منذ عرضه الأول للجمهور، في الدورة الأخيرة لمهرجان"كان"، بدأ فيلم"ظلال الصمت"يثير الاهتمام الذي كان متوقعاً له. ومن ناحية ثانية بدأت المهرجانات السينمائية الدولية تتسابق للحصول عليه. والصحافة تتسابق للكلام عنه... ولكن ليس للأسباب نفسها. فإذا كان الفيلم، بالنسبة الى الصحافة العربية يستقي قيمته من كونه"أول فيلم سعودي روائي طويل"، فإنه بالنسبة الى المهرجانات الأكثر جدية، فيلم يستحق أن يعرض ويناقش لموضوعه وقيمته الفنية. أما إذا كان بالفعل، الفيلم السعودي الأول في هذا المجال، فهذه قيمة مضافة من دون أن تكون جوهر أهمية الفيلم. طبعاً، لاحقاً، سيدخل"ظلال الصمت"تاريخ الفن السابع العربي، لكنه لن يدخله فقط لقيمته التاريخية، بل أيضاً وخصوصاً لخطابه الفكري وأسلوبه في تقديم هذا الخطاب، لشيء من التجديد من لغة السينما العربية ومواضيعها، حتى إن كانت على الفيلم في هذين المجالين بالذات، مآخذ كما سنرى. بيد أن أول ما يمكن قوله عن"ظلال الصمت"هو أنه فيلم معركة، ومعركة متعددة الجوانب والأبعاد. فهو، في الدرجة الأولى، معركة شخصية بالنسبة الى مخرجه عبدالله المحيسن، الفنان السعودي الحاضر في السينما العربية التسجيلية منذ أكثر من ربع قرن، والمقترب دائماً من مناطق الخطر في الحياة العربية العامة، عبر أفلام قد تصدم، وقد تثير غيظ البعض وحماسة البعض الآخر، لكن أهميتها انها صوت عربي يعكس التمزق العربي العام في لغة دينامية وانطلاقاً من مواضيع شائكة "اغتيال مدينة"عن تدمير بيروت خلاله السنوات الأولى للحرب الأهلية، وپ"الإسلام جسر المستقبل"عن بدايات الصراع الإسلامي في أفغانستان ومن خلال راهن العالم الإسلامي في العام 1982، ثم"الصدمة"عن حرب الخليج الأولى بين التحالف الدولي ونظام صدام حسين - 1991. في هذه الأفلام وفي عشرات غيرها دنا عبدالله المحيسن دائماً من قضايا انسانية ووطنية وتنموية. لكنه كان يتطلع - ودائماً أيضاً - الى لحظة يدنو منها من مواضيع أكثر خطورة، ولكن في لغة روائية، هو الذي يعتبر نفسه من كبار هواة السينما ومتابعيها في بلاده. معركة المحسين الأولى، إذاً، كانت تتمحور من حول التمكن يوماً من تحقيق روائي أول طويل. كان كل شيء في محيطه يشتغل ضد هذه الرغبة... وفي المقابل كان عناده يتجه نحو تحقيقها. ومنذ البداية كان قراره واضحاً: هناك ثلاثة مواضيع سيقترب منها، ان قيض له أن يغوص في قلب السينما الروائية يوماً: توحيد المملكة، القدس، والأوضاع العربية بين سلطات القمع والآفاق المسدودة. والحقيقة ان هذا الموضوع الثالث، كان ولا يزال بالنسبة الى المحيسن، جوهر معركته الثانية والأساسية -، ومن هنا فإن"ظلال الصمت"أتى تعبيراً عن هذه المعركة: عن تطلع عبدالله المحيسن الى وضع الحريات والقمع والإنسان عموماً، في المنطقة العربية وربما في العالم عموماً. إذ، من خلال تركيز الفيلم على الإنسان العربي، والسلطة العربية، والفكر العربي، يبدو واضحاً انه عالمي البعد في مواضيعه هذه. سينما الرسالة إذاً، يعتبر المحيسن نفسه قد تمكن من خوض معركتين من خلال"ظلال الصمت"، أضاف عبر أولاهما عملاً جديداً الى السينما العربية ذات الرسالة، وعبر الثانية عن تمزقات الإنسان العربي طوال نصف القرن الماضي، حتى وإن كان أعطى موضوعه طابع الأمثولة، وقدمه في لغة الخيال العلمي، الذي يتحول خلال الفيلم الى لغة الخيال السياسي، في ترابط جديد على السينما العربية، لكنه حاضر دائماً في بعض أقوى أفلام السينما العالمية. ويقيناً ان عبدالله المحيسن كان يتطلع وهو يحقق فيلمه الى تحقيق عمل ينتمي الى هذه السينما. ويمكن ان نقول ان الجهد الكبير الذي بذل في هذا الفيلم إخراجاً وإنتاجاً، أعطى ثماراً ستكتشف مفاعيلها تدريجاً لا سيما في مجال اشتغال عبدالله المحسين على لغة سينمائية لها ديناميتها الخاصة أحياناً، ولها تجديداتها في أحيان أخرى، حتى وإن كان سيناريو الفيلم قد أخفق في مدها بالخلفية التي تساعدها على الوصول الى غايتها. ذلك ان المشكلة الحقيقية مع"ظلال الصمت"مشكلة سيناريو كما هي الحال بالنسبة الى 99 في المئة من الأفلام العربية -. وقد يغري وجود هذه المشكلة بالقول إن الثناء على عبدالله المحيسن يجب أن يكون مضاعفاً: أولاً لأنه تمكن من تحقيق الفيلم، وثانياً لأنه فعل هذا من خلال سيناريو أقل ما يمكن أن يقال عنه انه عصيّ عن التصوير، عصيّ عن الاقناع، مفتقر الى الإيقاع الذي يميز عادة هذا النوع من السينما. ولعل المقارنة بين اللغة السينمائية الحيوية، شكلاً ومضموناً التي تفاجئ المتفرج منذ اللقطات الأولى للفيلم، حين تنزل قوة من رجال الأمن في منطقة شعبية لتعتقل الناس وتمارس القمع ضدهم، وبين بلادة الإيقاع اللاحق منذ تبدأ رحلة البحث عن المعهد وهي رحلة سينطلق فيها ابن واحد من المعتقلين، وزوجة معتقل آخر هو كاتب رفض ان يبيع ضميره وأدبه للسلطة وتجارها فأرسل كما تروي حكاية الفيلم الى معهد"يعيد تأهيل"المشاكسين ويدجّنهم، حيث التواطؤ بين السلطة والعلم التطبيقي، ضد الفكر والإبداع، كما ضد الشعب البسيط. فالحقيقة ان العشر دقائق الأولى من الفيلم، صورت في شكل أخّاذ وحركة وتقطيع مميزين، يحس معهما المتفرج انه في قلب لعبة الحكم من طريق قوة السلاح... وفي هذه المشاهد بالذات تمكن المخرج من أن يقدم لحظات لا تنسى فنياً ولكن أيضاً من الناحية الاجتماعية مشهد التلفزيون -، ما وعد بأن الفيلم لو استمر على هذا الايقاع سيسفر في نهاية الأمر عن عمل مميز... ولقد تأكد هذا خلال مشاهد عدة تالية"فرشت"لنا فيها الشخصيات:"كارتل"السلطة، المبدع وناشره، الحياة الاجتماعية. هنا أيضاً، في مشاهد موضحة لطبيعة الأمكنة وطبيعة العلاقة بين البشر والأمكنة، تمكن المخرج من أن يربط بين القمع المباشر والطبقة التي تمارسه، ثم الأفراد المتمردين عليه، بوضوح أو مواربة. ونقلنا الفيلم هنا الى المناخ السياسي الفكري الممهد، للمحور الأساس الذي يقوم عليه: المعهد الغامض المقام وسط الصحراء، محروساً من مسلحين أقوياء غامضين. في الواجهة تبدو صورة المعهد صحية، مجرد مكان يمضي فيه المتمردون أو المشاكسون، أو حتى الغاضبون وإن بحدود، فترة نقاهة يعودون بعدها، إن عادوا، وقد برئوا وصاروا أكثر قدرة على التلاؤم مع المناخ السائد. لكن المعهد في الحقيقة مؤسسة علمية تحول المفكر الى دمية، والمتمرد الى شخص كلي الخضوع حسناً... الفيلم لا يحدد لنا البلد الذي تدور فيه الأحداث، لكن القرن العشرين كان حافلاً بهذا النوع من المعاهد، ولا سيما في بعض بلدان المعسكر الاشتراكي. وحتى ولئن كانت البلدان العربية لم تعرف هذا النوع من المعالجة بالصدمة، فإن الأمثولة واضحة، والروح عربية تماماً، قمعاً وتمرداً. الثمن في النهاية، ينتصر حب الحرية على القمع. ولكن الثمن واضح من دون أن ندخل هنا في تفاصيل قد تفقد المتفرج القارئ متعة التوقع حيث يشاهد الفيلم الثمن هو تحالف بين الأصالة، ممثلة بالبدو من سكان المنطقة، وبين الفكر الذي يواصل مشاكسته، وبين العلم الطبيب الذي يعي ما يحدث ويتوب، ويضحي لمساعدة هذا التحالف على الانتصار على القمع. طبعاً هذا كله لا يبدو، من الناحية الفكرية، واضحاً... والوصول اليه ضمن إطار منطق الفيلم منطق السيناريو أعني لم يكن مقنعاً. ولكن هنا، مرة أخرى، لا بأس من المقارنة بين لغة المخرج السينمائية الدينامية في مشاهد النهاية الهجوم على المعهد وبين بلادة السيناريو الذي جعل التحالف ، إيديولوجياً أي مسقطاً من فوق من دون مبررات اللهم إلا المبررات الإرادية التي يحملها فكر كاتبي السيناريو، أو تصورهم لما يمكن أن يكون مقبولاً. ولنذكر هنا، مرة أخرى أن مشهد النهاية يسقط - ومهما كانت جودته الفنية قسراً على سياق كان شهد، خلال النصف ساعة التي تتوسط الفيلم، تلك الرحلة الشهيرة التي لم تؤد في الحقيقة الى أي تبدل، باستثناء انها جمعت في نهايتها الباحثين عن الأب والزوج، مع البدو الذين سيتولون هم مهمة الإنقاذ من الآن وصاعداً. فهل ننطلق من هنا لنقول كم ان هذا البعد الرسالة الفكرية الإيديولوجية -، ضيّع الى حد ما جهود مخرج بدا متمكناً من لغته. مخرج عرف في مشاهد المعهد نفسها كيف يقدم عملاً كبيراً من خلال غوص كاميراه في التفاصيل. وعرف من خلال تعامله مع الممثلين الآتين من بلدان عربية عدة -، كيف يطلع بأفضل ما عندهم، ويفاجئنا من خلال تقديمه للبعض منهم، من الذين لم نكن نعرف سابقاً ان لديهم مثل هذه الامكانات إحسان صادق مثلاً، رجا فرحات في دور الطبيب وخصوصاً مدير المعهد، والى حد ما غسان مسعود الذي لم يكن، على أية حال في أحسن حالاته!، يفاجئنا بإدارة ممثلين كان من الصعب توقعها من مخرج تعامل دائماً مع الواقع يصوره من دون أن ينحو الى إعادة تركيبه. مهما يكن هنا لا بد من أن نفتح هلالين لنتساءل عن جدوى استخدام الفصحى الثقيلة غالباً على ألسنة بعض الممثلين في حوار الفيلم؟ من المؤسف ان استخدام الفصحى أعطى الفيلم، من ناحية طابعاً تلفزيونياً - يتناقض تماماً، مع لغة عبدالله المحيسن السينمائية بامتياز -، ومن نايحة ثانية طابعاً أدبياً بعيداً من لحم الحياة وشحمها. غير ان هذا كله لا يلغي ان"ظلال الصمت"عمل تجديدي تجريبي يؤكد لنا ان عبدالله المحيسن انتصر، الى حد كبير، في المعركتين اللتين خاضهما من خلاله: معركته الفكرية ومعركته الخاصة. عمل يعد بأن المرحلة المقبلة قد تشهد استكمالاً منه لمشاريعه الروائية، التي من دون ان تتخلى عن رسالتها الفكرية البديلة، وعبر الاستفادة من تجديدات المحيسن على صعيد اللغة السينمائية العربية، قد يكون عليها ان تهتم أكثر بالسيناريو، وتعيد التفكير بقضية الحوار. فالنيات الحسنة والأفكار الجيدة لا يمكنها وحدها أن تصنع سينما كبيرة. تماماً كما أن قوة الاخراج وحب السينما لا يمكنهما فعل الكثير حين يكون السيناريو ضعيفاً.