ربما اعتقد قارئ ان كرة القدم، أو كأس العالم تحديداً، مسألة حياة أو موت، الا انها في الواقع أهم من ذلك كثيراً، فالذي يموت غير مضطر للاستيقاظ في اليوم التالي متذكراً خسارته. كأس العالم على الأبواب، وهي هذه السنة في ألمانيا حيث حضرت بطولة 1974 مع زوجتي وكانت حاملاً، وتابعت كل بطولة محلية وعالمية لاحقة، لذلك أعتبر نفسي من هواة هذه اللعبة الشعبية، ومع ذلك فأنا أفاجأ مرة بعد مرة بالهواة الحقيقيين الذين ينامون ويقومون على كرة القدم، ويأكلون كرة ويشربون ويتنفسون. هاوي الكرة الحقيقي، مثل لاعبها، عقله في قدميه، لذلك تراه يخلص لفريق مع ان اللاعبين يتغيرون باستمرار. وهو يعشق هداف الفريق، فإذا غيَّر هذا قميصه بالانتقال الى فريق آخر كرهه كما قد يكره عشيقة خائنة. والهاوي هذا يجلس في مقعده المفضل أمام التلفزيون ليتابع مباراة لفريقه، ويتحمس ويصرخ بالتعليمات للاعبين، وينبههم الى خطر لاعبي الفريق الآخر، وكأنهم يسمعونه. عندما يكون الهاوي من هذا النوع، فالجدل معه عبث، والزوجة الذكية هي من تعامل زوجها الهاوي"على قد عقله"وتتبع شروطاً معلومة وجدت بين المنشور منها: - التلفزيون ملك الزوج طوال بطولة كأس العالم، ويمنع أن يلمس"الريموت"أحد غيره. - يمنع على الزوجة، أو الأولاد أو"الشغالة"المرور أمام شاشة التلفزيون أثناء مباراة، وإذا حجب جسم الزوجة الشاشة، لأنه بعرضها، وسجل فريق هدفاً، فهذا سبب لطلاق بائن. - يفترض أن تقرأ الزوجة صفحات الرياضة في الجرائد كل صباح، لتعرف آخر أخبار كأس العالم، ولتناقش زوجها فيها ولتفهم ما يقول على مدى أسبوعين. - يجب أن تعتني الزوجة بصحتها وصحة الأولاد خلال كأس العالم، فترتدي ويرتدون ثياباً دافئة لتجنب أنواع المرض، بما في ذلك الزكام، لأن الزوج لن يجد الوقت لأخذ المرضى من الأسرة الى الطبيب. - الزوج يصاب خلال كأس العالم بالصمم، لذلك لن يفتح الباب اذا رن الجرس، ولن يرد على الهاتف، واذا احترق البيت، لا سمح الله، فسيحترق معه لأنه يصاب أيضاً بالشلل أمام التلفزيون عندما يلعب أي فريقين، ولكن خصوصاً اذا لعب فريق بلاده. - اذا خسر الفريق الوطني فلا عزاء، ولا فائدة من القول"ولا يهمك، ستأتي مناسبة أخرى بعد أربع سنوات"، فالتعزية تزيد الألم. وكان الإمام علي قال:"ينام الإنسان على الثكل ولا ينام على الحَرَب"، أي فقد المال، الا ان هذا كان قديماً، واليوم ينام الإنسان على الثكل ولا ينام على خسارة"ماتش كورة". - الزوج الهاوي سيحضر كل مباراة حيّة متوافرة على التلفزيون، الا أنه سيحضر أيضاً إعادة المباريات آخر الليل، لذلك يبقى التلفزيون وجواره منطقة محظورة على أفراد الأسرة الآخرين، مثل مناطق الحظر الجوي في العراق، وعلى المخالف ان يتوقع رداً أقله القصف اذا دخل المنطقة الممنوعة. - طالما ان مباريات كأس العالم مستمرة، فالعائلة لن تستقبل ضيوفاً، حتى الوالدة أو الحماة العائدة من سفر، أو الابن العائد من الجامعة. - اذا قالت الزوجة: الحمد لله ان كأس العالم تأتي مرة كل أربع سنوات، فقد لا تعيش حتى ترى البطولة التالية. اعتقد ان ما سبق دليل مفيد للزوجة خلال كأس العالم، ولا أعتقد أن هناك مبالغة، فكرة القدم قصة حب بين مغفَّلَيْن، فالهاوي يحب اللاعب وهذا لا يعرف بوجوده، واللاعب مليونير، ومع ذلك يركض وراء الكرة كالمجنون مع أنه يملك من المال لشراء معمل كرات. طبعاً عندما أتحدث عن اللاعب المليونير، فأنا أتحدث عن اللاعبين في الغرب حيث يُشترى اللاعب البارز ويباع بعشرات ملايين اليورو أو الجنيه. وقد تحسن وضع اللاعبين في بلادنا، غير أنني عندما كنت صغيراً وأتابع الكرة بحماسة، كانت الفرق فقيرة واللاعبون معدمين. وأذكر عن فريقي المفضل ان الفئران في مبنى الفريق ماتت من الجوع، والقط انتقل للعيش مع فريق منافس. واللاعب من فريقي هذا يظل أفضل حظاً من لاعب كرة أيام صدام حسين وابنيه، فهو اذا خسر يصبح"لاعبة". اللاعب الغربي لا يكتسب الملايين فقط، وإنما يفوز بالحسان، وكل لاعب بارز لا يستحق اسمه اذا لم تتعلق بساعده حسناء شابة يغيرها كما يغير قميص الفريق. وهناك برنامج تلفزيوني اسمه"زوجات لاعبي الكرة"سمعت انه أكثر تحفظاً من الحقيقة. الانكليز يزعمون ان جورج بست الذي توفي السنة الماضية كان أفضل لاعب كرة في العالم، لذلك يقولون عن بيليه انه"ثاني أفضل لاعب كرة". وجورج بست كان في ذروة قدرته لاعباً متفوقاً، وله انتصارات خارج الملعب، فقد عشقته ملكات جمال العالم مع ملكات جمال بريطانيا، وعندما توفي زاحمت صورهن في الأخبار عنه صور الكؤوس التي انتزعها مع فريق مانشستر يونايتد. وهو قال يوماً ان تسجيل هدف ضد ليفربول أجمل من النوم مع ملكة جمال العالم. وشرح غيره تفضيل الكرة بالقول ان الجنس موجود كل يوم، غير ان كأس العالم تأتي مرة كل أربع سنوات. هناك في كأس العالم فريقان عربيان، هما السعودي والتونسي، ولو كنت مدرب أي من الفريقين وأردت استثارة اللاعبين قبل مباراة مع الفريق البريطاني أو الفرنسي لقلت لهم: تذكروا كيف استعمرونا. تذكروا سايكس - بيكو. تذكروا الهجرة اليهودية الى فلسطين. تذكروا ثورة الجزائر وشهداءها...