تواجه السلطة الفلسطينية منذ وصول"حماس"الى الحكم أزمة مالية مستحكمة. فالسلطة تعتمد الى حد بعيد على المعونات المالية التي تصلها من مختلف الدول والمؤسسات المالية الدولية. وفي ضوء قرار الولاياتالمتحدة ومن ورائها دول الاتحاد الأوروبي عدم التعامل مع حكومة"حماس"حتى تعلن تغيير سياستها تجاه اسرائيل وقبول مبدأ المفاوضات، فإن هذه المعونات المالية توقفت ولم تعد تصل الى السلطة. وفي الوقت نفسه فإن معظم البنوك - بما فيها البنوك العربية - خشية الوقوع في مشاكل مع بنوك دول العالم المتقدم، فإنها بدورها تمتنع عن تحويل المبالغ المالية الى السلطة الفلسطينية حتى وان كانت من مصادر من غير أميركا وأوروبا. وقد ترتب على ذلك ان عجزت السلطة الفلسطينية عن دفع المرتبات للموظفين لأكثر من شهرين ولا يتوقع ان تكون قادرة على الدفع قريباً، مما يعني ان اكثر من مئة وستين الف عائلة - عدد موظفي السلطة - لن يتسلموا مرتبات لما يقرب من ثلاثة أشهر. فما العمل؟ وكيف يدير الناس أحوالهم في مثل هذه الظروف؟ ليست لدي معرفة مباشرة بما يحدث، ولكنني أتوقع ان ضرورات استمرار الحياة والمعاملات وعدم دفع الأجور والمرتبات ستؤدي الى سلسلة واسعة من الائتمان والمديونية في التعامل بين الناس. فالعائلة التي تشتري الطعام ولوازم الحياة اليومية لن تتوقف عن الحصول عليها - على الأقل في الحد الأدنى - بانتظار دفع المرتبات والأجور، خصوصاً أن معظم السكان لا يملكون عادة فائضاً من السيولة. ولذلك فإن الطبيعي والمتوقع ان تستمر العائلات في التعامل مع البقال والخباز على الشراء بالدين وعلى أساس الدفع حين تتم تسوية المرتبات. ولكن البقال والخباز بدورهما يشتريان البضائع من تاجر آخر ولا بد من الدفع، واذا لم يكن زبائنهما يدفعون نقداً، فإنهما بدورهما لا بد وأن يقنعا الموردين بقبول التوريد على سبيل القرض الى حين زوال الكرب ووصول المساعدات الأجنبية. فنحن إزاء فترة زمنية موقتة بتوقف استخدام جزء كبير من النقود التي تضخها الخزينة الى السوق على شكل مرتبات وأجور. فهل تتوقف الحياة؟ مستحيل. السبيل هو أن يقوم كل فرد على حدة بتوفير أداة"دفع خاصة"في شكل مديونيته الخاصة التي يقدمها الى البائع معتمداً على أن البائع سيثق فيه نتيجة تعامله معه لسنوات وسنوات. وبالمنطق نفسه يقوم البائع - بخلق أداة دفع خاصة ايضاً على شكل مديونيته هو للحصول على البضائع من تجار الجملة أو غيرهم من الموردين. وهكذا يتحول التعامل في الاقتصاد المحلي الى شبكة واسعة من التعاملات بالمديونيات الخاصة - والتي تصبح في الواقع أدوات دفع - وان كانت بدرجات متفاوتة من الثقة في صدقية المدينين، وبالتالي في مدى قبول التعامل معهم بالدين. فبعضهم يكون على درجة عالية من الصدقية والأمانة وبالتالي من المحتم أنهم سيفون ديونهم متى تم دفع الأجور والمرتبات وعادت الأمور الى مجاريها، ولكن هناك البعض ممن يمكن أن يسوفوا أو حتى يمتنعوا عن الوفاء كلياً أو جزئياً. وهكذا فإن هذا النظام للائتمان الخاص ينطوي على درجة عالية من المخاطر، بالنسبة الى الجميع، لأن الجميع، بائعين ومشترين، سيصبحون في الوقت نفسه دائنين ومدينين. فالبقال قد يصبح دائناً لزبائنه ولكنه سيكون مديناً للمورد. وهكذا. وليس هذا هو الخطر الوحيد، فهناك خطر آخر، ذلك أنه من المتوقع ألا يستطيع الفرد الحصول على احتياجاته على رغم أمانته وحرصه على السداد حين يصل المرتب أو الأجر، إلا أن البائع وقد زادت دائنته لدى الآخرين فإنه غالباً لا يريد أن يزيد مخاطره. فالتعامل بالائتمان له حدود. ولذلك نجد أن نظام"الائتمان الخاص"والمديونيات الخاصة كأدوات دفع ليست افضل الحلول، ومن الطبيعي أن تحاول السلطة الفلسطينية عبر السلطة النقدية فيها أن تجد حلاً موقتاً أكثر كفاءة. ونبدأ بالقول انه لا عيب في أن تعتمد المعاملات على الائتمان، بل أن جوهر الاقتصاد النقدي هو أنه اقتصاد يقوم اساساً على الائتمان، ولكنه ائتمان مقدم من مدين مقبول ومضمون هو الدولة أو السلطات النقدية. فالورقة النقدية هي في نهاية الأمر سند بمديونية الدولة أو السلطات النقدية، فجوهر النقود هو أنها دين على الدولة أو السلطات النقدية البنك المركزي، وهذا الدين قابل للتداول. فما دام المدين مضموناً - لأنه الدولة وسلطاتها النقدية - فإن الدائن أي حامل الورقة النقدية يستطيع ببساطة أن ينقل هذه المديونية الى شخص آخر مقابل ما يحصل عليه من سلع أو خدمات. ولذلك يقال ان النقود أو مديونية الدولة تتمتع بالقبول العام، فكل فرد في الاقتصاد مستعد للتنازل عما يملكه من سلع أو ما يقدمه من خدمات مقابل الحصول على مديونية الدولة، وهو يفعل ذلك لأنه يعلم أن الآخرين مثله على استعداد لعمل الشيء نفسه أي ان مديونية الدولة تتمتع ب"القبول العام". وهذا هو تعريف النقود. ونظراً لأنها تتمتع بالقبول، فإنه يمكن استخدامها للحصول على ما يشاء صاحبها من سلع وخدمات، ولذلك يقال إنها"قوة شرائية"عامة، بمعنى أن صاحب هذه النقود - أو هذه المديونية - يمكن أن يبادلها للحصول على ما يشاء من السلع والخدمات المعروضة للبيع. فالنقود، كما يعرفها الاقتصاديون، هي قوة شرائية عامة تتمتع بالقبول العام. وهكذا يتضح أن الفارق بين الوضع السائد في حال وجود نقود رسمية وبين الوضع القائم عند عدم وجود نقود والاعتماد على تبادل المديونيات الخاصة، هو فارق في طبيعة المدين. في الحالتين، يتم التعامل على أساس المديونيات والائتمان، ولكن في حالة الاقتصاد النقدي، هناك مدين معترف به ويتمتع بالصدقية والثقة، وهذا المدين هو الدولة أو البنك المركزي. هذا كله معروف وتتحدث عنه مبادئ الاقتصاد. فكيف نستفيد من هذه المعرفة في حالة السلطة الفلسطينية في ظروفها الحالية. هناك توقف في تدفق المساعدات، وبالتالي في توافر النقود المتداولة في الأراضي المحتلة الدينار الأردني والشيكل الإسرائيلي والدولار الأميركي والسلطة الفلسطينية غير قادرة على تزويد الأفراد بالمرتبات والأجور بهذه النقود، فماذا تفعل؟ إذا وقفت السلطة مكتوفة الأيدي، فإن الأفراد سيتجهون بحكم الضرورة الى الصورة التي شرحتها في التوسع بالتعامل بالمديونيات الخاصة، أي ستقوم بدور النقود آلاف مؤلفة من مديونيات الأفراد التي تختلف في مدى صدقيتها وبالتالي قدرتها على التداول. فهل هذه هي الطريقة الوحيدة أمام السلطة، أم أن لديها وسائل أخرى؟ هناك بالطبع وسيلة طبيعية هي أن تقوم السلطات النقدية في السلطة الفلسطينية بإصدار نوع من أدوات الدفع الموقتة في شكل مديونية وثائق، بنكنوت، أو بونات على سلطة النقد أن تدفعها الى موظفي الدولة باعتبارها ديناً عليها وتستخدم في المعاملات المحلية لحين وصول التحويلات من المساعدات الخارجية وعندها تسحب هذه الوثائق من التداول. ويشترط لنجاح هذه العملية أن تتأكد الحكومة الفلسطينية - سلطة ورئيساً - أن المساعدات عندما تصل فلا بد أن تسدد أولاً هذه السلطة النقدية مقابل ما قدمته من أدوات دفع لموظفين. وهكذا فربما تكون"سلطة النقد الفلسطينية"هي الهيئة المناسبة لإصدار مثل هذه الأدوات للدفع، وأن تكون تابعة مباشرة لرئيس السلطة فضلاً عن أن تمتعها باستقلال سيساعد على توفير اطمئنان المجتمع الدولي، ويشترط بطبيعة الأحوال أن يكون اصدار أدوات الدفع هذه مقيداً وبحيث لا يتجاوز بأي حال حجم المرتبات المتأخرة أو نسبة معينة منعاً لاحتمالات التضخم. ويمكن أن تحقق مثل هذه التجربة فوائد متعددة، فهي تستبدل بالمديونيات الشخصية المتعددة مديونية وحيدة هي مديونية السلطة النقدية. وهكذا تعطي أصحاب الأجور والمرتبات حقوقاً متساوية في التعامل، لأنهم لا يتعاملون بحسب مدى درجة جدارة ائتمانهم الشخصي، وإنما يتعامل الجميع بحسب الثقة في السلطة النقدية وما تصدره من تعهدات قابلة للوفاء. ولكن هناك أيضاً فائدة أخرى، وهي تعود المواطنين على التعامل بنقود تصدرها سلطة النقد الفلسطينية أي بنقود فلسطينية للمرة الأولى. واصدار نقود وطنية هو أول مظاهر السيادة الوطنية. هل يحل هذا الأسلوب جميع المشاكل؟ كلا، إذا نجحت السلطة في اصدار مثل هذه الوثائق، وبحيث تكون جيدة الاصدار وغير سهلة التزوير، فإنها يمكن أن تحل جزئياً مشكلة المعاملات المحلية، أما التعامل مع الخارج، خصوصاً الاستيراد، فهذه قضية أخرى لا يمكن علاجها باجراءات نقدية محلية بحتة. فهل تحاول السلطة الفلسطينية اتخاذ اجراء موقت بإصدار عملة موقتة أو بنكنوت فلسطيني موقت يمكن أن يكون نواة في المستقبل لعملة وطنية؟ * اقتصادي عربي