هناك بين أعمال بيتهوفن الموسيقية عمل من الصعب العثور على أي حديث عنه في عدد كبير من الكتب التي تحدثت عن سيرة الموسيقي الألماني الكبير وفنه. وحتى حين يذكر هذا العمل، صدفة أو عرضاً، فإن الأمر يقتصر على اسمه وبضعة سطور عنه. ولعل السبب هو ضياع الركيزة الأساس التي قام عليها هذا العمل الموسيقي إذ أنه لم يبق من أجزائه الكثيرة سوى القليل. ناهيك عن أن بيتهوفن نفسه، عاد وضم أجزاء من هذا العمل الى أعمال لاحقة له بينها سيمفونيات. نقصد بهذا العمل باليه"برومثيوس"الذي لحنه بيتوفن في العام 1800، بناء على طلب من مصمم الرقص الإيطالي الشهير، في ذلك الحين، سلفاتوري فيغانو. وخلال تلك السنوات كانت شخصية برومثيوس ملء الأسماع والأنظار في زمن كانت فيه عودة نهضوية الى الإنسان وبطولاته، ما دفع كثراً، في انكلترا وفرنسا والمانيا، الى وضع مسرحيات وروايات عن ذلك"البطل"الذي ينظر اليه البعض على أنه كان"الإنسان الأول"بالمعنى الفكري والفني للكلمة. أي الإنسان الذي تحدى زيوس وحمل شعلة الفن والأدب ليبقيها خالدة رمزاً لمساهمة الجنس البشري في الحياة والوجود. وحتى من قبل أن يطلب فيغانو من بيتهوفن وضع موسيقى راقصة لحكاية برمثيوس، كان معروفاً أن الموسيقي الذي كان، في ذلك الحين، في الثلاثين من عمره، معجباً بشخصية صاحب الأسطورة البطولية، وينحو في جزء كبير من موسيقاه الى التعبير عن الأبعاد نفسها التي كان برومثيوس يحملها. ومن هنا جاء طلب مصمم الرقص في وقته، وعكف بيتهوفن بسرعة يشتغل على العمل الذي عرف، ما ان أنجز باسم"خلق برومثيوس". ولقد أتى العمل، يومها، متكاملاً يغطي عرضاً راقصاً طويلاً. وهو قدم للمرة الأولى في فيينا العام 1801، مساهماً في إيصال شهرة الموسيقي الى الذروة. لاحقاً قدم العمل مرات عدة وكتب عنه الكثير، والحقيقة أنه لولا هذه الكتابات لما كان في وسعنا أن نعرف شيئاً عن بنيته الاستعراضية وتطور علاقة الموسيقي بالعرض، ذلك ان السيناريو ضاع خلال الحقبة التالية. غير أن من الأمور التي أُثرت عن روح العمل، أن برومثيوس قد مُجّد فيه بوصفه"واحداً من أكبر فاعلي الخير مع الإنسانية"، طالما ان مهمته التاريخية - والتي قام بها بشكل مميز - قامت في اعادة الوعي والفنون المفقودة الى هذه الإنسانية. ويلاحظ دارسو حياة بيتهوفن وعمله هنا، مدى التطابق التام بين هذا الموضوع الفكري - الموسيقي، وبين الفكر الذي حمله بيتهوفن منذ البداية، فكراً يعطي الإنسان مكانة أولى في الكون، ويعطي الفن مكانة أولى في حياة الإنسان، رابطاً الفن بالوعي. والحقيقة أن كل السياق الموسيقي في هذا العمل يأتي ليؤكد ذلك، منذ الافتتاحية، ومن هنا لن يبدو غريباً لنا أن نعرف أن بيتهوفن عاد وأدخل"تيمات"وجملاً من هذا العمل، في معظم الأعمال اللاحقة التي تحدث عنها عن البطولة معلناً، حيناً أمله بمجيء البطل المخلّص الى هذه الإنسانية، وحيناً يأسه من أن يكون بونابرت هو ذلك البطل نقول هذا ونشير بالطبع الى"كونشرتو الإمبراطور"والى"السيمفونية الثالثة"وكذلك، وان في حدود الى"السيمفونية الأولى"التي يتطابق التوزيع الأوركسترالي فيها مع توزيع"برومثيوس". يتألف باليه"برومثيوس"من سياق يبدأ بمشهد تمثالين، يكونان أول الأمر جامدين، ثم ما إن تبدأ الموسيقى بالارتفاع والطغيان على المشهد، وإن في شكل بطيء، حتى يبدأ التمثالان بالتحرك حركة متصاعدة تعبر بكل وضوح عن قدر كبير من العواطف والأهواء الإنسانية التي ليس ثمة غير الفن من يمكنه تحريكها الى هذا المستوى. وهنا يدخل برومثيوس في المشهد، ناقلاً التمثالين في حركتهما الراقصة البطيئة أولاً، المتصاعدة تدريجاً، الى جبل البارناس موئل الإلهام الفني، حيث يتعين على التمثالين أن يدرسا فنون الرقص والموسيقى على يد أساطين هذه الفنون، منذ أقدم الأزمان، سواء أكان هؤلاء الأساطين أسطوريين أو تاريخيين. وهكذا تتتالى أمامنا، في حركات راقصة تواكبها موسيقى شديدة التنوع والقوة شخصيات نعرفها، بدءاً من ابولون الذي يقود العملية كلها، وصولاً الى أمفيون وآريون وأورفيوس وملبومين وبان وباخوس، وغيرهم من أسماء ارتبطت على مدار تاريخ الإنسانية بكل ما يمت الى الفن والى متعة الحياة بصلة. لإيصال فكرته ومضمونها هذه، قسم بيتهوفن الباليه الى افتتاحية وستة عشر قسماً، يتلاءم كل منها مع حركة درس من الدروس التي يتلقاها التمثالان. ولئن كانت الافتتاحية بقيت وحدها، على مر الزمن، كاملة، فإن ثمة على أية حال بقايا عدة ومتنوعة من الأجزاء الستة عشر الأخرى. ولكن من المؤسف أن الدارسين لم يتوصلوا حتى الآن الى إعادة تركيب الإجمالي لهذا العمل الراقص كما كان يمكنه أن يكون حين قدم في زمنه. كل ما في الأمر ان محاولات تجرى بين الحين والآخر، معتمدة على ملاحظات دوّنها بيتهوفن بخط يده على بعض النوتات، وعلى مقالات نقدية أو وصفية كتبت في حينه. والحقيقة أننا اذا أخذنا الافتتاحية وحدها، فسنجدها في حد ذاتها عملاً كبيراً، بيتهوفنياً بامتياز يصفها النقاد عادة بأنها صارمة في بنيتها الموسيقية مشغولة بعناية وانتظام مدهشين،"ضمن الإطار الكلاسيكي لموضوعها"، حيث تبدو غنية بالمتناقضات اللحنية. أما التيمة الأولى في العمل، وهي على أية حال تيمته الأساسية التي ستتكرر كثيراً، وإن بتنويعات مختلفة، فإنها حافلة بالجمل السريعة والإيقاع القوي. وهنا في مجال الحديث عن مميزات هذه التيمة الأولى الأساسية، يؤتى عادة على ذكر التطابق في التوزيع الأوركسترالي بين هذا الجزء من الباليه وبين سيمفونية بيتهوفن الأولى. أما اللحظة الكبرى والأساسية في هذا الجزء من الباليه، فهي تلك التي تثور فيها عاصفة يتمكن خلالها برومثيوس من الافلات من محاولة زيوس القضاء عليه لأنه عصى أوامره وانطلق ليحيي وعي الانسان اذ سرق النار الخالدة. والحقيقة أن عنصر القوة الذي نجده في مشهد العاصفة هذا، سيتكرر وجوده في لحظات متفرقة، ولكن أساسية، من لحظات بقية أجزاء الباليه، من دون أن نعرف - كما أشرنا - التوزع الزمني، ضمن اطار السيناريو المفقود، لتلك اللحظات. ومهما يكن من أمر، فإن ما هو جدير بالملاحظة، هو أن الفصل النهائي "الفينالة"بحسب التعبير الموسيقي التقني، موجود ومعروف وهو يتمتع بقوة لا تقل عن قوة الافتتاحية، بل ان له أيضاً حضوره المستقل في سياق البحوث التي تتناول عمل بيتهوفن ككل. ذلك ان الدارسين تلمسوا هنا، في هذا الفصل وپ"الكريشندو"الذي يتألف منه، جزئياً، أولى ملامح اهتمامات بيتهوفن بالتعبير عن موضوعة البطولة في موسيقاه. وهو ما يقارن عادة بالفصل الأخير من السيمفونية الثالثة صاحبة الاسم ذي الدلالة في هذا السياق:"سيمفونية البطولة"، حيث التصعيد الخلاق نفسه في"كريشندو"يفيدنا كثيراً حول الآمال التي كان بيتهوفن يضعها في أيّ بطل، أيّ برومثيوس يتنطح لتوعية الانسانية منطلقاً من دور الفن الرئيسي في مثل هذه التوعية. عندما كتب بيتهوفن 1770 - 1827 باليه"برومثيوس"كان في الثلاثين من عمره. كان في ذلك الحين معروفاً ومشهوراً طبعاً، لكنه لم يكن بعد قد دخل حيز الأسطورة في عالم التأليف الموسيقي، كما أنه لم يكن قد كتب بعد أياً من أعماله الكبيرة التي ستصنع له، خلال العقود التالية، وحتى رحيله بعد ذلك ب 27 سنة، سمعته كواحد من أكبر المؤلفين الموسيقيين في تاريخ البشرية.