يطرح القرار الجديد الذي تبناه مجلس الأمن بالإجماع للحد من انتشار الأسلحة والقدرات النووية العسكرية في العالم تساؤلات حول مدى نجاح تلك الخطوة. والقرار ولد محصناً بعد أن تبناه بالإجماع مجلس الأمن الدولي خلال قمته التاريخية التي حضرها رؤساء الدول الخمس عشرة الأعضاء فيه وترأسها الرئيس الأميركي باراك أوباما في سابقة من نوعها منذ عام 1946. وبدا نص القرار كما لو كان جامعاً بحضه جميع الدول المالكة الأسلحة النووية على التخلي عن ترساناتها الفتاكة من تلك الأسلحة، ودعوته لتكثيف الجهود لمنع انتشار الأسلحة النووية وتعزيز نزع التسلح والحد من مخاطر الإرهاب النووي، إلى جانب مطالبته الدول غير الموقعة على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية بالوفاء بالالتزامات الواردة فيها، فضلاً عن حثه على حشد التأييد العالمي لدعم وتعزيز تلك المعاهدة. وعلى رغم أن القرار لم يذكر بالاسم أياً من الدول التي ولجت لاحقاً النادي النووي مثل إسرائيل والهند وباكستان وكوريا الشمالية، كما لم يتعرض لتلك التي تخوض مواجهة مع الغرب بشأن برنامجها النووي كإيران، إلا أن موافقة الدول النووية المعلنة مثل روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، إلى جانب عدد من الدول النامية، من شأنها أن تعطيه وزناً دولياً أكبر ودعماً سياسياً أقوى يجعلانه وثيقة تأسيسية مهمة. غير أن افتقاد ذلك القرار الأممي الجديد لمنع الانتشار النووي، من جانب آخر، للآليات الفاعلة وأدوات الردع الصارمة والجداول الزمنية المحددة، علاوة على ربطه بما سبقه من خطوات على هذا الدرب والتي تمحورت جميعها في نظام منع الانتشار النووي، الذي بدأ العمل قبل ما يناهز أربعة عقود وتعتبر معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية لعام 1968 والمعروفة اختصاراً باسم N.P.T وكذا البروتوكول الإضافي الملحق بها عام 1997 حجر الزاوية فيه، إنما يفرض تحديات جساماً أمام ذلك القرار، الذي سيضطر إلى تحمل أوزار وأعباء وإخفاقات نظام منع الانتشار النووي بمراحله وآلياته كافة، وهو ما قد يهوي بذلك القرار إلى المآل ذاته الذي آل إليه النظام هذا، ما لم تتكاتف جهود القوى الكبرى في هذا العالم لمعالجة أوجه القصور التي شابت ذلك الأخير وتهيئة الأجواء لتفعيل قرار مجلس الأمن وإنجاحه. ويمكن الادعاء بأن نظام منع الانتشار النووي ولد معيباً وحاملاً بين ثناياه عوامل ضعفه كونه تأسس على مبدأ احتكار دول بعينها السلاح النووي من دون سواها مع احتفاظها بحقها في تطويره وتضخيمه كيفما شاءت، في الوقت الذي لا تدخر تلك الدول وسعاً في منع غيرها، وبشكل انتقائي أيضاً، من أن تحذو حذوها، بل وإذلال من تسول له نفسه من غير حلفائها تحدي هذا الوضع الجائر. وبرأسه يطل ذلك الطابع التمييزي لمعاهدة منع الانتشار النووي، والتي لا ترسخ نظاماً فعالاً وعادلاً لنزع الأسلحة النووية وحظرها بقدر ما تميز بين دول استطاعت أن تمتلك تلك الأسلحة بإجرائها تفجيراً نووياً قبل الأول من كانون الثاني (يناير) عام 1967، وأعطتها المعاهدة الحق في أن تكون دولاً نووية معلنة أو معترفاً بها، وهي الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، وبين بقية دول العالم التي لم تستطع أن تحقق الإنجاز نفسه قبل التاريخ ذاته، ومن ثم كان لزاماً عليها أن تبقى دولاً غير مالكة السلاح النووي، لا سيما تلك التي قبلت أن تكون داخل نظام منع الانتشار طوعاً أو حتى قهراً إثر ضغوط مارستها عليها الدول الكبرى، الأمر الذي قد تشعر معه بعض الدول بالظلم الواقع عليها، نتيجة وجودها داخل النظام والتزامها منع الانتشار في الوقت الذي اختارت فيه دول أخرى أن تبقى حرة خارجه أو أن تنسلخ عنه فتبني قوة نووية عسكرية حتى وإن ظلت مصنفة دولياً كدولة نووية «غير معلنة». ومع هذا التمييز، فإن الأمر قد يبدو، في نظر الرأي العام داخل الدول الملتزمة، كما لو أن التزامها أنتج «عقوبة» عليها، في الوقت الذي كان عدم الالتزام «مكافأة» لغيرها. ولعل ما يبعث على الدهشة افتقار نظام منع الانتشار النووي لنص صريح يحظر استخدام الأسلحة النووية كما يفتقد وجود آلية ملزمة من شأنها أن تجبر الدول المالكة السلاح النووي على الالتزام بمنع الاستخدام ويفرض عليها عقوبات رادعة حال إقدامها على هذا الخرق. وعلى رغم أن محكمة العدل الدولية أصدرت رأياً استشارياً مهماً يذهب إلى القول بتحريم استخدام الأسلحة النووية باعتبارها أسلحة دمار شامل، يبقى هذا الرأي الاستشاري ذا قيمة سياسية رمزية لا تصل في أهميتها إلى حد ما تمثله النصوص القانونية الملزمة والتي يترتب على انتهاكها عقوبات دولية صارمة. من ناحية أخرى، افتقر نظام منع الانتشار النووي لآلية رادعة من شأنها أن تحمل الدول النووية الخمس المعلنة على احترام التزاماتها التي تفرضها عليها معاهدة منع الانتشار النووي والخاصة بعدم مساعدة أية دولة غير نووية على تطوير أو حيازة أسلحة نووية، ومن ثم ظهرت دول عدة بقدرات نووية متباينة ليصل الأمر في النهاية إلى ما يسمى ظاهرة «الدول النووية غير المعلنة» وهي الدول التي انضمت أخيراً إلى النادي النووي إلى جوار الخمس الكبار بعد أن تمكنت من التحايل على نظام منع الانتشار النووي واستطاعت تصنيع أو امتلاك أسلحة نووية كإسرائيل وجنوب أفريقيا (أعلنت تفكيك برنامجها النووي العسكري قبل قرابة عقدين) ثم الهند ومن بعدها الباكستان وأخيراً كوريا الشمالية. وعلاوة على ذلك، استطاعت دول أخرى تطوير قدرات نووية حتى باتت دولة «عتبة نووية» عام 2007 مثل إيران بعد أن حصلت على التسهيلات تحت ستار الاستخدام السلمي، وليس سراً أن المواد أو التصميمات أو التكنولوجيا أو الكوادر التي وظفت في بناء برامج نووية لدول أعضاء في نظام منع الانتشار قيل إنها كانت برامج ذات بعد عسكري، وبخاصة في حالات العراق وكوريا الشمالية وليبيا وإيران، جاءت من الدول النووية الخمس المعلنة دائمة العضوية في مجلس الأمن، أو من شركات تابعة لهذه الدول، وإن كان بعضها قد جاء من السوق النووية الدولية السوداء. وفي السياق ذاته، حذر المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي مطلع شهر أيار (مايو) 2009 من أن هناك ما بين 10 و 20 دولة حول العالم في سبيلها لامتلاك القدرة على إنتاج أسلحة نووية قريباً في حال عدم اتخاذ القوى الكبرى خطوات جذرية للتخلص من ترسانتها النووية، وأكد البرادعي، في تصريحات لصحيفة «الغارديان» البريطانية، أن عدد الدول التي من المحتمل أن تصبح نووية قد يرتفع إلى أكثر من الضعف، وأن خطر هذا الانتشار يتعاظم خصوصاً في الشرق الأوسط، الأمر الذي يعتبره البرادعي مؤشراً لانهيار النظام الدولي الخاص بالحد من الانتشار النووي. وفي ظل عدم عدالة نظام منع الانتشار النووي ومع تشديد الدول الكبرى المحتكرة للأسلحة النووية الخناق على الدول غير النووية، تصر تلك الأخيرة على المضي قدماً في برامجها النووية، على نحو ما جرى مع نظام الرئيس الراحل صدام حسين في العراق، والذي لم يزدد إصراراً على مواصلة مساعيه لبلوغ طموحاته النووية إلا بعد أن تعرض للحصار الاقتصادي والضربات العسكرية المتتالية، وكذلك إيران، التي لم يزدها الحصار الاقتصادي والعزل السياسي إلا عزماً على استئناف وتطوير قدراتها النووية وبرامجها الصاروخية، حيث جاء إعلان الرئيس الإيراني افتتاحه أول مشروع لإنتاج الوقود النووي بعد يوم واحد فقط من بدء المفاوضات المباشرة حول الحوافز الأوروبية لطهران لتعليق برنامجها النووي. أما كوريا الشمالية، التي سبق أن أبرمت اتفاقاً إبان المحادثات السداسية لتفكيك محطتها النووية «يونغبيون» مقابل حوافز غربية ضخمة وإنهاء عزلتها الدولية، فقد تراجعت بعد ساعات قلائل من وضع مجلس الأمن الدولي ثلاث شركات كورية شمالية ضمن قائمة سوداء للأمم المتحدة، وبعد الانتقادات اللاذعة من مجلس الأمن بسبب إطلاقها صاروخاً بعيد المدى، حيث أعلنت استئناف أنشطتها النووية كما طردت مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية وقاطعت المحادثات السداسية، حتى أجرت أولى تجاربها النووية في تشرين الأول (أكتوبر) 2006، ثم ثانيتها الأقوى وثالثتها الأشد قوة في الصيف الماضي. وكان من شأن ذلك القصور في نظام منع الإنتشار النووي، أن شجع عدداً من الخبراء على الدعوة إلى صياغة نظام عالمي جديد في هذا المضمار يكون أكثر فعالية، معتبرين أن البداية تكمن في ضرورة إلغاء معاهدة حظر الانتشار النووي واستبدالها بأخرى أكثر صرامة وموضوعية، مؤكدين أن عملية الضبط والرقابة تحتاج إلى نظام جديد بآليات جديدة يتمتع بقوة الردع التي تكفل عدم التمادي والتجاوز من قبل الدول الكبرى والصغرى في آن، وحبذا لو تضمن النظام الجديد تنسيقاً بين مجلس الأمن والوكالة الدولية للطاقة الذرية يخول الأخيرة الوصول إلى أي مكان بكل أريحية لإجراء عملية الرقابة والتفتيش للتأكد من عدم وجود خرق، لاسيما أن المعاهدة الحالية وبنودها الداخلية لا تعطي الأحقية الكافية في عملية التتبع والرقابة، الأمر الذي أدى إلى خرقها من قبل العديد من الدول وفي مقدمها الدول الموقعة عليها. وبنهج تمييزي أيضاً، حاولت الدول الكبرى إصلاح جوانب القصور في المعاهدة عبر البروتوكول الإضافي الملحق بها بهدف إحكام رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية على البرامج النووية للدول غير النووية الأعضاء في الاتفاقية. فقد جاءت فكرة البروتوكول بعد أن بدا للدول الكبرى أن نظام التفتيش الذي أقرته المعاهدة لم يخل من ثغرات سمحت لبعض الدول بتطوير قدرات نووية رغم انضمامها اليها. ومن ثم ابتدعت فكرة «البروتوكول الإضافي» الذي ينص على ضرورة حصول الوكالة الدولية للطاقة الذرية على معلومات كاملة عن أي أنشطة نووية في الدولة المنضمة إليه، بما في ذلك الصادرات والواردات من المواد النووية، كما ينص على حق مفتشي الوكالة في الوصول إلى أي مكان لتفتيشه في أي وقت، حتى ولو نفت الدولة أية صلة له بالأنشطة النووية، وذلك في فترة زمنية قصيرة قد تصل إلى ساعتين على أن يشمل ذلك حق مفتشي الوكالة في الدخول الفوري إلى الدولة والتوجه مباشرة إلى المكان المطلوب تفتيشه. وهو ما يعني أن البروتوكول الإضافي يضع الدول غير النووية الموقعة عليه، تحت الوصاية الفعلية للوكالة الدولية للطاقة الذرية، حيث بدأت الدول الكبرى تمارس ضغوطها على تلك الدول لحملها على توقيع البروتوكول كشرط لتمرير برامجها النووية وحصولها على الدعم الفني من الوكالة والدول النووية المعلنة. وبذلك، لا يعدو البروتوكول الإضافي أن يكون حلقة جديدة في مسلسل الإجراءات القانونية والسياسية الفنية الدولية الرامية إلى تكريس حالة الاحتكار النووي، ذلك أنه يؤثر عدم المساس بالدول المالكة للأسلحة والقدرات النووية وغير الملتزمة بمعاهدة حظر الانتشار النووي، بينما يصر على الإمعان في تضييق الخناق على الدول غير النووية الملتزمة بتلك المعاهدة. ولم تكن مساعي الدول الكبرى النووية لخفض ترساناتها النووية كمسار مواز داعم لجهود عدم الانتشار النووي بأفضل حال، حيث تواجه تلك المساعي الثنائية من قبل واشنطنوموسكو مصاعب عديدة، يتصدرها سعي كل طرف للي عنقها خدمة لأهدافه ومصالحة الاستراتيجية، إذ تمضي المفاوضات حالياً بينهما لمواصلة برامج الحد من الأسلحة النووية بالتوازي عبر تجديد معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية «ستارت -2» والتي ستحل محل معاهدة «ستارت 1- » إثر انتهاء فترة سريانها نهاية العام الجاري. ومن جانبها، تصر موسكو على ضرورة التوصل إلى معاهدة جديدة وليس الاكتفاء بتمديد السابقة، وأن تتضمن صيغتها الجديدة بنداً واضحاً في شأن عدم حصر عملية تقليص الأسلحة الاستراتيجية في الرؤوس النووية وإنما يجب أن يشمل سحب طائرات وغواصات مزودة أسلحة نووية، كما يشدد الروس على ضرورة إبقاء بند يحظر نشر البلدين أسلحة استراتيجية خارج حدودهما، ويصر الروس أيضاً على إدراج مشروع الدرع الصاروخية الأميركية، الذي كانت واشنطن تنوي نشر محطات رادارية لها وسط أوروبا ثم تراجعت أخيراً، ضمن أية ترتيبات في هذا الخصوص. ويتصل بذلك سعي الرئيس الأميركي أوباما إلى صياغة اتفاقية جديدة تتوقف بموجبها جميع الدول عن إنتاج المزيد من المواد القابلة للانشطار كاليورانيوم والبلوتنيوم، وهي المرحلة الأصعب من إنتاج وتصنيع السلاح النووي، وذلك بعد أن أكدت تقارير استخباراتية أميركية أن باكستان، التي تمتلك ما بين 80 إلى مئة رأس نووي، شرعت خلال الآونة الأخيرة في إنتاج كميات كبيرة من اليورانيوم والبلوتنيوم علاوة على شراء كميات أخرى من السوق السوداء العالمية مستفيدة من المساعدات المالية التي تقدمها لها واشنطن من أجل محاربة الإرهاب، فيما تقدم واشنطن دعماً بقيمة 100 مليون دولار لمساعدة إسلام آباد على تأمين ترسانتها النووية من الوقوع في أيدي متطرفين. بيد أن مساعي أوباما هي الأخرى لا تزال تشوبها الظنون وتحيط بها الشكوك كونها تتعارض مع طموحات ومشاريع استراتيجية أميركية عالمية تغذي سباق التسلح، لم يكن لأوباما وقفات جادة وإيجابية حيالها. ومن واقع ذلك التعثر في الجهود الدولية الرامية إلى وضع نهاية لمأساة الانتشار النووي حول العالم، يبدو جلياً أن فرص نجاح القرار الجديد لمجلس الأمن الدولي في هذا المضمار، تبقى مرتهنة بقدرة الدول الكبرى على تدعيم ذلك القرار بآليات ناجعة تضمن تنفيذه. * كاتب مصري