إذا كان لبنان حتى بداية الحرب الأهلية يعتبر"بلدا ديموقراطيا"في تميزه عن باقي بلدان المنطقة العربية، لجهة التمثيل السياسي لمواطنيه في برلمان يتألف من نواب ينتخبهم الشعب بطريقة حرة إلى حد كبير، ووجود صحافة حرة، ويسمح بقدر معين من الحريات السياسية، فإن الحراك السياسي الذي أطلقه اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما استتبعه من انسحاب القوات السورية من لبنان، لا يضمن إقامة ديموقراطية حقيقية ما دام النظام السياسي الطائفي يفرض توزيع المسؤوليات حسب المحصاصات الطائفية حتى أصغر المناصب الإدارية. ولقد حاول النظام الطائفي اللبناني أن يزاوج بين الليبرالية الغربية الكلاسيكية وبين تراث محلي قائم على تعدد الطوائف، إلا أنه لم يستطع أن يؤسس دولة قائمة على ديموقراطية برلمانية حقيقية، تسهم جديا وفعليا في تحديث المجتمع، لأن الدولة التي تهيمن عليها طائفة معينة، ويتحكم في فلسفتها السياسية فكر طائفي، لا يمكنها أن تقيم توازنا بين الطوائف، ولا تسمح للمجتمع الحديث أن يتغلب على الطوائف. فهل يقود ربيع الديموقراطية الحالي في لبنان إلى وضع نهاية ل"النظام الطائفي"؟ يمكن الاعتقاد بذلك، إذا نظرنا إلى الحراك السياسي الذي شهده لبنان خلال السنة الماضية، والذي يعبر عن نبض الشارع اللبناني وتوقه إلى الحرية والديموقراطية. وهنا يطرح المراقبون السؤال التالي: هل ستشكل هذه"الثورة السياسية"بداية تأسيسية للجمهورية الثانية المتجاوزة للنظام الطائفي، كي تحقق حلم اللبنانيين في بناء دولة ديموقراطية حديثة لكل مواطنيها؟ ربما لأول مرة تبدو الفرصة مهيأة لذلك. بداية لا بد من التأكيد بأن التحرك الشعبي الكبير الذي فجرته جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لم يكن مجرد صدى لنجاح السياسة الأميركية التي جعلت من التوسع في نشر الديموقراطية في منطقة الشرق الأوسط محورا لولاية الرئيس جورج بوش الثانية، وان تقاطع هذا التحرك مع تلك السياسة في لحظة معينة. فمهما كان حجم الضغوط الدولية والاميركية تحديداً لتطبيق الديموقراطية في الشرق الاوسط، فلا شيء يلغي العامل الداخلي المتمثل في نزوع شعوب المنطقة نحو التحرر والديموقراطية وحقها في التنمية وفي مستقبل اكثر عدالة وأمناً واستقراراً. ثمة موقفان خاطئان ينبغي الاحتراز منهما : أولهما ربط الديموقراطية كقيمة كونية بالرأسمالية و"الإمبريالية"الأميركية، والثاني الاستسلام إلى وهم إمكان تحقيق الديموقراطية بالتكيف مع النظام العالمي الجديد، وتجسيده الواقعي الذي يمثله النظام الأميركي القائم. إن رفض الليبرالية والديموقراطية بحجة ارتباطهما بالمشروع الأميركي يصب في تبرير الاستبداد والاستغلال القائمين، وبالتالي المحافظة على أوضاع التخلف والتبعية، والتأخر التاريخي القائم. هناك حراك سياسي حقيقي يسعى إلى إعادة فرض قيم المجتمع المدني الحديث والسوق على جهاز الدولة وقيم المجتمع. ذلك أن اللبنانيين في مجموعهم يشكلون مجتمع السوق، فهو مجتمع ميركانتيلي ليبرالي، منفتح ومتعدد، ولكنه أيضا مجتمع من دون أحزاب سياسية قوية، حيث تبدو القناعات الإيديولوجية والسياسية فيه أقل أهمية من المصالح. وعلى رغم أن الشباب اللبناني يعاني كثيرا من هذا المجتمع الميركانتيلي، مستفيدا من إيجابياته في الوقت عينه، إلا أننا نجده يجسد انفتاحا استثنائيا على تكنولوجيات الاتصال الحديثة. ولكن هذا المجتمع، وبسبب مشروع الإستيلاد، أضطر الى تحمل نظام آخر من القيم وجهاز دولة ينخره الفساد الذي لا يتوافق مع المجتمع الميركانتيلي، لأنه يمتلك رؤية دولتية في الفلسفة السياسية، نصيرة للاقتصاد الموجه، وتسلطية في إدارتها للحكومة. هناك تعطش حقيقي لدى الشعب اللبناني للديموقراطية، والحراك السياسي طيلة الأشهر الماضية يؤكد أن المواطن اللبناني يرفض بوضوح العودة الى الحرب، ويتمسك بالتحرك السلمي قاعدة لإحداث ثورة ديموقراطية. بيد أنه لا يجوز أن ننظر إلى الديموقراطية نظرة من يود استنساخ نموذج من الخارج، أو تكرار تجربة بعينها. فالديموقراطية - مفهوما وممارسة - واحدة من معطيات التجربة التاريخية التي تتلون بألوان العصر والمكان، وبالخصائص النوعية للأمة والشعب الذي أبدعها أو طورها أو تعاطى معها. ولقد وعى الشعب اللبناني هذه الديموقراطية كمدخل أساسي من مداخل بناء كتلة تاريخية جديدة، وتأسيس رأي عام وراء المشاركة السياسية الإيجابية، أي لانتخاب حر وديموقراطي لرئيس الجمهورية، وللبرلمان على حد سواء. ومع انتهاء الانسحاب السوري من لبنان، لا يزال"حزب الله"يملك الورقة الرئيسية في المشهد السياسي اللبناني، حيث أكسبته مقاومته المسلحة ضد الاحتلال الاسرائيلي شرعية سياسية وتاريخية في لبنان قل نظيرها. وفي الوقت الذي يتأكد أن"حزب الله"بلغ مرحلة النضج في إدارة عمله السياسي، وأصبح يقدم نموذجا من البراغماتية يتجاوز الى حد كبير النموذج الذي عرفته الساحة اللبنانية من قبل أحزاب اليمين واليسار العقائدية، جاءت التحولات الدولية والإقليمية لتعمق من خط لبننة الحزب، بصرف النظر عن تحالفاته الإقليمية. لقد أثبت تاريخ لبنان الحديث أن من الخطأ أن تطرح حركة أو حزب أو طائفة، أو تحالف مؤقت بين أحزاب، مشروعاً سياسياً يقطع مع النظام اللبناني دفعة واحدة بمقتضى الرعونة والاستعجال، لأنها سوف تضطر بعد حين الى التراجع والبحث عن موقع ولو داخل النظام. فكل المحاولات التي تنطحت لمثل هذا التغيير أخفقت. ونذكر على سبيل المثال محاولتي 1958 و1975. فمن الواضح تاريخياً في لبنان أن كل"مشروع طائفي"يمكن أن يصعد في مرحلة تاريخية معينة، ويطرح عملية تغيير أصول النظام اللبناني مستفيداً من ضعف الدولة اللبنانية أو استضعافها، وتقصيرها في كثير من الحالات. هذا هو حال مشروع"القوات اللبنانية"وأصلها الكتائبي عندما أقنعت نفسها بامكان بناء المجتمع المسيحي الصافي، قبل أن تواجه بعد فترة مأزقاً كبيراً، وتتساقط حين كشف حاميها غطاءه، وكذلك الأمر بالنسبة الى سقوط مشروع الفيديرالية أو الكونفديرالية بعد أن سقط حلم"الحركة الوطنية"اليسارية التي أقامت دولة موازية للدولة اللبنانية الأم، محمية من قبل المقاومة الفلسطينية. أما بالنسبة الى"حزب الله"الذي طرح مشروع"الجمهورية الإسلامية"، فقد كان أكثر احتياطاً لمشروعه هذا من غيره من الأحزاب التي قدمت مشاريع طائفية، ولعله قرأ كل الدروس واستخلص كل العبر، لجهة تحديد خياره في نطاق اللبننة، كي يكون جزءا من مشروع لبناني كبير، وكي لا يخسر رهان الكثيرين المتعاطفين معه نتيجة ايجابياته . والآن تطالب الأكثرية النيابية في لبنان بالتغيير السياسي، لكن مؤسسات البلاد في الوقت الراهن غير قادرة أن تفسح في المجال لمثل هذا التغيير. وبعد أن أصبح مطلب تجريد"حزب الله"من سلاحه يأخذ مجراه في ظل التضاريس الوعرة للسياسة اللبنانية الداخلية، أصبح هذا الحزب امام خيار مهم، فهل سيلجأ إلى استخدام قوته العسكرية كي يحدث انقلابا في التغيير السياسي القائم، ملقيا بذلك لبنان في أزمة ما انفكت تتعمق؟ بكل تأكيد وبوصفه احد أقوى حركات التحرر الوطني في العالم ، سوف لن يسلم"حزب الله"أسلحته بملء إرادته، وسوف تكون الفرصة الوحيدة التي يقبل فيها بتسليم أسلحته سلميا هي مدى"المكافأة"السياسية التي سيجنيها بالمقابل. وفي نطاق نظام توزيع الحصص الطائفية السائد الآن، سوف يصبح"حزب الله"حزبا عاديا، لكنه سيطالب بحصة كبيرة داخل السلطة السياسية. ويظل التغيير السياسي في لبنان مرهونا بموقف هذا الحزب سلبا أو إيجاباً. لكن هذا التغيير لن ينعم بالاستقرار، إلا إذا قدم ضمانات اساسية تتعلق بالوضع المستقبلي ل"حزب الله". * كاتب تونسي