من الحقائق التي كثيراً ما تغيب عن أذهان بعض من يتحدثون عن مخاطر السلاح النووي وما يمثله من تهديد للسلم والأمن الدوليين أن"حظر الانتشار النووي"نظام موقت بطبيعته ولا بد أن ينهار إذا جرت محاولة لفرضه كنظام دائم. ذلك أن مفهوم"حظر الانتشار"ينصرف إلى مجموعة من الإجراءات تستهدف الحد من سباق التسلح النووي والحيلولة دون ظهور قوى نووية جديدة، أي تجميد حال العالم النووية عند نقطة معينة لئلا تنتشر العدوى انتشاراً يستحيل معه الحفاظ على الحد الأدنى من التوازن المطلوب لتحقيق السلم والأمن الدوليين. والمعروف أن ميثاق الأممالمتحدة الذي تم التوقيع عليه بالأحرف الأولى في 26 حزيران يونيو 1945 في ختام مؤتمر تأسيسي عقد لهذا الغرض في سان فرانسيسكو، لم يشر من قريب أو بعيد إلى مفهوم"حظر الانتشار"لكنه تحدث عن مفاهيم أخرى مثل"نزع السلاح"و"تنظيم التسلح"... إلخ، وحدد آليات يتعين على المنظمة الدولية الجديدة أن تناقش من خلالها كيفية الوصول إلى نظام دولي مقبول لتنظيم التسلح بصفة عامة من دون أي ذكر للسلاح النووي الذي لم يكن العالم يعلم شيئاً عنه حتى تلك اللحظة بما في ذلك نزع السلاح. ولو أن الولاياتالمتحدة التي كان برنامجها النووي السري تمكن بالفعل من التوصل إلى انتاج وتصنيع السلاح النووي، استخدمت هذا السلاح أو أعلنت عن وجوده قبل إبرام الميثاق لعالج المجتمع الدولي قضية تنظيم التسلح بطريقة مختلفة كلياً. ولأن المجتمع الدولي يدرك تمام الإدراك أن تجميد الحال النووية عند وضع معين وعلى نحو دائم يعني تقسيم العالم إلى فئتين من الدول: واحدة تملك الحق في امتلاك السلاح النووي وأخرى لا تملك الحق نفسه، وهو أمر يستحيل قبوله، أصبح من المسلم به أن"حظر انتشار السلاح النووي"هو بطبيعته نظام موقت لمرحلة انتقالية تمهد لنظام دائم يقوم على"نزع السلاح النووي"وتخليص العالم نهائياً من شروره ومخاطره. ولو كان نظام"حظر الانتشار النووي"صمم كنظام دائم لكان من الضروري تضمين معاهدة 1968 نصوصاً صريحة تحدد الشروط والمعايير اللازم توافرها في الدول التي يحق لها وتلك التي لا يحق لها امتلاك هذا السلاح، كما كان من الضروري أيضاً تحديد الجهة المنوط بها فحص وتقدير مدى توافر الشروط المطلوبة من عدمه، وهو ما لم يحدث، ولا كان متصور الحدوث أصلاً. إن نظرة عابرة على ما يدور الآن على الساحة الدولية متعلقا بقضايا التسلح النووي يكشف بوضوح تام أن نظام"حظر الانتشار النووي"، شأنه في ذلك شأن نظام"الأمن الجماعي"، تعرض للتشويه ثم للتحريف ليتحول في النهاية، وخصوصًا بعد سقوط وانهيار الاتحاد السوفياتي، إلى أداة ابتزاز وبلطجة دولية. ويكفي للتدليل على ذلك التذكير بعدد من الحقائق نجملها على النحو الآتي: الحقيقة الأولى: أن الولاياتالمتحدة هي أول من أنتج السلاح النووي وصنعه، وهي الدولة الوحيدة التي استخدمته على طول التاريخ البشري. وهي لم تكتف باستخدامه مرة واحدة، حين ألقت قنبلتها الأولى على مدينة هيروشيما في 6 آب أغسطس 1945، وإنما كررت استخدامه مع سبق الإصرار حين ألقت قنبلتها الثانية على مدينة ناغازاكي بعد ذلك بثلاثة أيام فقط، على رغم تأكدها التام من حجم الأضرار التي أحدثها سلاحها الرهيب عقب الضربة الأولى، وعلى رغم تأكدها التام من استحالة استمرار اليايان في الحرب. ولذلك فمن الواضح أن أي ادعاء يستند إلى التمييز بين النظم الديموقراطية وغير الديموقراطية في ما يتعلق بقرار ظروف وملابسات استخدام السلاح النووي هو مجرد لغو لا معنى له! الحقيقة الثانية: أن احتكار الولاياتالمتحدة للسلاح النووي لم يصمد سوى سنوات قليلة. فقد تمكن الاتحاد السوفياتي من كسر هذا الاحتكار عام 1949، ثم لحقت بهما كل من المملكة المتحدة وفرنسا. ومع ذلك لم يبدأ موضوع الانتشار النووي يثير القلق الفعلي ويرتب حقائق جديدة على الأرض إلا بعد نجاح الصين في القيام بأول تجاربها النووية في منصف الستينات. في سياق كهذا، يمكن القول إن بداية التفكير الجدي في اتجاه بلورة آلية تستهدف حظر الانتشار النووي بدأ عقب دخول الصين النادي النووي واستند إلى منطق معقول يبرر قبول المجتمع الدولي لفكرة التمييز بين دول يحق لها امتلاك السلاح النووي مرحلياً، وأخرى يتعين عليها أن تتخلى عن هذا الحق لفترة معقولة تسمح بالاتفاق خلالها على نظام لنزع السلاح النووي كلية. واستند هذا المنطق إلى المسؤولية الخاصة الملقاة على عاتق الدول دائمة العضوية في المنظومة العالمية ليحفظ السلم والأمن الدوليين. ولأن المجتمع الدولي كان وافق من قبل على فكرة التمييز بين الدول وقننها في ميثاق الأممالمتحدة, حين قصر العضوية الدائمة في مجلس الأمن على خمس دول حددها بالاسم، هي الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي والمملكة المتحدة وفرنسا والصين، ومنحها وحدها حق الاعتراض على مشروعات القرارات المعروضة عليه أيضا"الفيتو"، فلم يكن هناك ما يمنع على الصعيدين الأخلاقي والسياسي من تكرار نفس التمييز في نظام"حظر انتشار السلاح النووي". غير أن وجود المنطق لا يكفي وحده حافزاً لإنشاء آلية مقبولة يستند إليها نظام حظر الانتشار النووي. ولذا تعين التوصل إلى صفقة متوازنة بين الدول"النووية"والدول"غير النووية"قبل أن يصبح ممكناً إقناع عدد كاف من الدول المعنية بأهمية إبرام"معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية"وهو ما تم عام 1968. ويقوم هذا التوازن على قاعدة التكافؤ والتبادل في المصالح والمسؤوليات والحقوق والواجبات. ووفقاً لهذه الصفقة تلتزم الدول غير النووية بعدم السعي إلى إنتاج أو حيازة السلاح النووي وإخضاع برامجها النووية - التي يتعين أن تكون مخصصة فقط للأغراض السلمية - لنظام تفتيش ورقابة تشرف عليه الوكالة الدولية للطاقة الذرية. في المقابل تلتزم الدول النووية بعدم تقديم أية مساعدات في مجال التكنولوجيا النووية للدول التي لا تقبل الانضمام لمعاهدة حظر الانتشار، وقصر هذه المساعدات على الدول التي تقبل الانضمام لهذه المعاهدة حتى يكون حافزا يتيح لها فرصة الاستفادة القصوى من التطبيقات السلمية للتكنولوجيا النووية. وهكذا توقفت فاعلية صفقة, بدت حينها منطقية ومتوازنة شكلاً، على أمرين أساسيين. الأول: تنفيذ الدول الأعضاء النووية منها وغير النووية للالتزامات الواقعة على عاتقها بموجب اتفاقية حظر الانتشار بحسن نية، والثاني: فعالية نظام الرقابة والتفتيش الذي تشرف عليه وكالة الطاقة النووية وحسن أدائها للدور المنوط بها بحياد كامل. ولأن الاتفاق على هذه الصفقة لم يكن يعني بأي حال من الأحوال قبولاً بتقسيم المجتمع الدولي نهائياً إلى دول نووية وأخرى غير نووية, فقد توقف النجاح النهائي لنظام حظر الانتشار النووي على شرط آخر وهو مدى جدية الدول النووية في المضي قدما في المفاوضات الخاصة بالحد من التسلح النووي تمهيداً للوصول إلى اتفاق شامل لنزع هذا السلاح وتخليص العالم منه نهائياً. وهو ما لم يحدث. وهكذا بدا واضحاً لكل ذي عينين أن نظام حظر الانتشار النووي لا بد وأن ينتقل بمرور الوقت من فشل إلى آخر إذا استمر حرص الدول الكبرى على الاحتفاظ بسلاحها النووي إلى الأبد. وهذا ما حدث بالفعل. وتمكنت دول أخرى من غير الدول المسموح لها وفق المعاهدة باختراق النادي النووي, بعدما استطاعت انتاج وتصنيع السلاح النووي بالفعل, على رغم نظام الحظر. بعض هذه الدول دخل إلى النادي النووي علناً وتابع العالم تطور تفجيراته النووية, مثل الهند وباكستان وربما كوريا الشمالية ايضاً، وبعضها الآخر دخل إلى هذا النادي ضمناً وسراً من دون أن يعلن عن/ أو حتى يعترف بامتلاكه للسلاح النووي، مثل إسرائيل. أما أسباب الفشل فهي كثيرة ويمكن أجمالها على النحو الآتي: 1- رفض بعض الدول الانضمام إلى معاهدة حظر الانتشار النووي وإصرارها في الوقت ذاته على أن تكون لديها برامج نووية سرية تستهدف في نهاية المطاف حيازة أو أنتاج وتصنيع القنبلة النووية، مما ترتب عليه وجود ثلاث أنواع من الدول: دول نووية مسموح لها شرعاً بامتلاك السلاح النووي, ودول غير نووية ملتزمة قانوناً بعدم امتلاك هذا السلاح وقبلت إخضاع منشأتها النووية لتفتيش الوكالة الدولية للطاقة النووية، ودول غير نووية ترفض الانضمام إلى معاهدة حظر الانتشار وبالتالي غير ملزمة قانوناً بإخضاع منشأتها النووية للتفتيش. وفي بعض الأحيان بدت الدول غير المنضمة للمعاهدة في موقف أقوى من الدول المنضمة لها. 2- عدم تقيد كل من الدول النووية والدول غير النووية المنضمة لمعاهدة حظر الانتشار بالتزاماتها المنصوص عليها في المعاهدة بالكامل. فمن المقطوع به الآن أن دولاً نووية، في مقدمها الولاياتالمتحدة، قدمت مساعدات لدول أخرى، في مقدمتها إسرائيل، كان من المعروف أنها تسعى الى إنتاج وتصنيع السلاح النووي. ومن المعروف أيضا أن من بين الدول التي انضمت طواعية للمعاهدة من سعى لامتلاك السلاح النووي وحاول الاستفادة من التسهيلات المقدمة له وفق المعاهدة لخدمة برنامج سري تناقض وجوده كلية مع التزاماتها المعلنة. بل إن الدول التي تم تضييق الخناق عليها لم تتردد في الانسحاب فعلا من المعاهدة. وكوريا هي المثال الواضح على ذلك. 3- وجود ثغرات واضحة في نظام الإشراف الدولي. فقد مال هذا النظام لتركيز التفتيش والرقابة على بعض الدول دون الأخرى، وعلى الدول الساعية للحصول على التكنولوجيا النووية والمستقبلة لها، بأكثر من تركيزها على الدول المالكة لهذه التكنولوجيا والمانحة لها. 4- غياب سلطة عليا فوق الدول قادرة على فرض إرادتها العادلة والمتطابقة مع القانون على الجميع، خصوصاً بعد المحاولات التي جرت لتهميش الأممالمتحدة من حانب القوتين العظميين أولاً ثم من حانب الولاياتالمتحدة بعد ذلك. في سياق كهذا يبدو واضحاً أن جذور المسألة أو"الأزمة"الإيرانية المرشحة للتصعيد خلال الأسابيع والشهور المقبلة, والتي قد تؤدي تطوراتها غير المنضبطة إلى تهديد حقيقي وخطير للسلم والأمن الدولييين، لا تكمن بالضرورة في سوء نوايا إيران وسعيها للحصول على سلاح محظور حصل عليها غيرها فعلا بكل الطرق غير المشروعة، ولكنها تكمن في الخلل البنيوي لنظام لحظر انتشار أصبح انتقائياً ودائماً، خصوصاً أن الولاياتالمتحدة وليس المجتمع الدولي أصبحت صاحب القول الفصل والكلمة الأخيرة فيمن يحق أو لا يحق له امتلاك هذا السلاح، أو يستحقه. إذا كان العالم جاداً حقا في حظر الانتشار النووي فعليه أن يبدأ فوراً في الاتفاق على تنفيذ برنامج يستهدف نزع السلاح النووي. فنزع السلاح النووي هو الوسيلة الأكثر فعالية لمنع الانتشار النووي. * كاتب مصري.