تؤكد دنيا - بطلة رواية علوية صبح المسماة باسمها - أنها تحكي لتهزم الخوف والمحو، تماماً مثل عمها عبدالله الذي كان يعشق الدنيا ويقهر خوفه من الموت بحكاياته التي لم تتوقف إلا بموته. وتبدو الحكاية قرينة الحياة التي تقهر الموت في هذا السياق، وقرينة التجسد الذي يستعيد الموتى كي يبعث فيهم الحياة، مؤكداً حضورهم في الوجود الذي لا ينقطع بموتهم ما ظلت حكاياتهم مستمرة. هذا البعد الدلالي الذي يتحول فيه فعل الحكي إلى فعل من أفعال المقاومة بامتياز هو ما يصل بين"دنيا"وأمها الكبرى"شهرزاد"التي كان القص عندها وسيلة لاستمرار الحياة، ومقاومة للموت المشرع في سيف"مسرور"الجاهز لقطع الرقاب، ومواجهة للعنف القمعي الذي ظل يمارسه"شهريار"على المرأة، إلى أن تمكنت الحاكية الكبرى من ترويضه وتهذيبه بالحكي الذي نقله من حال إلى حال نقيض. وكانت شهرزاد - كما تصفها الليالي - أديبة قرأت ودرت، وجمعت علوم الأوائل والأواخر، فوضعت قدرتها المعرفية موضع السحر الذي مارسته على شهريار، فنقلته من صورة السفاح الذي يقتل كل يوم امرأة إلى صورة الإنسان المتشوق الى المزيد من المعرفة، والمرتحل على أجنحة الحكي إلى عوالم إنسانية لم يكن يدري عنها شيئاً من قبل، أو يعرف غنى ما فيها من معارف تظل في حاجة إلى الكشف. هكذا، أنقذت شهرزاد نفسها، كما أنقذت بنات جنسها، وقضت على الوحش المتعطش الى سفك المزيد من الدماء، القابع في أعماق شهريار الذي ظل يمارس عنف القتل يومياً، مدفوعاً بغريزة الدم التي استبدلت بها شهرزاد رغبة المعرفة التي لا تكف عن النماء. وپ"دنيا"هي"شهرزاد"عصرية من هذا المنظور، فقد ورثت عن جدتها - لأمها - سعدية حكاية الضبع التي لم يروها أحد غيرها، بعدما جعلها الضبع البطلة التي حلمت أن تكونها، لتنتصر على خوفها بالحكاية. والضبع هو شبيه عصري لشهريار الوحش القديم، لكنه يتبدى في تجليات إنسانية كثيرة، متجسداً في ذكور ينطوون على رغبة التدمير نفسها في علاقاتهم بالمرأة، ابتداء من"مالك"زوج دنيا التي تتخيله - أكثر من مرة - الضبع الذي يلتهم عظامها وينهش لحمها على رغم شلله. ولكن الفارق - الأول - بين"دنيا"المعاصرة وپ"شهرزاد"القديمة أن الأولى لا تنجح في ما نجحت فيه الثانية، فتظل مهزومة مثل - صديقاتها - في مواجهة التجليات الذكورية للضبع نفسه، فيتشابه مصيرها ومصير صديقاتها، ويصلن إلى النهايات نفسها، مروراً بأحوال متكررة من الخديعة والخيانة والإحباط والافتراس المعنوي الموازي للافتراس المادي. ولذلك لا تتمتع دنيا، ولا صديقاتها المماثلات لها بموهبة الضحك التي كانت تتمتع بها عمتها سمية التي كانت تنتصر على الموت الذي تخافه بالضحك، مؤكدة أنها بقدر خوفها من الموت تواصل الضحك عليه حتى تغلبه بالضحكة المستخفة به، وتغلب خوفها منه في الوقت نفسه. وظلت ضحكتها تفرقع بما يكسر جهامة الموت التي تتراص كالجدران الزجاجية الفاصلة بين المعزّين والمعزيات في سرادقات العزاء. والفارق الثاني هو أن شهرزاد القديمة تتوجه بالحكي إلى شهريار مباشرة، فتخرجه - بسحر الحكي - من صورته الحيوانية إلى صورته الإنسية. أما"دنيا"المعاصرة وقريناتها فيتوجهن بالحكي إلى أنفسهن، وإلينا، بصفتنا المروي عليهم، مستعينات بالحكي على مواجهة واقعهن، جاعلات منه سلاح مقاومة لهن وللمحكي عليهم في آن. ولذلك لا يتوقف الحكي في عالم دنيا، ويتشارك فيه الجميع، خصوصاً ضحايا القمع، وذلك إلى الدرجة التي تجعل من كل إشارة إلى"الكاتبة"أو إلى أوراق الحكي المكتوبة - في بعض تجليات القص الشارح Metafiction - إشارة مضمرة إلى القارئ المحتمل الذي تتوجه إليه الأوراق، إعلاناً عن تواصل رغبة المقاومة التي تظل شخصيات"دنيا"منطويات عليها، سواء في جلسات حكيهن الجماعي، أو حالات حكيهن الفردي. وهو الحكي الذي يبقي على توقد معنى المقاومة، خصوصاً حين يقترن فعل الحكي بفعل الكتابة الذي يصل ما بين دنيا والكاتبة، في المدى الذي يمايز الكتابة بصفة الديمومة التي تتأبَّى على النسيان، بالقياس إلى الحكي الشفاهي الذي لا يتمتع بالصفة نفسها. ولا أعرف هل مصادفة أن يكون اسم دنيا هو نفسه اسم أخت شهرزاد، أعني"دنيازاد"التي تناصر أختها، وتدعمها، وتحمل الكثير من صفاتها. وپ"شهرزاد"اسم مركب يدل - في أصله الفارسي - على"ابنة المدينة"كما يدل اسم"دنيازاد"على ابنة الدنيا، والعلاقة التي تصل بين الاثنتين في سرديات الليالي هي العلاقة بين البطل شهرزاد والبطل المساعد دنيازاد ابتداء من الحكاية الإطار. وربما كان اختيار علوية اسم"دنيا"هو نوع من رد الاعتبار إلى البطل المساعد، ونقله من الهامش إلى المركز، والتحول من صيغة الراوية الواحدة التي لا شريك لها في الحكي إلى صيغة الراويتين اللتين تتبادلان الحكي، حتى لو اختلف حجم المحكي ما بين الطرفين، وذلك في السياق الذي تترجع فيه، بفاعلية التناص، مدلولات التضاد التي تباعد بين الحضور الحي للدنيا في مقابل الحضور العدمي للموت، ومبدأ الرغبة المتفجرة بالعافية في مقابل مبدأ الواقع المحاصر بالعنف والجنون. ولذلك نجد"دنيا"لا تؤدي دور الحاكية الوحيدة التي لا شريك لها، كما تفعل شهرزاد القديمة، وإنما تشرك معها فريال التي تتولى سرد فصلين على الأقل، وذلك في الدلالة التي تنقل الحكي من صيغة الإفراد إلى صيغة التثنية التي تعارض الصيغة القديمة، وتضيف إليها بعداً جديداً، لكن بما لا يقضي على مبدأ الثنائية الذي يجمع - في مجلاه الجديد - بين"دنيا"التي تتولى معظم الحكي وفريال التي تتولى أقله. ويعني ذلك أن"دنيا"تستنسخ اسم سميتها القديمة، وتستعيد بإيمانها بقدرة الحكي شبيهتها الأولى التي هي أختها، سواء في قرابة التسمية، أو قرابة الأداء الوظيفي للحكي، خصوصاً في الدائرة التي تدني بالمشبه دنيا والمشبه به شهرزاد إلى حال من الاتحاد الذي يجوز معه إحلال كل طرف من الثنائية محل نظيره على مستوى الوظيفة. وكما كانت"الشفاهية"هي الأصل في حكايات شهرزاد القديمة، تلك التي لم تكتسب صفاتها"الكتابية"إلا بعد اكتمالها في الوعي الثقافي، ظلت"الشفاهية"نفسها، أو ما يقرب منها، عنصراً تكوينياً أساسياً من عناصر الحكي في"دنيا". ولذلك ينطلق الحوار بالعامية اللبنانية التي لا تخلو من ملامح جنوبية، ويتدفق الحكي في مجالسه بعامية توازي إيقاعه المتسارع وحيويته المتدافعة. وهى صفة قد تثير حنق الذين لا يعرفون العامية اللبنانية، خصوصاً حين ينهمر الحكي على القراء - المرويّ عليهم - بعدد متكاثر من الكلمات والصفات والتراكيب التي قد لا يعرفونها، لكنهم - مع بعض الصبر والتسامح - يمكن أن يستنتجوا المعاني من السياقات والمواقف التي تهيمن عليها العامية. وقد يدركون - مثلما أدركت - أن بعض مفردات العامية مشحونة بدلالات ضمنية ومصاحبات دلالية لا تؤديها مقابلاتها الممكنة في الفصحى. ولذلك تظل"الشفاهية - من حيث هي ملمح أساس - عنصراً تكوينياً مهماً في بنية الحكي في"دنيا"، خصوصاً حين يلامس الحكي، أو يجسّد، أشكالاً من الوعي الذي يمتح الحكي من المخزون الشعبي للذاكرة الجمعية، فيصل الواقع بالوهم، والتاريخ بالأسطورة، والخرافة بالحقيقة، منطوياً على خصائص القص الشعبي بخياله المنطلق الذي لا يعرف الحدود الفاصلة بين العوالم، ويمتلك قدرة القفز على الحواجز الزمنية التي تختلط في تداعيات الحكي التي يمكن أن تجمع بين الزمن الماضي والزمن المستقبل في الحاضر، أو تتنقل ما بين الأزمنة، في لحظات التدفق الاسترجاعي الذي يتقافز ما بين الأزمنة والأمكنة بحرية لا يعرفها منطق الواقع أو الحياة العملية. هكذا تظهر الجنيات التي تصيب من يراها بالجنون كما في حال حسونة، أو"تهشل"الجدة سعدية في البراري، فتقابل الضبع الذي تحس بأنفاسه الحنونة على وجهها، وترتاح إلى ملمسه الناعم ورائحة جلده التي كانت أحلى من رائحة رجلي فاضل زوجها الذي مارس عليها قمعه الوحشي. ويمد لها الضبع لسانه، وينخ بجسده أمامها، خافضاً رأسه كي تعتليه، فتستقر على ظهره بالمقلوب، وتمضي به إلى القرية التي صعقت بمرآها. وقس على ذلك وحيد الذي حاول أن يفهم أباه قصة الضبع الأول الذي أكله في حياته السابقة، والضبع الثاني الذي أصابه بالجنون في شخص أبيه، أو فريدة التي تراها دنيا - في المنام - تحلم بمناماتها في الجيل السابق، وتحكي للكاتبة حكايتها في ذلك الجيل، شأنها في ذلك شأن الجارة التي تزوجت نديماً في جيلها السابق أيام الأتراك، وتزوجته ثانية بعد موته، عندما عاد في أواخر التسعينات. وأضف إلى ذلك الجارات اللائي يحكين حكايات أحلامهن المتنقلة ما بين الأجيال الماضية والحاضرة، والمتطلعة إلى الجيل الآتي الذي يمكن أن يخلصهن من قيود وعذاب وخوف الحاضر المسقط على الماضي والمستقبل. ولا تختلف آليات"الحلم"أو"المنام"عن آليات الحكي الشعبي بخصائصه المائزة، ولا فارق جذرياً بين"الأحلام"وپ"المنامات"في هذا السياق، خصوصاً حين تنداح الحدود المنطقية بين دوائر المكان والزمان، وحتى الشخصيات، فيختفي التشبيه لتحل محله الاستعارة التي تتبادل الأوضاع والشخصيات والمكان، بعيداً من قيود المنطق أو التاريخ الرسمي، ولكن من غير أن يتوقف تفاعل علاقات الحضور وعلاقات الغياب. ويوازي مراح الخيال، في هذا البعد، اندياح الحواجز بين عوالم الموتى وعوالم الأحياء، حيث يعود الغائبون إلى دائرة الحضور، أو يرجع الموتى إلى أحبائهم الذين لا يفقدون الإحساس بحضورهم، أو حتى ممارسة الجنس معهم بعد موتهم، وذلك في سياقات عجائبية، تبدأ بالعمة سمية التي أقنعت أهل القرية بحملها من زوجها الميت، ولا تنتهي بدلال زوجة الأخ التي رحل زوجها عن الدنيا غصباً عنها وعنه، فيعود إليها بعد أسبوع من موته، وتراه كل يوم بزي من أزيائه، وظل سبع سنوات، بعد موته، لا يدعها يوماً تشرب القهوة، أو تنام، وحدها، ويمتنع عن زيارتها حين تحرمه من جسدها في يوم من أيام الصوم. ولا تفارق حكايات دنيا آليات الوعي الشعبي وخصائصه التي تنطوي عليها سردياته، فهناك الاستطراد الذي لا يخلو منه الحكي في دنيا، مقروناً بالحكايات التوليدية، حيث تتولد من كل حكاية رئيسة حكاية أو حكايات فرعية، وذلك في تواصل الحكي الذي يولِّد بعضه بعضاً، أو تتداخل فيه الشخصيات عبر تحولاتها، فيما يغدو - ظاهرياً على الأقل -"حكاية بلا بداية ولا نهاية"إذا استعرنا أحد عناوين نجيب محفوظ الدالة. ولكن الخصائص اللغوية أو السردية للحكي بالعامية الذي يستعين بمخزون الخيال الشعبي لا تنفي حضور ما يوازيها ويقابلها من تنوعات السرد الذي تصل صفاته الفصحى، أحياناً، إلى درجة عالية من الشعرية التي تتكثف بها بعض لحظات السرد، فتغدو كالشعر، أو نوعاً منه بصفائها وتموجها الإيقاعي. وفي هذا المدى، يظهر التوازي بين أحوال الطبيعة ووقائع الأحداث، خصوصاً حين تغدو الأولى مرآة للثانية، تعكسها وتزيد دلالات حضورها حضوراً. وأوضح ما يكون ذلك في لحظات الحب الصافية التي تتفتح فيها مسام الجسد لتستقبل النسيم الناعم الذي يتخللها كالعطور، فتبدو الأنفاس الشهية للعاشق، لحظة التقبيل، كأن العالم سقط وردة بيضاء في الفم. وعلى النقيض من ذلك، لحظات المرض أو الألم أو الخوف أو الكره التي يتزنّر فيها الفضاء بسواد كثيف، أو تجف فيها حرارة الرغبة من وهج الكراهية مثلما تجف بركة ماء من وهج شمس حارقة، أو تهدأ المدينة في لحظات توقف القصف العنيف، كما يهدأ من ينازع الموت بعد أن ينقضّ على جسده ليفترسه، فتبدو عتمة الليل كأنها مرايا سود، تعكس الحزن والخوف والرعب. والعلاقة بين التشبيهات والاستعارات والكنايات علاقة مراوحة متجاوبة في هذا السياق، إذ يتزايد التشبيه غزارة في اللحظات التي تتباعد فيها الذات عن موضوعها، نسبياً، كي تراه في نوع من الحياد، أو أشبه، بينما تتكاثف الاستعارة في لحظات التوتر الانفعالي التي تنداح فيها الحواجز بين الذات وموضوعها، فيقع الموضوع موقع غيره الذي يتفاعل معه، بعيداً من الحواجز المنطقية لأدوات التشبيه، وبعيداً من ازدواج الدلالة في صور الكناية التي تتأكد بها واقعية المشهد بما يحيل السمع بصراً في الحكي، أو يجعل المكتوب منظوراً إليه بعيني خيال المتلقي وحواسه التي يفرض عليها المشهد نفسه في متواليات السرد.