حلّت كآبةٌ ما على الوجوه المصرية مؤخراً وربما الوجوه اللبنانية ايضاً، والعربية الاخرى.... كآبة الحدث الراهن وصوره المتتالية. وكآبة مناخ مثقل بالمعاني السوداوية ومحمول على مرارة وعجز عميقََين مستقَرين. البعض يحاول ان يضفي على هذه الحالة شيئا من السخرية الرادحة. ولكن المحاولة ترتطم بفراغ رؤيتها، فتسفر عن كآبة من نوع آخر: كآبة الفراغ. ولا ينجو من هذا العبث الكئيب اصحاب الايديولوجيات المنتصرة الآن، أي الاسلاميون. فهؤلاء بالأساس ولدوا من بطن الخيبة ونشأوا على نتائجها. وتنضح وجوههم، المتشوّقة الى تطبيق الحدود، بتغلغل الكآبة في ذوقهم وفي كينونتهم. كل مصري يحاول ان يجد سببا جوهرياً لكآبته هذه، عندما ينفرد بنفسه او باصدقائه القريبين. كل مصري عنده حنين جارف الى ماض معين. بالأمس القريب طغى الشوق الى"الزمن الجميل"، الذي كان يعني الحقبة الناصرية المفعمة بالأمل والواثقة بالمستقبل. والآن، في هذه اللحظة، ينتعش الحنين الى"الزمن الأجمل": زمن القصور والبشوات والهوانم والاقطاع، برفعته وذوقه وليبراليته. والزمنان يتعادلان امام الحنين الى زمن اكثر توغلاً: الزمن الذي يعلو كل الازمان:"الزمن الذهبي". أيام فجر الإسلام والخلافة الراشدة، ولا يمر يوم من دون استرجاع المشاهد والمآثر ونماذج ابطال الاسلام الاول وعهده كامل الاوصاف. فالكآبة هي صانعة ذاكرة مصفّاة من كل شوائب التاريخ. وعندما تسير الامور، كل الامور، وباضطراد، نحو الاسوأ، فهذا مدعاة منطقية للإستنتاج بأن الماضي كان افضل. مثل الطفولة. ما الذي نحبه في الطفولة، كل الطفولات، مهما كانت حزينة؟ نحب ذاك الاحساس الغامر بأن الحياة امامنا، ولا يمكن ان تحمل الا الأمل. الأمل... هناك الآن تآكل للأمل. ولذلك فالحنين الاكثر شرعية هو الحنين الى العهد الاقدم. الامل مفقود، والحاجة اليه ملحّة. فالامل ليس كله صناعة خيال فحسب. والا صار اسمه تهويمات او هلوسات. الامل يحتاج من الواقع ان يقنعه، ان يدعمه، ان يحييه، ان يبقيه. فاللهجات الآملة المتأملة الآن كاذبة. ليس بالضرورة كذبا شريراً، بل كذبا"تربويا": يرمي الى عدم"قتل الأمل"في نفوس الناس الكئيبة المسكينة. نوع من الشعور بالمسؤولية المعنوية عن المزاج العام، كذبة مغفورة سلفا، ولكن لا يجب ان تدوم، والا عادت الكآبة أكبر وأكبر. كان هناك بصيص امل منذ اقل من عامين تقريباً في مصر. امل بمقاس الوضع الراهن. اعني شيئاً من الربيع حلّ على القاهرة، شيئاً ما خرج من قمقم الصمت، ففكّك الالسن. وطالت حرية التعبير ما لم تطله طوال عقود: الرئيس، صاحب السلطات الاستثنائية. فانتقلت الالسن المدّاحة الى الهجاء فوراً. وانتعش الامل بتغيير ما. الربيع مثل كل ربيع عربي آخر كان مختصراً، أقصر مما هو عادة. اذ وُضع اصحاب الدعوة الى تعديل الادوار بين خيارين مرّين: إما الفوضى القائمة، وإما الفوضى الاشد، اي بعبارات اخرى: ممنوع اختراع ادوار جديدة في المشهد السياسي الراهن. فالربيع كان يعني تفكيك الادوار وإعادة فرزها وتوزيعها على عدد اوسع من طالبي الدور. اما الخريف المبكر، الذي قطع فرصة الربيع، فكان يعني: إعادة تنظيم الوضع القائم، بحيث تُحتكر الادوار، كما كانت الحال، ولا يكون في المشهد الا ما يقلّ من الابطال. أي احتكار الطاقات البشرية كلها وإرغامها على الشلل. هذا ما يعبر عنه المصريون، بفصاحة المثقفين من بينهم، وحصافة غير المتعلمين منهم. كآبتهم نتيجة إرغامهم على الشلل، وتحطيم أية ارادة تخرجها طاقاتهم الاجتماعية، او مجرد الاهتمام بما يجمعهم، أي الشأن العام. بمعنى آخر: ان كآبتهم ناجمة عن اهمال طاقة كل منهم، وعدم الاعتراف بوجوده، بالحاجة اليه، بموهبته او فضائله، او ربما بمجرد قدرته المتواضعة ولكن الاكيدة على العطاء. كأنه ذرة من ذرات الجماهير المرصوصة الكثيفة، والكئيبة بطبيعة الحال. هذا امر يعذب اكثر من مصري"اللهم الا الملتحق بسرايا الامل الاسلامي، والتي لا تدعو الا الى ابتهاج شكلي، او تعبوي، او رفعا للعتب. الارجح ان كآبة المُطالب بدور تستفحل كلما كان طلبه قويا، ملحّا عليه، مثل الوسواس. فطالب الدور يعتقد، وهذا حقه البديهي كمواطن، أن بإمكانه، ومن غير تسوّل، في ما لو مضى حراً للعب دور ما، ان ينجح ويفوق غيره من المتولّين الآن، لكنه كل مرة يصطدم بمحتجزي الدور ومحتكريه. وفي المرات القليلة التي وعد نفسه فيها بدور، عاد على أعقابه متكدراً، اكثر كآبة مما كان في آخر خيبة. الكآبة السياسية الراهنة تشبه الوظيفة الراهنة في الدولة. فالدولة تقلص الوظائف، فيما الطلب على الوظائف يتعاظم نتيجة ارتفاع البطالة. بكل ما في وظيفة الدولة من تدنٍ للاجور، وظائف الدولة هي مجال خلقته الدولة. وهي الآن بصدد التراجع عنه. وما الامل بها الا مقدمة جديدة لإحباط وكآبة اجتماعيين. في السياسة الشيء القريب، الدور الذي ينهال على السياسة نتيجة الحراك الاخير، لا تريده الدولة الهرمية وغير القابلة للتداول. والواضح انها تأمر نفسها بمنع بزوغ ادوار من خارجها، فيما طالبو الادوار الى تزايد. فهي بصدد الصراع على الوجود الآن. وتجنّب نوبات الكآبة السياسية يتطلب اليأس من المجالات والمشاهد والادوار التي خلقتها الدولة. وان يباشر طالبو الدور، مثل طالبي الوظيفة الخائبين، خلق مجالاتهم"والتي تأتي معها بلا ريب المشاهد والادوار المطلوبة. مثلهم مثل الخائضين في مجال السوق بحثا عن عمل لن تمنحه لهم الدولة. سوق متقلّب ومتوّحش، لكنه يتيح وعيا آخر، مجالات ممكنة اخرى، هوامش حرية، ومعها امكنة تنضح بيأس سعيد، متحرّر من آلة الكآبة الجهنمية، و سراب قفرها.