عبر السنوات القليلة الماضية، تواترت في سورية الروايات التي تفكك بفنية عالية المحرم السياسي، ومن ذلك ما عاشته سورية من الصراع الدموي بين السلطة والإخوان المسلمين في نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات من القرن الماضي. لكن الروايات التي اشتغلت على هذا الصراع ظلت نادرة، وكان السبق فيها للكاتبة، كما في رواية منهل السراج"كما ينبغي لنهر"التي رسمت ما عاشته حماه من ذلك الصراع، ورواية روزا حسن"أبنوس"التي رسمت ما عاشته اللاذقية. ويضاف إلى ذلك ما جاء من اشتغال ثانوي في رواية أنيسة عبود"باب الحيرة"وحسيبة عبد الرحمن"الشرنقة". وإزاء ذلك تعلقت رواية خليل الرز"سلمون ايرلندي"بالفضاء الحلبي، ثم جاءت أخيراً روايتي خالد خليفة"مديح الكراهية"لتقول كل ما لم يقل، وما ينبغي أن يقال عن ذلك الصراع الذي فتك في الجسد السوري، ولم تزل آثاره فاعلة. ولئن كان خليفة جعل من حلب بؤرة الفضاء الروائي، فقد ترامى هذا الفضاء إلى حماه وتدمر والعاصمة والريف العلوي بخاصة. وتقنّع الكاتب بقناع"الراوية"التي تتولى الرواية، فبدت اللعبة بديعة حيناً، وتهتّك قناعها حيناً عن الساردة العليمة بكل أمر. من بيت أبيها انتقلت"الراوية"إلى بيت جدها حيث الخالات والأخوال. وللشخصيات جميعاً، من بيت إلى سوق إلى مدينة، قصصها التي تتناسل متراكبة غالباً، ومشتبكة أحياناً. فللسمرقندي الذي يرسم كمتعبد، والذي جاء به الجد، قصته التي ستمضي به مع ضابط فرنسي إلى باريس. وللخالة مريم قصتها، من عشقها الصامت لابن السمرقندي، إلى ما سيتكشف من العشق الصامت أيضاً بينها وبين الأعمى رضوان، وهي التي تسمي"الراوية"بالعالمة الصغيرة وتوصيها بأن الجسد دنس ومعصية. أما رضوان الذي جاء به الجد واندغم خادماً في نسيج العائلة، فهو الذي يقود الخالات والراوية إلى الحمام رمزاً لما تبقى من مجدٍ غابر، وهو المفتون بالعطور ويركبها. هكذا تنهض في الرواية متاهة عشرات القصص لعشرات الشخصيات، لكن"الراوية"تظل المركز، ابتداءً من مراهقتها، حيث تجاهد لتقي نفسها من المعصية المسماة"جسد"وتكبت أحلامها الجنسية، وتتبادل مع زميلتها دلال وجماعتها الكتب الصفراء. ويأتيها بهذه الكتب خالها بكر الذي يعمل كأبيه في تجارة السجاد، بينما تحرضها الخالة صفاء على الخروج إلى العالم، وتلاحقها روائح الحرام حتى بعد أن تنتظم في جماعة الإخوان المسلمين. وهنا تبدو كلمة الكراهية من عنوان الرواية كاشفاً بامتياز لشخصية"الراوية"ولأكثر الشخصيات الفاعلة الأخرى. ففي المدرسة اتفقت"الراوية"ومن انتظمت معهن على كراهية المخبرات اللواتي يفخرن بكلمة رفيقة، كعلامة على الانتساب لحزب البعث. ومن هؤلاء ستكون لندى التي تلبس بدلة المغاوير قصتها مع ضابط سرايا الموت الذي يصطحبها من المدرسة. وستكون لغادة التي تخلع الحجاب قصتها مع ضابط المخابرات الخمسيني الذي سيتخلى عنها ثم يحولها مخبرة، فتنتحر، بعد تصاعد الاغتيالات. أما"الراوية"فهي تكره المدرسة، والكراهية تربكها مثلما يربك الحب عاشقة. وحين تبلغ السابعة عشرة تفكر في الحاجة إلى الكراهية"كي نجعل لحياتنا معنى". وفي الحلقة التي انتظمت فيها، تتشرب ما تحضّ عليه أميرة الحلقة من كراهية الطوائف الأخرى. تبدأ الرواية بعد خمسها الأول بذكر أحداث حلب عبر شخصية الخال عمر المتمرد على الأسرة وشريك المهربين ومن سيتاجر بالسلاح حيث بدأت الاغتيالات الفردية"لموظفين وضباط صغار امتدح الناس أكثرهم". هنا يبدأ دور شقيق الراوية حسام المتدين والمتفوق في كلية الهندسة. ويبدأ دور الخال بكر الذي ينظم في البيت العريق اجتماعاً لتجار كبار وصناعيين اشتهروا بانتمائهم الى الإخوان المسلمين. ومعهم ضابط وسعودي واليمني عبد الله الذي ستجلو قصته أنه كان من القادة الماركسيين في اليمن الجنوبي، وصار قائداً في الجهاد الإسلامي، وتاجر سجاد، وسيتزوج الخالة صفاء، ويرحل بها إلى أفغانستان، بينما يكون الحريق السوري قد اندلع، ولم تعد لپ"الراوية"رغبة إلا في"أن أصبح شهيدة تحملني الطيور البيض نقية". كان حسام يبكي ويدور كالمجنون في حلقات المتصوفة التي يصطحبها إليه خاله بكر. وها هو الآن يغتال الجار الضابط الطيار عباس، ويتخفى. وكان ضابط آخر - تذهب الإشارة إلى إبراهيم اليوسف قد أعدم سبعة عشر طالباً في الكلية مدرسة المدفعية واختفى مع شركائه. حين انتشر الجنود ورجال الاستخبارات في المدينة، وفتشوا البيت العريق نظرت"الراوية"إلى الضابط وهي تفكر بأن الكراهية ستجعلها متماسكة غير آبهة. كما أعلنت في منظمتها استعدادها لحمل السلاح وقتال الكفار، بينما تخفى بكر، وراحت حلب تبدو من خلف غبش ملاءة الراوية قاسية وغامضة. فجنود"سرايا الموت"أثاروا الذعر مستهترين بالموت الذي حاصرهم بغتة في الأحياء العتيقة. ونساء المدينة يصلّين من أجل"رجالنا"ويجمعن التبرعات ويوصلن الرسائل. وحين تلتقي"الراوية"حسام في مطعم، يبدوان عشيقين - تمويهاً كما تنصّ التعليمات - تنتفج به أخاً وحبيباً وقائداً ورفيقاً، بينما يصفها عبد الله في رسالته إليها بپ"المجاهدة الصغيرة". ثم يقبل الطاعون فيصير الموت حدثاً عادياً ويتحول حكاية يومية، كأنما يشرع للرواية نهجها. وسوف يتكرر مثل هذا"التشريع"للنهج الروائي مع الخالة العانس مريم التي"تسرد سيرة خيالية للعائلة"، ومع وصال التي تروي لپ"الراوية"سيرة حياتها. ومع الساردة نفسها تبلغ حين تبلغ مجزرة السجن الصحراوي - والإشارة هنا إلى سجن تدمر - فنقرأ:"أكثر من 800 سجين قتلوا خلال أقل من ساعة، حملت البلد وزرات جثثهم إلى مكان سري لترميها في حفرة". وتشرح الراوية أن هذه المجزرة هي عملية"الفراشة النائمة"التي أمر بها قائد سرايا الموت بعد نبأ محاولة اغتيال الرئيس، فبدت حلب وحماة، في"عيد للبكاء"سيتبعه"كرنفال يذكر بطقوس مقتل الحسين". يثقل هذا النهج السردي"الراوية"بأحماله، فتجنح بالرواية في مزلق"قول كل شيء"بالأصالة عن نفسها وبالنيابة عن سائر الشخصيات في سائر الأحوال. لكن هذا المزلق سيورث الرواية العجز عن الإقناع في مواطن كثيرة، مهما تكن وثائقية أو وقائعية ما يُروى ومراراته. ولئن كان طول الجملة وتراكب أوصالها قد ضاعف من إثقال هذا النهج السردي، فكانت منجاة الرواية في المشهديات التي تألق فيها الفن وزخرت بها الرواية، فبدت بجلاء إفادة الكاتب القصوى من خبرته في كتابة السيناريو. ومن ذرى هذه المشهدية مشهد المدينة ليلة كسوف القمر، إذ غطى البشر الأسطحة ودوت الدفوف والموشحات الدينية والتكبيرات، وتراخى الجنود في هدنة تواطأ عليها الطرفان، بينما أصابت هستيريا الرقص الخالة مريم. ومثل ذلك هو اغتيال الدكتور عبد الكريم الدالي من الطائفة الأخرى وتشييعه وتبرؤ الطرفين من دمه، وهو من كان يصف"سرايا الموت"والإخوان المسلمين معاً بالفصيل الطائفي النازي، ويحث طلابه على رفض الطرفين، ويرفض حماية رجال الاستخبارات. يبدل هذا الصراع في مكنونات ومواقف الشخصيات تبديلاً. ولما حوصرت حلب وكان ما كان في مدينة حماة وضاق الخناق على الإخوان، أعلنت الراوية ما تتلمّسه من رهق الناس وانفضاضهم، فعزلت عن إمارة الحلقة، لتبدأ تساؤلاتها التي ستنضجها سنوات الاعتقال في فرع للأمن، وسنوات السجن الطويلة مع رفيقاتها ومع سجينات يساريات وجنائيات، فيبلغ بها كل ذلك الى السفور ومواصلة دراستها في كلية الطب بعد السجن، وتدرك عقم الكراهية الطائفية بخاصة والكراهية بعامة. ويتتوج ذلك بسفرها إلى لندن بجواز سفر مزوّر، وبموت الشاب الذي عشقته وإن لم تعرفه، إثر إصابته مع عبد الله اليمني في أفغانستان، فكان أن مزقت جواز سفرها بتراً للماضي وتعبيراً عن البحث عن انتماء جديد. من التحولات الكبرى والدقيقة والرامزة للشخصيات، تحولات الخالة مروة على إيقاع الصراع، من تحنيط الفراشات إلى كسر عمود الأسرة بالألفاظ النابية والتدخين والعبث، وصولاً إلى عشق الضابط نذير المصمودي الذي قاد حملة تفتيش البيت العريق. وقد عاقبها بكر بإرسال من يقيدها إلى السرير فتجاهلت الأسرة بصمتها حتى تأكدت نجاة نذير من الاغتيال وفكّ قيدها وكان الزلزال بزواجهما. فنذير كأبيه الشيخ المرموق في الطائفة الأخرى ضد الطائفية. إنها معمعة من التحولات لعشرات الشخصيات في معمعة الأحداث. ولكي يكون لذلك نظامه الدقيق، كان للرواية هذان الإيقاعان: الكراهية، والرائحة. هي ذي"الراوية"أصبحت تكره بيت جدها الذي كانت مولعة به. وعندما قيدت مروة إلى السرير باتت الأسرة تتبادل أدوار"الكراهية"التي تذوقت"الراوية"طعمها في نظرات مروة. أما زوجة بكر فقد تحللت من"كثافة كراهيتها للطائفة الأخرى"وباركت زواج مروة من نذير. أما الإيقاع الروائي الأكبر فهو الرائحة. فپ"الراوية"أغرقت نفسها في روائح البصل لتتطهر من شهوتها بعدما تخللت أصابع غادة شعرها لتطرد رائحة عفن. وعشيق غادة تركها مخلفاً لها رائحته. والأم تبحث عن رائحة أصابع ابنها حسام، وفي البيت العريق فشت روائح كريهة مختلطة بروائح بول الجنود، وشوارع حلب المثقلة برائحة السرو باتت مثقلة برائحة الموت، ومروة تتحدث عن رائحة حبيبها الضابط نذير، ورائحة العت تهب من السجاد، ورضوان الأعمى"أرشف"الروائح في ذاكرته، وهو الذي أحب رائحة البيت العريق يفتقد رائحة الجد. وروائح القيح تفوح من أجساد السجينات اللواتي يتراشقن الاتهامات ونسين رائحة شراشفهن وابتلين برائحة غائط السجانين والجلادين. وفي السجن تكره"الراوية"رائحة دورتها الشهرية، وحين تميل إلى المعيد في الكلية بعد الإفراج عنها تشبه رائحته برائحة الموتى، هي التي كانت مدمنة على رائحة البهار عنوان الفصل الثالث...