بعد مضي ست سنوات على اعلان اتفاق جدة 12 حزيران - يونيو 2000 وقعت الرياضوصنعاء في الشهر ذاته من هذه السنة، على الخرائط النهائية لمعاهدة الحدود الدولية، وذلك في ختام اجتماعات الدورة ال17 لمجلس التنسيق اليمني - السعودي. ولقد انتظر المسؤولون في الدولتين انتهاء كل الاجراءات المتعلقة بترسيم الحدود حسبما أقرها الجانبان، ثم أُختيرت شركة المانية لتثبيت الاشارات على امتداد تخوم يبلغ طولها 1800 كيلومتر. ومن المفروض ان ترسل نسخة نهائية عن هذه الوثيقة القانونية الى الأمانة العامة في الأممالمتحدة كي تودع أرشيف الوثائق باعتباره المرجع الدولي لكل خرائط حدود الدول. الوثائق النهائية وقعت في مدينة المكلا، بحضور ولي العهد السعودي نائب رئيس مجلس الوزراء الأمير سلطان بن عبدالعزيز وعبدالقادر باجمال، رئيس الوزراء اليمني. ولقد تولى مهمة التوقيع عن الجانب السعودي وزير الداخلية الأمير نايف بن عبدالعزيز ووزير الخارجية الأمير سعود الفيصل، وعن الجانب اليمني وزير الداخلية رشاد العليمي ووزير الخارجية أبو بكر القربي. الرئيس اليمني علي عبدالله صالح، اختار مدينة المكلا، عاصمة محافظة حضرموت الجنوبية، لعقد اجتماعات مجلس التنسيق الاعلى بين بلاده والسعودية. ويبدو انه اغتنم فرصة احياء ذكرى توحيد شطري اليمن الشمالي والجنوبي، كي يشدد على اعطاء هذه المنطقة بعض ما تستحقه من عناية واهتمام في مجالي التنمية والتطوير. وعليه تم التوقيع على رزمة مشاريع اجتماعية واقتصادية وعمرانية سيبدأ العمل بتنفيذها قريباً. كذلك اغتنم الأمير سلطان هذه المناسبة ليضع حجر الأساس لمشروع يحمل اسمه في جامعة حضرموت، اضافة الى مشروع كلية الأمير سلطان في الجامعة ذاتها. ولقد رافق الوفد الرسمي السعودي وفد اقتصادي يرجع نسب افراده الى اصول حضرموتية يتقدمه عبدالله بقشان. والمعروف ان هناك عائلات عدة نزحت من اليمن الجنوبي لتجني ثروات في جدة بينها: محمد بن لادن وأولاده، بقشان، العمودي، باوزير، بامحفوظ، باجمال شقيق رئيس وزراء اليمن عبدالقادر باجمال يعمل في السعودية. ويستدل من خطة انماء المحافظات وتقريب المسافات بينها، ان الجانبين اتفاقا على تحقيق مشروع بناء طرق رئيسية بواسطة اوتوسترادات تربط صنعاءبعدن وتعز وعمران وآب وذمار. والهدف من هذا المشروع هو انتهاج سياسة انمائية متوازنة يمكن ان تساعد اليمن الجنوبي على استئصال المشاكل المزمنة التي تنهكه وتعبد الطريق لانتشار أنصار تنظيم"القاعدة". ولقد تضاعف الاهتمام بهذا الشطر عقب عملية تفجير المدمرة الاميركية"يو اس اس كول"قبالة ميناء عدن سنة 2001 ذهب ضحيتها 17 ضابطاً وجندياً. وبعد اقل من سنة قامت جماعة"القاعدة"مرة ثانية بتفجير ناقلة النفط الفرنسية"ليمبور"قبالة جزر المكلا. إضافة الى حرص حكام صنعاء على توفير المساعدات التي تقدمها السعودية في إطار تحسين الأوضاع داخل الجنوب، فإن الهدف السياسي غير المعلن يتمحور ايضاً حول اهتمام الرئيس علي عبدالله صالح باحتواء الحركات الانفصالية والمناطقية المتنامية، اي الحركات التي تتغذى من البطالة والنقمة بحجة ان الشمال احتكر أموال النفط والغاز، كما استأثر بوظائف الدولة العليا. منتصف هذا الاسبوع تعرضت الحكومة اليمنية لانتقادات صحف اميركية اتهمتها باهمال اتفاق المصالحة الذي رعته سابقاً في مقديشو، وقالت انها تجاهلت عمليات تهريب الاسلحة الى جماعة"القاعدة"داخل الصومال. ويتوقع المراقبون في الاممالمتحدة اتساع حملة التهجمات ضد اليمن في حال انتصرت ميليشيات"المحاكم الاسلامية"على"تحالف ارساء السلم ومكافحة الارهاب"المدعوم من الولايات المتحدة. وتشير المعلومات الى تقدم ميليشيات"المحاكم الاسلامية"التي يطالب رئيسها الشيخ شريف احمد بإقامة نظام اسلامي في الصومال شبيه بنظام طالبان في افغانستان. وأكثر ما يخيف الادارة الاميركية من انتصار ميليشيات"المحاكم الاسلامية"هو انتقال جماعة"القاعدة"للاستيلاء على أهم موقع استراتيجي قبالة خليج عدن. وهو موقع متميز لأنه يسمح بمراقبة مرور السفن التجارية وناقلات النفط العملاقة التي تمر في مضيق باب المندب. ويرى المحللون ان تهديد آية الله علي خامنئي باقفال مضيق هرمز لمنع وصول النفط الى أوروبا واميركا واليابان، كان وراء تراجع ادارة جورج بوش وتساهلها في فتح حوار مع طهران. ومعنى هذا ان واشنطن ستواجه أزمة جديدة في حال سيطرت جماعة اسامة بن لادن على الشاطئ الصومالي المشرف على باب المندب، الأمر الذي يمكنها من السيطرة على ثاني أهم مضيق يصل البحر الأحمر ببحر العرب. وهذا ما شجع السوفيات في السبعينات على ملء الفراغ العسكري الذي حدث في اعقاب الانسحاب البريطاني، لأن عدن تمثل افضل موقع استراتيجي على الخليج الذي يحمل اسمها. وهي المحطة التي استطاعت موسكو من خلالها التدخل في انغولاوالصومال وجيبوتي للتأثير على صراعات القرن الافريقي وحركة الملاحة حول البحر الأحمر وباب المندب. سنة 1993 مني التدخل العسكري الاميركي بفشل ذريع في مقديشو، الأمر الذي اضطر واشنطن الى سحب قوتها اثر مقتل 18 جندياً واحراق جثثهم. ومع هذا كله فإن الأهمية الاستراتيجية للصومال، دفعت الرئيس بوش هذا الاسبوع للاعراب عن قلقه من احتمال سيطرة تنظيم"القاعدة"على القرن الافريقي وبوابة"باب المندب"، خصوصاً انه كان يتوقع من اليمن أن تقوم بدور اشد تأثيراً على مجرى الأحداث في الصومال بعد التفويض الذي أُعطي لصنعاء. ولم يقتصر ذلك التفويض على القضايا السياسية فقط، وإنما تعداها ليصل الى مختلف الشؤون الأمنية والاقتصادية. ففي المرحلة الأولى دعا الرئيس علي عبدالله صالح مختلف الفصائل الصومالية المتنازعة الى عدن حيث عقدت سلسلة اجتماعات انتهت بإعلان مصالحة وتوقيع اتفاق سلام. وفي المرحلة الثانية تبرع اليمن بمساعدات للشرطة كالملابس العسكرية والبنادق، لأن غياب مظاهر الدولة شجع الميليشيات على ملء الفراغ. وفي المرحلة الأخيرة استخدمت البحرية اليمنية الزوارق الحربية التي قدمتها لها واشنطن من أجل مراقبة السواحل ومكافحة عمليات نقل الأسلحة الى جماعة"القاعدة"داخل الصومال. ويعترف وزير خارجية اليمن أبو بكر القربي، أن عملية المراقبة لم تكن سهلة، بدليل أن القوات الأميركية والفرنسية الموجودة في بحر العرب لم تنجح في منع عمليات تهريب السلاح. لذلك اقترحت صنعاء على الأميركيين استخدام طائرات"الأواكس"أو المروحيات وقوارب الرصد والمتابعة، بحيث تستمر التغطية بالعتاد المتطور مدة 24 ساعة. ويرجح المراقبون أن تعمل واشنطن بهذا الاقتراح، وإنما بعد فوات الأوان! هذا الأسبوع بدأ تشغيل معبر الوديعة الجمركي في محافظة حضرموت شرق عدن. واعتبره الموقعون على معاهدة الحدود أنه ضرورة تجارية من أجل التغلب على الصعوبات التي نشأت عن زيادة التعاون في مختلف المجالات. كذلك اعتبر الديبلوماسيون في صنعاء أن تثبيت معاهدة جدة الموقعة في حزيران يونيو 2000 أنهى الاشكالات العالقة منذ إعلان معاهدة جدة الأولى التي وقعها الإمام أحمد والملك سعود سنة 1956. كما أنهى حال التوتر التي سادت العلاقات عقب الانقلاب العسكري في اليمن ضد حكم الأئمة بقيادة العقيد عبدالله السلال وتشجيع من جمال عبدالناصر 26/9/1962. ولقد تعرضت اليمن منذ ذلك الحين لحركات تحول متواصلة ولسلسلة انقلابات انتهت بمقتل الرئيسين الحمدي والغشمي. وفي غمرة الانهاك السياسي - الاقتصادي برز علي عبدالله صالح كمرهم لحكم متصدع يعاونه على الوصول الى سدة الرئاسة بعض أنسبائه من قبيلة"بكيل"، وبعض التكنوقراطيين ممن أرهقتهم نزاعات القبائل. ولقد زودته حرب السنوات الثماني بين إيرانوالعراق، بالفرص الكافية لتثبيت عهده في اليمن الشمالي. كما أعانته خلافات قادة الجنوب بين علي ناصر محمد وعبدالفتاح اسماعيل وعلي عنتر وصالح مصلح وعلي شايع هادي، على استغلال الفوضى في عدن من أجل الاتجاه الى الجنوب بهدف القضاء على"التشطير"وحسم موضوع الوحدة. ومن المؤكد أن علي عبدالله صالح استفاد من الظروف الدولية والاقليمية كي يوحد شطري اليمن. وهو حالياً يسعى الى الحصول على ضوء أخضر من العواصم الكبرى بما فيها واشنطن وبكين وموسكو، لعلها تساعده على تمديد ولايته سبع سنوات أخرى تضاف الى 28 سنة أمضاها في رئاسة الدولة تجري انتخابات الرئاسة في 23 ايلول/ سبتمبر المقبل. حدث أثناء زيارته الأخيرة للصين، أن توقف الرئيس علي عبدالله صالح في هونغ كونغ للاجتماع بولي العهد السعودي الأمير سلطان بن عبدالعزيز، وبلغ من شدة اعجابه بمنجزات هذا البلد الصغير أن عاد الى صنعاء ليطالب بتقليده والاقتداء بتجربة هونغ كونغ في عدن بحيث يصبح ميناؤها أحد أكبر مصادر الدخل. وربما دفعته مراحل تأهيل بلاده للانضمام الى عضوية مجلس التعاون الخليجي الى رفع مستوى الأداء بما يكفل تطوير المشاريع الواعدة على نحو يسمح لليمن ببناء مقومات اقتصادية واجتماعية راسخة. ويرى رئيس الوزراء عبدالقادر باجمال أن اتفاقات التعاون السعودي - اليمني ستنمي روح الشراكة والتفاهم في مختلف المجالات. وهذا ما توقعه الأمير سلطان الذي رافق قضية اليمن خلال الخمسينات، ثم عهد اليه الملك فيصل بمتابعة أحداثها بعد انقلاب 1962، الأمر الذي جعله ملماً بكل تفاصيلها ودقائقها. ولقد أنشأت المملكة منذ ذلك الحين هيئة مستقلة سميت"اللجنة الخاصة"تابعة لمجلس الوزراء تولت عمليات الاتصال ورصد العلاقات. وبسبب موقف علي عبدالله صالح من اجتياح العراق للكويت سنة 1990، ألغت الرياض عقود العمالة لحوالي مليون يمني، كما جمدت المعونة المالية السنوية التي تبلغ بليون دولار. ولكن قرار الإلغاء لم يمنع تسلل اليمنيين الى الأراضي السعودية بحثاً عن لقمة العيش. وبحسب التعهدات التي أعطاها وزير الداخلية الأمير نايف بن عبدالعزيز، فإن الاجراءات السابقة ستتعرض للمراجعة بحيث يسقط الحظر عن"جدار برلين"الذي يفصل بين السعودية واليمن، خصوصاً بعدما وعد الرئيس علي عبدالله صالح بأن يجعل من نظام بلاده صنواً للأنظمة التي يريد الالتحاق بها في دول مجلس التعاون الخليجي. * كاتب وصحافي لبناني