عقد "المنتدى العالمي الرابع للماء" في مدينة مكسيكو عاصمة المكسيك أخيراً، وسط أجواء غير مألوفة قياساً الى المنتديات الثلاثة الماضية، التي استضافها المغرب 1997، ثم هولندا 2000 واليابان 2003. وتمثّل جديده في ميل المشاركين فيه الى اللخروج عن سكّة المقاربة التقنية التي كانت تطبع مقارباته سابقاً, لمصلحة نبرة أعلى في السياسة، وإصرار على النظر الى الموضوع من وجهة الحقوق والواجبات. وعبّرت بوليفيا، من خلال وفدها الرسمي، عن هذه المقاربة، علماً أنها الدولة الوحيدة التي تفرد للماء وزارة متخصصة. وخارج قاعات المنتدى، عُقد"منتدى بديل"شاركت فيه منظمات من المجتمع المدني. كما عقدت للمرة الأولى"المحكمة اللاتينة - الأميركية للماء"التي"تداولت"قانونياً حالات خلافية تتعلق بالنزاعات على الماء. وتنسب بعض الأوساط الإعلامية هذا التغيير إلى عوامل عدّة، منها حدة مشكلة المياه في العاصمة المكسيكية حيث الشبكة مهددة بالانهيار في السنوات العشر المقبلة، إضافة الى الصورة العامة لموضوع الماء الذي شرع في اقتباس بعض من"معالم النفط". وبحسب ما أوردته صحيفة"لا جورنادا"المكسيكية، فان"الذهب الأزرق يتحوّل كل يوم إلى مادة نادرة وغالية". ومن الأمثلة على الشبه بين الماء والنفط، تخطي سوق قناني المياه عالمياً عتبة 22 مليار دولار سنوياً، تأتي من إنتاج 113 مليار قنينة! إعتراف مقلق: العطش الى توسّع تحت عنوان"وضع حد لاستعمال الموارد المائية الجوفية غير القابلة للتجديد، ووضع حدّ للتلوث الصناعي"، بدأ المنتدى إجتماعاته التي استمرت أسبوعاً. وسرعان ما برزت خلاصة أولية هي بمثابة اعتراف مقلق: لن ينجح العالم في تقليص عدد الأشخاص الذين ليس لهم وصول إلى شبكة مياه الشرب وإلى شبكة الصرف الصحي، بحلول عام 2015، وبمقدار النصف، كما طلبت الأممالمتحدة. إذ تدلّ جميع التوقعات الى أن الأسعار قد ترتفع في السنوات المقبلة بموازاة الطلب المتزايد، مع تدني العرض بنسبة الثلث، في السنوات العشرين المقبلة. وفي الوضع الراهن، يقدر عدد الذين لا يصلون في شكل مناسب إلى شبكات مياه الشرب بنحو مليار ونصف. وتتوقع الأبحاث أن يرتفع هذا العدد إلى سبعة مليارات عام 2050، بحسب بعض الفرضيات المتشائمة، وإلى مليارين بحسب الفرضيات الأشد تفاؤلاً! والحال ان الوضع العام للمياه في العالم لا يدعو الى التفاؤل. إذ تُشكّل المياه الحلوة 3 في المئة من مجمل الموارد المائية للأرض، وتُمثّل المياه المالحة النسبة الباقية. ويتركز 60 في المئة من تلك المياه الحلوة في ثماني دول، فيما تعاني ثمانون دولة من نقص في مواردها الخاصة، لذا يعمد بعضها الى تدبّر احتياجاته بالإعتماد على شبكات التوزيع العالمية، كحال الكويت مثلاً. ويتوزع استعمال المياه الحلوة على الشكل التالي: 75 في المئة تذهب للري الزراعي فيتبخر منها نحو 35 في المئة، وپ13 في المئة للمياه المنزلية التي يضيع نصفها تقريباً بسبب حال البنى التحتية، وأخيراً 12 في المئة للصناعة. وعلى قاعدة هذه المعطيات، نعيش اليوم في عالم يسكنه 6 مليارات نسمة، فلا يحصل مليار ونصف منهم على مياه الشفة، ويفتقد 4 مليارات إلى مياه الصرف الصحي. ونتيجة لذلك، تشكل الأمراض المائية سبباً أول للوفيات في العالم. وتُقدر بنحو ثمانية ملايين نسمة سنوياً، ما يوازي وفاة أكثر من عشرين ألفاً في اليوم، ونصفهم من الأولاد. والمعلوم ان الكائن الإنساني يحتاج يومياً لنحو عشرين ليتراً للبقاء على قيد الحياة و50 ليتراً للتمتع بنظافة وصحة لائقتين. بين الحق وكلفته أدت تلك المعطيات لانقسام المنتدى بين قطبين متناقضين: تحلّق الأول حول شركات المياه، وتجمّع الثاني حول المنظمات غير الحكومية. ويشبه الأمر المواجهة بين الواقع و... الحق. فقد أصرّ مناصرو الشركات على تناول مسألة الملح من وجهة المصالح، بحيث أعطوا الأولوية لسؤال:"من سيدفع"؟ ومالت المنظمات غير الحكومية للبحث في الأمر نفسه انطلاقاً من الحق الإنساني في الماء. وسادت أحياناً أجواء مشحونة بالتوتر، في موضوع يمس صحة الانسان وحياته. بشيء من التبسيط، يمكن تلخيص موقف الفريق الأول على الشكل التالي: المعضلة واحدة في الدول كلها، ولكن لا يوجد حل بسيط وموحد لها. وتختلف معطيات المشكلة المائية من بلد إلى بلد. فمثلاً، تصل كلفة الماء الى 0،7 في المئة من الدخل في الولاياتالمتحدة، بينما يصل الرقم عينه الى 18 في المئة في إندونيسيا، وپ4 في المئة في أوروبا. وتتطلب المياه استثمارات ضخمة، يجدر البحث عنها ببراغماتية ومن دون إيديولوجيا. وفي الدول التي تمتلك قطاعاً عاماً ناشطاً، يبرز موضوع حسن الإدارة، مع الميل للاعتماد على السلطات المحلية لحل مشكلة النقص في الإمدادات. ولم يخل هذا الفريق من أصوات متطرفة اكتفت بترداد المقولة التقليدية بأن القطاع العام فاسد ويفتقد إلى الكفاءة والرساميل. وفي المقابل، قدّم الطرف الأخر دراسات تدل الى نجاح القطاع العام في تجارب مثل تخليص مدينتي أوزاكا وبنوم بيه من مشكلتي الجباية وهدر المياه، وتفوقه على تجارب القطاع الخاص في مدن مثل جاكرتا ومانيلا. الضرائب التصاعدية للمياه قدّم رئيس صندوق النقد العالمي السابق ميشال كامدسوس، تقريراً طالب فيه"باعتماد التعرفة التصاعدية واللامركزية المالية كأدوات أساسية لجعل حلم الماء للجميع ممكناً". ووعد رجل الأعمال كارلوس سليم، ثالث أغنى رجل في العالم وصديق القيادات اليسارية الصاعدة في أميركا اللاتينية، باستثمارات جديدة لتنظيف المياه الملوثة بواسطة شركته لتطوير البنى التحتية في أميركا اللاتينية"إيديال"IDEAL . وأكّد سليم أن"الحق في الماء لا يناقش، ولكن لا مفر من أن تكون مدفوعة". على هذا الصعيد، يمكن القول أن مواقف الطرف الثاني ساهمت في تسليط الأضواء على ضرورة وصول الماء بأدنى كلفة ممكنة الى الفقراء، وأنه من المستحيل النظر إليه كمجرد سلعة."أهي المياه مصدر حياة أم مصدر ربح؟"سأل اللاهوتي ليوناردو بوف. ومال المجتمعون للتسليم بضرورة رفع تعرفة من يزيد استهلاكه على أربعين ليتراً يوميّاً الى 3 أو 4 أضعاف من يستهلك أقل. ودعمت بعض الحكومات موقف الطرف الأكثر إنسانية. فتحفظت كوبا وفنزويلا وإسبانيا والأوروغواي، تأييداً لمبادرة من بوليفيا، عن الإعلان الرسمي لأنه لم يبرز"الحق بالماء"بالقوة المطلوبة، ولأنه لم يركز كفاية على"حق الفقراء بأن تتوافر لهم احتياجاتهم من تلك المادة الحيوية". واتهمت المنظمات غير الحكومية البنك الدولي بوضع مسألة الخصخصة على بساط البحث. ونفى البنك الدولي ذلك رسمياً، فأعلن "أن هذه المشكلة هامشية... لأن 10 في المئة من خدمة الماء مخصخصة راهناً، فيما الباقي من مسؤولية القطاع الرسمي... إن المشكلة الراهنة تكمن في أن الرساميل الخاصة تريد الانسحاب من القطاع". وشككت المنظمات غير الحكومية بهذه الحجة قائلة:"يكفي انتظار الاجتماع المقبل بعد ثلاث سنوات في تركيا لنأخذ علماً بأن النسبة زادت ولم تتقلص... وهذا هو بالذات ما نعترض عليه... وأثارنا الموضوع لأننا لم نعد نقبل بمجرد أخذ العلم". أطلس الماء: مستقبل عربي جاف يجمع المشاركون في توصيف الأخطار التي تهدد الموارد المائية للعالم، بدءاً من التلوث، حيث تُرمى يومياً أطنان من النفايات في الأنهر والبحيرات، مروراً بالصيد المُفرط وتحوير مجريات الأنهر والقضاء على المياه القريبة من السواحل، إضافة الى الآثار الهائلة لتسارع الارتفاع في حرارة الأرض. كما تداولوا اقتراحاً يقضي باستبدال الدين الخارجي في الدول الفقيرة بالإستثمار في الماء، وآخر يطالب بإنشاء"قبعات زرق لقضايا المياه"خلال النزاعات، وقد تقدم به رئيس المنتدى العالمي للماء، الفرنسي لويك فوشون. وبرزت أيضاً فكرة تحديد" الماء الإفتراضية"، كما سمتها منظمة غير حكومية، في المواد الغنية بالماء مثل الفاكهة واللحوم. وتركزت بقية النقاشات على رسم صورة لما يجوز تسميته ب"أطلس الماء". والحال ان أميركا اللاتينية نجحت في تحويل مسألة المياه إلى قضية سياسية. ففي الأوروغواي، دخل الحق في الماء الى صلب الدستور، كما أدى النضال ضد خصخصة الماء في بوليفيا إلى إقالة رئيس البلاد. وقال مندوب بوليفيا في المنتدى"إن الشعوب هي كالسائل: شفافة ومتحركة". في الأرجنتين، وضعت الحكومة أخيراً يدها على قطاعي مياه الشفه والصرف الصحي الذي تعهده القطاع الخاص في بداية تسعينات القرن الماضي. واعتبرت الحكومة الأرجنتينية أن شركتي"سويز"الفرنسية و"مياه برسيلونا"الإسبانية أخلتا بالتزاماتها، لجهة الاستثمارات وجودة الخدمة. وسبق لتينك الشركتين ان ألقتا اللوم على الحكومات التي جمدت الأسعار، مانعة بذلك تطوير الشبكة وخدماتها. وفي المكسيك، تحوّلت مشكلة النقص في العاصمة إلى أحد ملفات الانتخابات الرئاسية التي تجرى قريباً. في أفريقيا، تتمازج مشاكل النقص في الموارد المائية مع المشاكل العامة والبنيوية التي تعاني منها القارة، مثل الجفاف الفقر والحروب والتلوث وخصوصاً النمو الفوضوي للمدن في القارة السمراء. وتعتبر آسيا القارة التي تفتقد أكثر من غيرها إلى الموارد المائية، وتحديداً إذا قيست بعدد سكانها، مما يُرجح اندلاع خلافات مائية بين دولها. وتوقف المنتدى على المأساة البيئية التي حصلت في بحيرة"آرال"الروسية، التي كانت رابع أكبر بحيرة في العالم في الستينات قبل أن تختفي أخيراً. لم يكن العالم العربي غائباً عن هموم المجتمعين. إذ لحظت دراسة أن الموارد المائية في العالم العربي عام 1950 قدّرت بنحو 4000 متر مكعب للفرد الواحد سنوياً. وتقلصت إلى أكثر بقليل من ألف متر مكعب، عام 2005، ويقدر أن تنحسر إلى 547 متراً مكعباً حتى عام 2050، وحضر عنوان مثل"حرب المياه في الشرق الأوسط"كموضوع"ساخن"في المنتدى، لانه يشمل بلداناً مثل مصر والأردن، ويمر بالصراع بين تركيا والعراق وسورية حول ماء نهر الفرات، ويصل إلى البعد المائي في الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. ودارت نقاشات قوية بين مندوبي إسرائيل وفلسطين، حول موضوع المياه في الشرق الاوسط. وأورد مراسل جريدة"ألتيمبو"الكولومبية انطباعاته عن هذا الموضوع المُتفجّر بعبارة مُثقلة بالدلالات:"هناك أي في الشرق الاوسط وأكثر من أي مكان آخر في العالم، ولأن الماء عملة نادرة، إن لم يصلوا إلى إتفاق، فالكارثة واقعة لا محال".