أتلقى باستمرار نشرات ومجلات دورية من منظمات وهيئات دولية تعنى بالأعمال الانسانية والخيرية تشرح فيها بالأرقام والوقائع حاجة البشرية للمساعدة والغوث في شتى مناحي الحياة وتقدم عرضاً مشوقاً لنشاطاتها ومنافذ الدعم والعطاء التي قامت بها وتحث على تقديم المزيد من أجل المساكين والمحتاجين ومعظمهم من الأطفال والفقراء المعدمين. هذه الدعوات الخيرة دفعتني للتأمل في أحوالنا المتردية وتخاذلنا المتواصل في هذه المجالات رغم اننا أمة الخير ولا سيما في الفترة الأخيرة التي شمل فيها التراجع كل شيء ولا سيما هذه المجالات التي تحتاج منا للعناية والتركيز والمبادرة بعد ان كنا سباقين فيها ومضرب الأمثال والقدوة الحسنة. نحن نكتب عن السياسة ومآسيها، والأزمات ونكباتها، والحروب وفواجعها ونركز على العناوين الكبيرة ونكرر ونجتر في مقالات وبرامج وأحاديث وحوارات ولكننا نتجاهل الجوانب الانسانية والخيرية ونتجنب الخوض في تفاصيلها كأننا نترفع عن الكتابة عن"أمور ثانوية"!! أو قضايا غير مهمة، حسب زعمنا، مع انني اعتبرها اساسية تحتاج منا لكثير من الاهتمام والرعاية والتفعيل. فمن يستمعن في أحوال العالم اليوم، ولا سيما في العالمين العربي والاسلامي، يصب بصدمة قاسية من حجم الأهوال والمآسي ويدرك مدى الحاجة للعودة الى تعاليم الدين الحنيف واعطاء الأولوية للأعمال والجهود الانسانية والخيرية والمسارعة لانقاذ الملايين من المحن التي يعيشون فيها من جراء الحروب والكوارث الطبيعية وممارسات الأنظمة الديكتاتورية والفساد المستشري في مجتمعاتنا: فقر مدقع ومجاعات وأمراض وأوبئة ومهجرون ولاجئون وأيتام ومشردون ومرضى، معظمهم من أبناء دول عربية أو اسلامية وآسيوية وافريقية. لقد انقضت مرحلة كان فيها الاهتمام العربي والاسلامي جيداً وفعالاً ولكنه تراجع أو تلاشى في الآونة الأخيرة، فيما تنشط جمعيات وهيئات أجنبية لأخذ زمام المبادرة والتباهي بإنجازاتها الانسانية لا سيما بعد الكارثة الكبرى التي أصابت جنوب شرقي آسيا، كارثة تسونامي الناجمة عن الزلزال المدمر وما تبعه من طوفان أكل الأخضر واليابس وأودى بحياة أكثر من 250 الف انسان وشرد الملايين ومعظمهم من المسلمين وهدم البنى التحتية في مناطقهم المنكوبة. وحتى نكون أكثر قرباً من الواقع لا بد ان نشير الى مناطق منكوبة ومعاناة خطيرة لأهاليها مثل العراق والسودان وفلسطين حيث أخبرني بعض العاملين في المنظمات الانسانية بأن كل ما نشر حول اوضاعها وحاجات أهاليها لا يمثل سوى النذر اليسير من الحقيقة وان العلاج يحتاج الى تضافر جميع الجهود الدولية وإقدام الدول العربية والاسلامية على القيام بمبادرات رائدة لانقاذ ما يمكن انقاذه وتمكين الأهالي المنكوبين من النهوض وتأمين الدواء ولقمة العيش ومواجهة ظروف الحياة الصعبة، وقد أعطت المملكة العربية السعودية القدوة الحسنة في المسارعة لنجدة الاشقاء في فلسطين وغيرها عبر المؤسسات الرسمية والشعبية. ومن بين الهيئات والمنظمات التي اعطت الكثير في هذا المجال الانساني مؤسسة التعاون الفلسطيني التي شكلها عدد من رجال الأعمال الابرار. وجمعية العون الطبي الفلسطيني MAP وهي جمعية خيرية بريطانية عربية نجحت في كسب ثقة الناس والتركيز على جوانب انسانية وطبية تخفف من معاناة الشعب الفلسطيني المنكوب بعدو متوحش دمر البنى التحتية للشعب الفلسطيني وجرف الأراضي الزراعية وهدم البيوت والمصانع وصادر المياه والموارد الطبيعية والأراضي وفرض حصاراً عنصرياً لخنق الفلسطينيين وتركيعهم. ولن أعدت المنظمات الأخرى التي سارعت للتخفيف من هذه المعاناة لأن المجال لا يتسع لها جميعاً، ولكنني اكتفي بالإشارة الى الجهود الخيرة للصليب الأحمر الدولي التي أرسلت الي معلومات وفيرة عن حاجات العالم، لا سيما الدول العربية والاسلامية والمساعدات التي قدمتها مشكورة لها وفي مقدمها فلسطين والسودان. ففي فلسطين مثلاً آلاف المواطنين يعانون من جراء عمليات التدمير المستمر لما يقدر بأكثر من 2250 منزلاً كان نصيب قطاع غزة وحده منها 2139 منزلاً سويت بالأرض بواسطة الجرافات الاسرائيلية أو خلال الهجمات المستمرة بالدبابات. أما عن مأساة المعتقلين فقد ذكرت اللجنة الدولية للصليب الاحمر انها قامت خلال الشهور الخمسة الأولى من العام الحالي بزيارة أكثر من 6872 من المعتقلين الفلسطينيين من اجمالي عدد 8236 محتجزاً في مختلف مراكز الاعتقال، وذلك بهدف تسجيل ومراقبة ظروف الاعتقال والمعاملة التي يلقاها المعتقلون. وتمكن مندوبو اللجنة الدولية من القيام بزيارات دورية الى 3 معسكرات عسكرية تضم أكثر من 3300 معتقل فلسطيني، الى جانب 6 من مراكز الاحتجاز وعدد من السجون المركزية ومراكز التحقيق ومخابر الشرطة الاسرائيلية. وهناك أيضاً اكثر من 1050 معتقلاً إدارياً يواجهون تجديد احتجازهم ادارياً كل 6 أشهر من دون توجيه تهمة محددة اليهم. وقامت اللجنة ايضاً بجهود كبيرة لتقديم الحاجات الضرورية للضحايا المدنيين في المناطق الحضرية والريفية من جراء العمليات العسكرية الاسرائيلية وتدمير منازلهم وعمليات الاغلاق والمحاصرة التي جعلت من حياتهم البالغة القسوة أمراً يصعب تحمله. هذا جانب من جوانب محنة الشعب الفلسطيني، ولم تتوافر معلومات دقيقة عن محنة الشعب العراقي الأكيدة بسبب العنف ومنع المنظمات الدولية من الوجود على الاراضي العراقية. أما في السودان فلم يرشح سوى النذر القليل من المعلومات ولا سيما في دارفور التي ظهر الاهتمام الدولي المفاجئ بها خلال الاشهر القليلة الماضية مع أنها كانت تعاني من حرب أهلية وحشية بين ابناء بلد واحد ودين واحد، بكل أسف، وهم جميعاً من المسلمين السودانيين ينقسمون الى أنصار الحكومة والمدعومين منها وجلهم من القبائل العربية وبين متمردين من المسلمين الأفارقة مما أدى الى مقتل مئات الآلاف وتشريد الملايين وتدمير المرافق والمساكن وتخريب الزرع والبنى التحتية وارتكاب جرائم وحشية يندى لها الجبين. وهنا ايضاً اعود لإحصاءات الصليب الاحمر التي أعلنت انها قامت منذ بدء عملها في دارفور وحتى تشرين الثاني نوفمبر 2004 بالجهود الآتية: * توزيع الأدوات المنزلية الاساسية على 373270 شخصاً في 25 موقعاً. * توزيع 5423 طناً من الاغذية على 259832 شخصاً في 50 موقعاً. * تعزيز قدرات خمسة مستشفيات وترميمها. * انشاء اربع وحدات للرعاية الصحية الأولية قدمت خدمات الى مئة واربعة وثلاثين الف شخص. * مد وتصليح شبكات المياه لتوفير مليونين ومئة ألف ليتر من الماء في اليوم لأكثر من 240 ألف شخص. * تصميم مخيمات أبو شوك وزمزم وحصحيصة لإيواء 120 ألف لاجئ. وهذا غيض من فيض الحاجات والجهود في بلدين فقط، فيما تمتد الكوارث وهلال الأزمات على خريطة العالم كله لا سيما في محيط الدول الاسلامية أولاً ثم العربية لا سيما العراق والسودان وفلسطين والصومال وجيبوتي وجزر القمر وصولاً الى موريتانيا إضافة الى حاجات انسانية وخيرية في بلدان عربية أخرى تعاني من أزمات أو كوارث أو أوضاع صعبة تتسبب في زيادة نسبة الفقر والمعاناة ونقص الحاجات الانسانية العادية من دواء وغذاء وتعليم وصحة ورعاية اجتماعية للأيتام والمعاقين والمسنين وذوي الاحتياجات الخاصة. وفيما يتباهى العالم، ويتماهى الغرب بما قدمه من معونات ومساعدات وما قام به من مبادرات انسانية ولا سيما بعد كارثة تسونامي نجد تراجعاً في هذه المجالات في العالمين العربي والاسلامي ونشهد مبادرات خجولة أو جهوداً تجاهلها الاعلام العالمي لتقديم يد العون للمحتاجين والمنكوبين. ولولا مبادرات بعض الدول العربية ولا سيما المملكة العربية السعودية التي سارعت لتقديم المساعدات الرسمية والتنافس على عمل الخير من قبل المواطنين خلال الحملة الوطنية التي قام بها التلفزيون السعودي لاستحق منا القول بأننا كنا على هامش العالم في مواجهة هذه الكارثة الانسانية الرهيبة. ولم نكن بحاجة الى رئيس البنك الدولي ونائب وزير الدفاع الاميركي السابق بول وولفوليتز، المنتمي لتيار المحافظين اليمينيين في البنتاغون والادارة الاميركية الذي تسبب في كثير من الكوارث في العراق وغيرها، لكي ندرك ان العالم الاسلامي قد قصر في تقديم الدعم للمنكوبين ومعظمهم من المسلمين، فيما تبارت دول العالم وشعوبها في تقديم الكثير من أجل التخفيف من معاناتهم ومآسيهم. وولفوتيز الذي قال بالحرف الواحد:"لقد كان هناك القليل جداً من العطاء من بعض أجزاء العالم الاسلامي التي تكثر الحديث عن الجهاد وأشياء اخرى، لكن حينما مات 200 الف شخص، معظمهم مسلمون، في هذه الكارثة لم يكن هناك الكثير من المساعدات". فتح باب السؤال الكبير الذي يتحمل مسؤولية الجواب عليه هو كمهندس لغزو العراق وإدارته التي ضربت البنى التحتية للمنظمات الخيرية والانسانية العربية والاسلامية بزعم"تجفيف موارد الارهاب"والجماعات الارهابية التي قامت بتفجيرات نيويورك وواشنطن وضربت في الصميم كل الانجازات التي حققتها هذه المنظمات وجففت بوادر الخير بسبب تصرفاتها الطائشة مما أدى الى حدوث انعكاسات مدمرة على ملايين العرب والمسلمين الذين كانوا يستفيدون من التبرعات والمساعدات لتساعدهم على تأمين لقمة العيش الشريفة والحصول على الدواء أو الغذاء لأطفالهم والصمود في وجه الظلم والطغيان كما جرى للشعب الفلسطيني الذي دفع ثمناً غالياً لزلزال 11 ايلول سبتمبر بعد ان استغله الصهاينة لتضييق الخناق عليه ومنع تلقيه أي مساعدة من الخارج. فنحن نعرف جيداً ان الوضع قبل الأعمال الارهابية كان مريحاً للعمل الخيري والانساني، وكانت المنظمات والهيئات الحكومية والخاصة تنشط في كل مكان في العالم لبناء مرافق حيوية وآبار مياه ومشاريع منتجة أو لتقديم الغذاء والدواء والتبرعات العينية والمادية أو حتى لبناء مساكن ودور أيتام ومراكز ثقافية ومستشفيات ومستوصفات ومساجد. وكانت للشعب الفلسطيني الأولوية عند أهل الخير في السعودية ودول الخليج وغيرها، لكن من أقدم على عملية نيويورك وواشنطن لم يدرك، أو أنه أدرك والله أعلم من هو المنفذ الحقيقي والمستفيد من هذه الجريمة، انه سيتسبب في ضرب العمل الخيري والانساني وبالتالي تعريض الملايين لفواجع تزيد من آلام محنتهم ومآسيهم وتقطع عنهم سنابل الخير وموارد العيش الكريم. فقد استغل الأعداء، وجلهم من الصهاينة والحاقدين، هذه العملية بعد فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية لضرب أسس العمل الخيري وقطع الشريان الحيوي للامة والقضاء على العصب الاساسي لبنيانها القائم على الخير والمبني على اسس شرعية هادفة تلزم كل مسلم بأدائها. وقد أدت الحرب الشعواء التي شنت على الهيئات والمنظمات الانسانية والخيرية الاسلامية والعربية الى نضوب مواردها وتعطل أعمالها ما أدى الى توقفها عن العمل واقفال مكاتبها بعد ان اتهمت زوراً وبهتاناً بتمويل الارهاب أو مساندته مع الاعتراف بأن بعضها قد استغل من قبل جماعات مغرضة إما بالابتزاز وباختلاق جمعيات وهمية كانت تحول التبرعات لجهات مشبوهة أو باندساس بعض ذوي الاغراض المعروفة في جمعيات معينة لتحويلها عن أهدافها المشروعة وتشويه صورتها كما شوهت الأعمال الضالة صورة الاسلام والمسلمين. والمؤسف ان الكثير من رجال الخير والايمان الذين كانو يقدمون الكثير للجمعيات الخيرية والانسانية قد توقفوا عن مبادراتهم إما خوفاً وجبناً من الملاحقة والاتهام أو تجنباً لمشاكل وصعوبات في نشاطاتهم وشركاتهم خاصة وان لمعظمهم مشاريع واستثمارات داخل أوطانهم وخارجها، كما ان الدول والمصارف بدأت تفرض قيوداً ورقابة على كل شاردة وواردة مما دفع الكثيرين للتخوف من نتائج تلبية اي طلب تبرع من أي جهة. هذه الظروف والوقائع المؤسفة تدفعنا للدعوة للنهوض من كبوتنا والتحلل من رداء الخوف والجبن واعادة اطلاق العمل الخيري والانساني من أوسع أبوابه واعطاء الأولوية له"بعد اعادة تنظيمه واعداده بشكل يمنع اي استغلال ويضمن وصول المساعدات الى مستحقيها فلم يعد من الجائز، ونحن في عصر العولمة والقرية الواحدة الكبيرة، ان نبقى متفرجين سلبيين أمام ما يحدث في العالم، بل لا بد ان نكون مبادرين دائماً الى فعل الخير ومد يد العون للمحتاجين والتخفيف من عذاباتهم وكفكفة دموعهم. واعتقد جازماً ان مبادرة العرب الى اعطاء الأولوية لهذا الجهد الانساني والخيري سيكون لها صدى واسع وترحيب، لن يفيدا في تحسين صورتهم فحسب، بل يؤديان حتماً الى دعم قضاياهم والتعاطف مع مطالبهم وحقوقهم، فإذا فشلنا في السياسة والاعلام فمن المؤكد اننا سننجح في مجال الخير والانسانية لأننا أمة الخير، وديننا دين الخير والمحبة والرحمة... فهل نستجيب لهذه الدعوة؟ ولماذا لا نفتح باب حوار بناء حول وسائل تفعيلها ورفع العراقيل في وجهها وإزالة الاسباب التي تحول دون تحقيقها واستغلال الفرصة المتاحة لاصلاح ما أفسده المتهورون وافشال ما يخطط له المغرضون. * كاتب عربي.