نعم، حين عرفت كل التفاصيل، قلت في قرارة نفسي هكذا نحن العرب، نعقد مؤتمرات وفعاليات في تونس والجزائر والأردن ومصر وغيرها احتفالاً بمرور ستمئة عام على وفاة ابن خلدون، فلا نستطيع ان نوظف الحدث سياحياً كما فعل الاسبان. هم فكروا ودققوا ورأوا ان الحدث حاضر، وهو بعث ابن خلدون سفيراً من ملك غرناطة الى اشبيلية لعقد مصالحة مع بطرس الأول الذي التقاه في قصر اشبيلية سنة 1365. استغل الاسبان المعاصرون هذه الزيارة التاريخية فأحيوا في القصر نفسه معرضاً يتناول عصر ابن خلدون ومآثره. ويعد القصر بعظمة معماره وترف أثاثه أهم قطعة في المعرض الذي يستمر من أيار مايو حتى تشرين الأول اكتوبر. مئة قطعة من داخل اسبانيا وخارجها تعبر عن اقسام العرض المتحفي. من خلال الخرائط ذات الطابع السياسي أو الاقتصادي أو الديموغرافي. ولعل أكثر الخرائط الملفتة للانتباه خريطة ملاحية من المكتبة الامبروزية في ميلانو. أما القسم الثاني فيبرز أوضاع الدول خلال عصر ابن خلدون، إذ ظهرت ممالك جديدة في أوروبا مثل كابيتو فالوا في فرنسا، والاستوارتيين في انكلترا، ومملكة قشتالة وقطالونيا والبرتغال في شبه الجزيرة الايبيرية. وشهد ذلك العصر ايضاً"تدهور الامبراطورية البيزنطية وسقوطها". وفي هذا القسم نشاهد راية واقعة السالادو من كاتدرائية تولادو، وكرسي رئيسة الراهبات لدونيا دي أرغون من أرشيف تاج أرغون. أما الحراك داخل المعرض بين الثقافات والحضارات فيراه الزائر في القسم الخاص بالتجار والسلع، فنرى موانئ جنوة والبندقية وعبور الاطلسي وطريق الحرير، والسلع ووسائل نقلها: الحرير، القطن، الصوف، السكر والملح والتوابل، وسلع الترف كالذهب والفضة والعاج، ليعرج الزائر بعد ذلك على السفن وأنواعها والقوافل والجمال. ويستكمل هذا القسم باستعراض لنشأة البنوك كبنك"لاكازا دي سان جورج"بجنوة سنة 1407، ونشاهد كذلك التقدم التقني في ذلك القرن كالملاحة وطواحين الهواء والساعات، فضلاً عن الاسلحة النارية. أما قسم الديموغرافيا والكوارث، فيشكل في ذهن الزائر مآسي القرن الرابع عشر الميلادي كالطاعون الاسود وجغرافيته وبعض الشهادات والوثائق الخاصة به. ولنقف الآن طويلاً أمام الشخصية التاريخية التي يدور حولها المعرض، صور ومخطوطات تحكي رحلته بدءاً من الأصل الاندلسي وهجرة عائلته من اشبيلية الى تونس في فترة شبابه وسفره الى المغرب وعمله في البلاط الملكي في فاس، ثم اقامته في غرناطة وسفارته لاشبيلية، واخيراً استقراره في القاهرة. ويعقب ذلك قسم تحت عنوان"الطريق الى عصر النهضة"، وفيه اعلام عرب وأوروبيون معاصرون لابن خلدون مثل المقريزي وابن هذيل ولسان الدين بن الخطيب، ودانتي اليغياري، وماركوبولو، ووليام أوف اكهام، وغيرهم كثير. ولعلني في جولتي بالمعرض توقفت كثيراً أمام بعض القطع المبهرة، كمخطوطة تاريخ البربر لابن خلدون التي جلبت من المكتبة الوطنية في مدريد، وتوقيع ابن خلدون الذي يشير الى انتهائه من كتابة مقدمته الشهيرة وهي محفوظة في دير الاسكوريال، وعملة نادرة لبطرس الأول، ورسالة سلطان غرناطة إلى الملك خايمي الثاني دي أرغون من أرشيف تاج أرغون، وخوذة السلطان برقوق الذي عاش ابن خلدون خلال عصره بالقاهرة، وكرسي مصحف من دمشق حيث ارتحل ابن خلدون ليفاوض تيمورلنك. هكذا جاء المعرض ليعبر عن حياة ابن خلدون وعصره. لكن دعونا نتوقف أمام النجاح الباهر الذي حققته مؤسسة تراث الأندلس، سواء في تنظيم المعرض أو في الفعاليات المصاحبة له، مثل عروض من الموسيقى العربية الأندلسية وموسيقى البلاط الملكي الاسباني في القرن الرابع عشر وذلك في قصر إشبيلية، وهو ما سينقل زوار المعرض الى روح ذلك القرن، كما ستشهد غرناطة في شهر حزيران يونيو ملتقى دولياً حول ابن خلدون وعصره مع إسقاطات على القرن الواحد والعشرين، فضلاً عن رحلات علمية لطلاب المدارس الاسبانية. وأكثر ما يستدعي الانتباه هو التكامل للدعاية للمعرض بين شركات السياحة ومؤسسة تراث الأندلس، بحيث امتدت هذه الحملة لاستغلال ما كتبه الكاتب الاميركي واشنطن ايرفينج عن قصور الحمراء، وذلك من أجل الترويج للمعرض في الولاياتالمتحدة الأميركية وغيرها من دول العالم.