، وتظل ممتدة في آثارها التي تظل نتيجة لها ومواصلة لحضورها. وأخيراً، تدخل هذه الدائرة اللبنانية الكبيرة ضمن الدائرة الكبرى التي نراها في المذابح والمقابر الجماعية العربية، ونسمع عنها أكثر من مرة، ومن خلال أكثر من شخصية، وتتأكد من خلال ما تعرضه شاشة التلفاز على عيني دنيا وسمعها، فترى القتل وجنون العنف على امتداد العواصم العربية التي تتفتت في وعي دنيا التي ترى المأساة الكارثية في كل مكان، ابتداء من الغرفة التي تجمعها بزوجها مالك المشلول الذي تكرهه، والذي يلتهمها، على رغم شلله، كما يلتهم الضبع ضحاياه، مروراً بالوطن الذي تتكرر على صفحات الرواية بشاعة العنف الوحشي الذي عاناه في الحرب، ولا تزال آثاره ممتدة متواصلة، وانتهاء بالمذابح والقبور الجماعية التي تقع في هذا البلد العربي أو ذاك، في العالم المملوء أخطاء، العالم الذي يبدو، في عينيّ دنيا التي ترقب كوارثه، في إحدى رؤاها الكابوسية، كما لو أن مصارينه وأحشاءه مدلوقة في غرفتها، حيث تطغى صور السجون المخيفة في التلفاز، منعكسة على شاشة عينيها، فتشعر أن المدن اختلطت ببعضها: الأموات بالأحياء، المنام باليقظة، باطن الأرض بسطحها، والمقابر الجماعية تحت قشرة الأرض العربية كأنها امتدّت لتغدو مدناً متداخلة للموت، فتعود إلى ذهنها المقابر الجماعية في الحرب اللبنانية، وتتطلع إلى ساقي مالك، فتراهما قد صارتا في القبر، وأن جسده كله صار فيه، بل تغدو أرجل العالم العربي كلها في القبر نفسه، فتفزع من رؤيا النهاية الأبوكالبسية apocalyptic، كما تفزع وهي تنظف بالشاش المعقم والمطهرات تقرحات جسد مالك التي تنظر إلى بقعها، في رؤيتها الكابوسية، كما لو كانت تنظر إلى بشر وحجر، بلاد وقبور وزنازين وأدوات وجثث ملفوفة بالأعلام في باطن الأرض، وبشر ملفوفين بالصمت على ظهرها، وأجساد فوقها أجساد ضاعت منها عظامها، وتحتها خرق وألبسة. هكذا، رأت أوطاناً نائمة بتقرحاتها، وبشرا ينبشون بأجسادهم ليعثروا على قبورهم، فأمسكت رأسها بيديها، ثم وضعتها على فمها كي لا تصرخ في وجه مالك. والمسافة بين هذه الرؤيا - الدينونوية الأبوكالبسية للنهاية في هذا السياق - ورؤى الأحلام والمنامات هي المسافة نفسها التي يعيد فيها الخيال الروائي تركيب الواقع، مستجيباً إلى شروطه ومتحدياً إياها، وهي المسافة التي تتدرج نغماتها المأسوية في الصعود، ابتداء من أولى درجات السلم الذي يجمع بواسطة الذاكرة ما بين المنامات والأحلام، عبر درجات وعي غسقي، يختلط فيه الخيال بالحقيقة، أو يغدو بها الوهم تعويضاً عن الواقع وفراراً منه، إلى أن نصل إلى الدرجات العليا المقرونة بتكاثف الخوف والرعب، فتغدو الأحلام كالمنامات كابوساً مخيفاً حول الواقع وعنه، كأنه رؤيا الدينونة، ولكن من دون أن يفقد الكابوس - قط - صلته بالذاكرة التي لا تتخلص من أوجاع الواقع، أو تبرئ الوعي من أمراضه وجنونه، إلا بالغوص عميقاً في قرارة القرار من قيح الجرح المفتوح بامتداد الوطن والأوطان العربية كلها.