بدأت سعاد أميري تدوين ملاحظات يومية أثناء الحصار الذي فرضه الجيش الإسرائيلي على رام الله عام 2002، كان الأمر نوعاً من تمارين ذهنية لمقاومة حالة العزلة الموحشة في بيت يجمعها مع حماتها البالغة الثانية والتسعين. كانت الكتابة راحة نفسية وتسلية لتمضية الوقت. هذه الملاحظات غدت الآن كتاباً يقرأ في العالم كله بعدما صدر للمرة الأولى بالإيطالية والعبرية ثم ترجم إلى 17 لغة. ولكن من هي سعاد أميري؟ إنها مهندسة معمارية فلسطينية تحمل شهادة الدكتوراه من جامعة أدنبرة في اسكوتلندا. وهي تعمل مدرسة في جامعة بير زيت في الضفة الغربية من الأراضي الفلسطينية حيث تشرف على منظمة"رواق"التي تهتم بالحفاظ على التراث الفلسطيني. لم تكن سعاد أميري تتوقع أن تتحول مدوناتها الهامشية، الصغيرة، العابرة، مجموعة قصصية تلفت انتباه القراء وتضعها فجأة في دائرة الشهرة والكتابة الإبداعية. أجبرها الحصار رغماً عنها على العيش مع حماة لا تحبها كثيراً وفي ظل وضع خانق يكاد لا يحتمل. كانت الحياة أشبه بالجحيم ومن أجل تحمل وطأته كان لا بد من الالتفاف عليها بالكتابة والدعابة والمرح والسخرية. كانت الكتابة وسيلة للهرب من الواقع وتحمل ثقله المميت. كانت سعاد أميري محاصرة في الخارج من الإسرائيليين وفي الداخل من حماتها وكانت الكتابة وسيلة للنجاة من الحصارين. حبس الحصار الكاتبة لكنه أطلق ما في أعماقها من طاقة إبداعية في السرد والوصف والتعليق والسخرية. وكان يتهيأ مشروع كتاب قصصي من دون قصد. فوجئت سعاد أميري بالحفاوة التي اسقبل بها القراء كتابها، وهي فسّرت الأمر بصدق ما كتبته :" عندما يكتب المرء شيئاً من القلب فإنه يؤثر في الناس". كتبت أميري عن الحياة اليومية القاسية التي يعيشها الفلسطينيون والتي زادها الحصار قسوة وأضفى عليها طابعاً تراجيدياً بالغ الأثر: الحواجز، الإهانة، الخوف، الاضطرار إلى تحمل ما لا يحتمل من أجل ضرورات العيش. في الحصار يتكاتف المأسوي مع ما هو روتيني. تتحول مجريات العيش اليومي إلى كفاح صعب من أجل الصمود أمام العذاب. تتهاوى الحدود أمام الأشياء التي تختلط فلا يعود المرء يبالي بالمنظومات الراسخة والأخلاقيات السائدة. يبدو المرء عارياً في مواجهة تحدي العيش. تغدو الحياة رحلة سيزيفية بلا غاية. يمتزج المأسوي مع الهزلي في توليفة سوريالية تبعث على الضحك وسط الخراب. يخلو الكتاب من أي حضور سياسي مباشر. وباستثناء إشارات عابرة إلى شارون وعرفات ليست ثمة شخصيات سياسية. لا تحضرالوقائع السياسية بصفتها كذلك بل باعتبارها حالات إنسانية تكتنز دروساً عن الوضع الإنساني في ظل ظروف معينة. كانت الكاتبة ولدت في دمشق لأبوين فلسطينيين مهاجرين عام 1948. ترعرعت في عمان وبيروت ودرست في المملكة المتحدة. عام 1981 قررت العودة إلى رام الله والعيش فيها في حين رفضت أمها ذلك"لأنها ترفض العيش تحت الاحتلال". لماذا عادت إلى رام الله؟ تقول سعاد أميري، الى صحيفة إيطالية:"كنت مهتمة بالحفاظ على التراث المعماري وهذا الأمر كان الدافع وراء قدومي إلى فلسطين في المقام الأول. ثم حدث أن وقعت في الحب وامتلكت أصدقاء. هذا الأمر هو ما يجعل المكان يستحق العيش فيه. ثم انني أنتمي ثقافياً إلى هذا المكان، أنا كالنبتة التي تقع في التربة الملائمة. المجيء إلى رام الله هو خيار حر قمت به. أنا لا أؤمن بالتضحيات فأنا أدعم القضية الفلسطينية مثلما أدعم أية قضية أخرى. يتعلق الأمر بمصادفة أن أكون فلسطينية". پكتاب"شارون وحماتي"هو إذاً كتاب العيش اليومي الثقيل في ظل الاحتلال وقوانينه. لكن سعاد أميري تسرد المعاناة التي يعيشها الفلسطينيون بروح ساخرة بعيداً مما هو معتاد في حالات كهذه من برامج واعدة وخطب رنانة ومقالات صارخة. من شرفة منزلها في رام الله في على شارع الإرسال تقدم سعاد أميري صورة حية عن المجتمع الفلسطيني الذي لا يختلف عن أي مجتمع إنساني آخرسوى أنه يعيش من دون إرادته، مسلوباً من الحرية ومقموعاً على يد قوة احتلال سافرة. لا تحاول الكاتبة أن تضفي مسحة استثنائية على الفلسطينيين الذين يعيشون حياتهم تحت الاحتلال. إذ ثمة أوجه مختلفة للعيش بتعدد الأفراد في المجتمع الفلسطيني. وعلى رغم الاحتلال الذي يعامل الجميع بالدرجة نفسها من الظلم والقسوة إلا أن ردود الفعل تتباين من شخص إلى آخر. هذا ما ترصده الكاتبة من خلال مراقبتها الناس في دأبهم اليومي. الحصار يزيد من قوة الملاحظة والتركيز. وهناك فراغ كبير يقضيه المرء في الملاحظة والانتباه إلى أصغر التفاصيل. رامي، الجار ذو الخمسة عشر ربيعاً يبرر تعاونه مع سلطات الاحتلال بكونه مساعداً لشقيقه المتهم بتصوير مواقع حساسة في مطار اللد.پأهدى رامي يوماً لوحة إلى الكاتبة فاشتعل الشك في قلبها من احتمال أن تكون اللوحة موصولة بمايكروفونات للرقابة زرعها الموساد. يومها أحست سعاد بالخوف أكثر من الخوف الذي زرعته في نفسها مدرعات جيش الاحتلال. إنه الخوف الذي يغلف كل شيء في الحياة اليومية للفلسطينيين. تحاول سعاد أميري أن تكبح جماح هذا الخوف وتلتف عليه وتحوله دعابة ولحظات مرح كما تفعل حين تروي حكاياتها مع كلبتها نورا التي يبدو أنها تتمتع بحقوق أكثر من صاحبتها. فالكلبة نورا وفقا للقوانين الإسرائيلية مؤهلة لأن تحصل على هوية وجواز. واستطاعت الكلبة نورا بالفعل أن تحصل على هوية يقف آلاف الفلسطينيون في طوابير طويلة أملاً في الحصول عليها. وفي الطريق إلى القدس يمنع حاجز الجيش الإسرائيلي الكاتبة من المرور لعدم حملها بطاقة الهوية العتيدة فتنادي:"ولكن كلبتي نورا تحمل الهوية". بفضل الكلبة تستطيع سعاد أن تتجاوز العقبة. پتختتم سعاد أميري كتابها بفصل يحوي مكالمة تخيلت أنها أجرتها مع الرئيس الأميركي، ومن خلال حوار سوريالي ساخر تبين الكاتبة الفجوة التي تفصل العالم الخارجي عن جحيم الواقع المعيش داخل السجن الفلسطيني الكبير حيث الحصارات وجدران الفصل والاجتياحات والقصف من الأرض والجو. هناك تجد الكاتبة نفسها مضطرة للعيش رغماً عنها مع حماتها التي تكمل داخل البيت ما كان يفعله شارون خارجه.