من المعروف أن العلاقة بين الرئيس الفرنسي جاك شيراك ورئيس الحكومة البريطانية توني بلير لا يسودها الانسجام. فالود مفقود والثقة المتبادلة كذلك. وعلى رغم المزاح السطحي فإن اجتماعهما السنوي المقبل يوم 9 حزيران يونيو في باريس لن تسوده الحرارة القلبية. فالفرنسيون لا يغفرون لبلير انضمامه إلى الرئيس بوش في حرب العراق التي تعتبر في نظرهم سوء تقدير كارثياً تسبب في خسائر بشرية ومادية فادحة وألحق الضرر بقضية الاندماج الأوروبي في الميدانين الحساسين المتعلقين بالدفاع والسياسة الخارجية. ويريد شيراك الآن من بلير جواباً صريحاً على سؤال عاجل: ما هو موقفه من إيران؟ وهل سينضم إلى بوش إذا ما قرر الأخير ضرب المرافق النووية الإيرانية؟ وهل أعطى الرئيس بوش تعهداً بذلك خلال رحلته الأخيرة إلى واشنطن؟ ومع أن بلير يصرّ على أن الخيار العسكري مطروح على الطاولة، فإنه يقول إنه يفضل المقاربة الديبلوماسية. ويبدو فعلاً أنه اقترح على الرئيس بوش الانضمام إلى بريطانياوفرنسا وألمانيا في التفاوض مع إيران. غير أن لهذا الاقتراح معارضيه في وزارة الخارجية والكومنولث. فبعض الديبلوماسيين الإنكليز يخشون إذا ما انضمت أميركا إلى المفاوضات أن يؤدي ذلك إلى تهميش الأوروبيين والروس وإلى مواجهة أميركية - إيرانية من شأنها أن تزيد خطر الحرب بدلاً من تخفيفه. وهم يتساءلون ماذا عسى توني بلير أن يفعل في مثل هذه الحالة. لعل ما يثير الحذر والريبة في تفكير بلير إقدامه على فصل جاك سترو وزير خارجيته المخلص طوال سنوات بسبب تصريح أدلى به وصف فيه الهجوم على إيران بأنه عمل جنوني ولا يمكن التفكير فيه. وأما خليفته في وزارة الخارجية مارغريت بيكيت فهي من الوزن الخفيف ولا تجرؤ على مخالفة رئيس الحكومة في مسألة سياسية خطيرة كهذه. وكذلك الأمر بالنسبة الى وزير الدفاع الجديد ديزموند براون، وهو محام قليل الخبرة بشؤون الدفاع. وإن دلت هذه التغييرات في الحكومة على شيء فهي تدل على أن بلير لا يريد أي مناقشة لسلطته المطلقة في مسائل الحرب والسلام - وهي بالضبط التي تقلق الرئيس شيراك والكثير من الزعماء الأوروبيين بمن فيهم خوسيه ثاباتيرو الأسباني ورومانو برودي الإيطالي. هنالك بعض السمات لدى توني بلير تثير قلقاً بالغاً في أوروبا. أولاها تلك النبرة"الرسولية"في خطبه عن أخطار الإرهاب الدولي وانتشار السلاح النووي، إذ يبدو تصميمه على وقف البرنامج النووي الإيراني وكأنه"رسالته"الشخصية. والسمة الثانية هي ارتباط بريطانيا بالولايات المتحدة، وبالتالي نزعتها للخضوع للضغط الأميركي الذي يخشى أن يؤدي ببلير إلى اتباع بوش في مغامرة عسكرية أخرى. ولعل أبرز مثال على هذا الارتباط مساهمة بريطانيا، كشريك صغير، في صنع القاذفة المشتركة JSF- Joint Strike Fighter التي تعتبر أكبر برنامج دفاعي في العالم. وتعرف هذه القاذفة ب"اف-35"وهي سلاح متقدم ينتمي إلى الجيل القادم وذو أدوار متعددة، تقوم بصنعه شركة لوكهيد مارتن الأميركية. وينتظر أن تلبي في أنواعها الحالية والمستقبلية المتطلبات الأساسية للقوات الأميركية الجوية والبحرية وللقوات الملكية البريطانية البحرية طوال ثلاثين أو أربعين سنة. هذا وقد انضمت أستراليا وكندا والدنمارك والنروج وإيطاليا وهولندا وسنغافورة وتركيا، جميعها إلى بريطانيا في تمويل هذه الطائرة. غير أن هذا المشروع الذي تبلغ كلفته 250 بليون دولار اصطدم بصعوبات التأخير وتجاوز الميزانية وبمشكلة وزن هذه الطائرة البالغ الثقل. وهذه الأخيرة مسألة أساسية بالنسبة لبريطانيا لأن البحرية البريطانية تريد، خلافاً للقوات الجوية الأميركية، مدى أقصر للإقلاع وهبوطاً عمودياً، أي أنها تتطلب نوعاً من طائرات"هاريرز"التي تنطلق من حاملات الطائرات البريطانية. وهي قد حجزت 150 طائرة بقيمة 104 ملايين للواحدة. واغتاظت لندن بشدة من تردد أميركا في تزويد طائراتها بالشيفرة المستخدمة في التقنيات الالكترونية. وهددت بريطانيا بالانسحاب من المشروع برمته إذا لم يتم تزويدها بهذه التقنيات، لأن معرفة الشيفرة أمر أساسي من أجل تعديل وتحديث وصيانة الطائرة في العشريات المقبلة. وخلال لقائهما الأخير في واشنطن توصل بوش وبلير إلى اتفاق يسمح لبريطانيا بالحصول على"سيادة عملياتية"على الطائرة. غير أن المعنى الحقيقي لهذا الكلام يظل بحاجة إلى توضيح قبل أن يقدم الشركاء في المشروع خلال هذا العام على توقيع مذكرة تفاهم حول تمويل المرحلة التالية لتطوير الطائرة. وقد أدى الخلاف حول القاذفة JSF إلى خلافات أخرى تتعلق بأنظمة التسلح. وهو يقف عقبة في طريق تصميم ثلاث حاملات طائرات اتفقت بريطانياوفرنسا على بنائها، منها اثنتان لبريطانيا. وهنالك مسألة أخرى تمارس فيها أميركا ضغطها على بريطانيا وهي تتعلق بمشروع"الشركة البريطانية لصناعة الطائرات"ببيع حصتها 20 في المئة من مشروع"ايرباص"وتوظيف المال في شركات الصناعات الدفاعية الأميركية. ولا بد من موافقة الحكومة الأميركية على مثل هذا التوظيف. كذلك فإن صواريخ"ترايدنت"على متن الغواصات النووية البريطانية مرتبطة بالتكنولوجيا الأميركية. فقد وافقت أميركا أخيراً على تحديث هذه الصواريخ، غير أن اتفاقهما قد يواجه صعوبة إذا ما اختلفت الدولتان حول المشكلة الإيرانية. وهنالك أيضا مجال آخر للارتباط البريطاني بأميركا وهو تقاسم المعلومات في ميدان الاستخبارات. فبريطانيا وأميركا تعملان معا في"ايشلون"، وهو مشروع غاية في السرية، عبارة عن شبكة ترصد الاتصالات اللاسلكية وتلك التي تتم عبر الأقمار الصناعية، والمكالمات الهاتفية والفاكسات ورسائل البريد الالكتروني في أنحاء العالم بأسره، ويعتقد بأن"ايشلون"يرصد نحو 3 بلايين اتصال يوميا. وبريطانيا لا تريد أن تعرض هذا المشروع لأي خطر. ويتساءل الأوروبيون كيف يكون رد فعل بلير والحالة هذه إذا ما طلب منه بوش الاشتراك في عملية ضد إيران وهل بقدرته أن يقول لا؟ من المرجح أن يكون الجو في القمة البريطانية - الفرنسية المقبلة، لا فاتراً فحسب بل كئيباً أيضاً، لأن كلاً من شيراك وبلير يعاني أوضاعاً صعبة في بلده. فبريطانيا ترى أن شيراك ورئيس حكومته دومينيك دو فيلبان يعانيان ضعفاً شديداً بسبب التظاهرات المعادية والفضائح السياسية وأن فرنسا لن تقوى بالتالي على اتخاذ أي مبادرة مشتركة قبل الانتخابات الرئاسية في عام 2007 التي ستأتي برئيس جديد إلى قصر الاليزيه. وأما الفرنسيون فيتساءلون من جهتهم إلى متى يستطيع بلير التمسك بمركزه أمام الهبوط الشديد في شعبيته الناتج عن حرب العراق. وهم يتساءلون من سيكون مخاطبهم البريطاني بعد سنتين أو ثلاث، هل هو وزير المال المستشار غوردون براون أم الزعيم الجديد لحزب المحافظين ديفيد كاميرون. ويعتقد بأن توني بلير صار يسلم ضمناً بأن حرب العراق كانت خطأ. فالخسائر البريطانية بالأرواح بلغت 113، غير أن الثمن الذي تتكلفه الخزينة البريطانية مبلغ يقرب من 22 بليون جنيه استرليني. على أن هذه الخسائر تبدو بسيطة إذا قورنت بما تكبدته أميركا: أكثر من 300 بليون دولار و2500 جندي قتيل وأكثر من 25 ألف جريح غير صالح للعودة إلى القتال. ولكن الخسائر البريطانية تبدو في المنظور الأوروبي فادحة جداً. ويود بلير أن يحد من عدد الجنود البريطانيين في العراق فيخفضه من 8000 إلى اقل من 3000 في نهاية هذا العام، وهو يأمل بأن يؤدي ذلك إلى إسكات معارضيه وتحرره من الاتهام الجارح بأنه"كلب أميركا الصغير". ويحتاج بلير إلى إحراز نجاح ما كي يجعل الرأي العام البريطاني ينسى العراق. وهو يأمل بأن يكون هذا النجاح في أفغانستان حيث تتولى بريطانيا قيادة قوات الحلف الأطلسي هناك. وهي سوف تنشر 5000 جندي في تموز يوليو المقبل في أفغانستان إضافة إلى مروحيات مقاتلة ومعدات ثقيلة أخرى. على أن انبعاث نشاط الطالبان أخيراً هو بمثابة أخبار غير مشجعة لأنها تنذر بمفاجآت غير سارة للقوات البريطانية. أما الاتفاق على رأي بالنسبة الى ايران فإنه يظل هو المعضلة الكبرى التي تواجه زعماء الغرب. وكما كان الأمر قبيل الحرب على العراق فإن على الأوروبيين أن ينتظروا القرارات التي تتخذ في واشنطن. وسوف يعتبر بلير وشيراك نيات أحدهما الآخر لكنهما لن يتفقا إلا على الاختلاف. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط