تحاكم الشاشة غالباً، وتوضع في قفص الاتهام، لأنها تقدم مواد تلفزيونية بلا مستوى، في مختلف الأشكال. لكن أليس ما يقدمه التلفزيون هو ما يطلبه المشاهدون، في شكل أو آخر؟ الشاشة تقدم تلفزيون الواقع، فيلقى متابعة جماهيرية، لعام واثنين وثلاثة، أو أكثر. ولو رفض الجمهور هذا النوع من البرامج وهو يرفضها أحياناً، على اعتبار أن ليس ذوق واحد يحكم المشاهدين لما وجد طريقاً إلى العرض، كما حصل مع برنامج تلفزيون الواقع"الراحل""الأخ الأكبر"، الذي لم يستمر بثه طويلاً، تحت"ضغط"الشارع العربي. تقدم الشاشة أيضاً أغنيات، على طبق من فيديو كليب، فيتلقفها مشاهدون كثر بالترحيب الإلكتروني، على طريقة الرسائل القصيرة SMS. وما يجعل شعوراً يخامر النفس ويقول إن عدد محبي أغنيات الفيديو كليب أكبر من عدد رافضي هذا النوع من"الرسائل الإعلامية"، هو ذلك العدد الكبير، أيضاً، للمحطات التلفزيونية المتخصصة ببث الأغنيات طوال الوقت: هل تتكبد هذه المحطات"الراقصة"خسائر مادية، أم أنها محطات رابحة تغري سواها بالدخول إلى سوق المنافسة؟ يظهر على الشاشة، وهي المنوّعة في كل حال، أفلام سينمائية قديمة، بالأبيض والأسود. مكررة، لفرط ما شاهدها المشاهدون - الحافظون للنص والحركة من كثرة ما أعيد بثها. لكن هذا التكرار في عرض الأفلام السينمائية القديمة لا يمنع رواجها، وتخصيص محطات كاملة بها. ترى لو أن هذه المواد الإعلامية غير مقبولة جماهيرياً، هل كانت ستجد طريقاً إلى الشاشة؟ وهل تُشاهد عند ذلك؟ في الغالب أن الجواب لا. في المقابل، على الضفة الأخرى من المواد الإعلامية الممكن مشاهدتها على التلفزيون في حلته الفضائية، لا يقدم التلفزيون ثقافة. هل هذا يعني أن لا جمهور للثقافة، تلفزيونياً على الأقل؟ ولا برامج جادة، حوارية أو وثائقية، على الأقل بما يوازي، أو قل يوازن، الحضور الطاغي للمادة"الخفيفة"التي تطفو على السطح، وتسيل من طرف التلفزيون. أليس جمهور ذلك الصندوق الملوّن، التلفزيون، منوّعاً، وواسعاً جداً ويكاد يبدو لا نهائياً - أي أنه يتابع مواد إعلامية أخرى؟ هل يخضع منطق البث لمعادلة الربح والخسارة فقط؟ هل التلفزيون مؤسسة تجارية فحسب، لا دور ثقافياً أو اجتماعياً لها؟ إذ لا بد من التأكيد على أن غالبية محطات التلفزيون الخاصة هي مؤسسات تجارية تسعى إلى الربح: إذ، نجد أن أغنيات الفيديو كليب والأفلام العربية القديمة وبرامج تلفزيون الواقع، رابحة لأن لها جمهوراً ذا ثقل اقتصادي، وبالتالي هي مفضلة لدى أصحاب المحطات التلفزيونية والمعلنين، فيما البرامج الحوارية الجادة والوثائقية والثقافية خاسرة - إما لأن لا جمهور لها، أو لأن جمهورها لا يعتمد عليه ماديا. هل تبدو، بناء على ذلك، أن محاكمة التلفزيون، بتهمة بث ما هب ودب من مواد إعلامية، غير منطقية؟ أم أن من واجب الشاشة أن تتخلى، ولو قليلاً، عن هدفها التجاري الربحي المنشود، وتبحث عن فسحة أخرى فيها بعضاً من المواد الإعلامية الحقيقية، على الأقل انطلاقاً من فكرة أن الفضاء الذي تبث من خلاله محطات التلفزيون هو ملك عام، للجميع، بمن فيهم أولئك"الخاملون"اقتصادياً، وغير المعوّل عليهم مادياً؟ هل جاء اليوم الذي يترحّم فيه المشاهد على زمن كانت فيه المحطات الرسمية، تبث برامجها لكل الفئات، بما فيها الفئة المفيدة تجارياً؟