لكثير من القيم جذور ضاربة في الدين. والاسلام، الذي يعتنقه نحو خمس سكان العالم، لا يقتصر على العبادة وآداب السلوك، بل يتعدى ذلك الى تنظيم جوانب حياة الفرد والجماعة، كالبيع والشراء والعقود والإرث والزواج والنظافة والعناية الصحية. ولا شك في انه يؤثر في كيفية إدارة الناس للموارد الطبيعية، خصوصاً في المنطقة العربية التي تضم نحو 300 مليون مسلم. وفيما يصبح موضوع المياه قضية التنمية الرئيسية في المنطقة، التي تتميز بأحد أعلى معدلات النمو السكاني في العالم وبندرة في مصادر المياه الطبيعية، فإن الاحاطة بالنظرة الاسلامية الى السياسات المقترحة لادارة شؤون المياه تشكل ركيزة أساسية للتنمية المستدامة. "إدارة المياه في الاسلام" كتاب صدر في تشرين الأول اكتوبر الماضي عن "المنشورات التقنية" ومجلة "البيئة والتنمية". وهو يقدم، من خلال مساهمة 18عالماً، مجموعة من المبادئ الاسلامية المتعلقة بإدارة المياه. ويطرح وجهات نظر إسلامية حول عدد من السياسات المقترحة، ويفتح مجالات لحوار أوسع بين الباحثين الذين يعكفون على تحديد أفضل السياسات الممكنة لادارة مصادر المياه. للماء منزلة رفيعة في الإسلام، إذ يعتبر نعمة من الله تهب الحياة وتديمها وتطهّر البشر والأرض. وذُكر الماء 63 مرة في القرآن الكريم. وللماء في نظر المسلمين أهمية خاصة لأنه يستخدم في الوضوء والغسل. وتوفير العدالة الاجتماعية بين الناس هو حجر زاوية في الإسلام. وتشدد الأحاديث على المساواة، فعلى سبيل المثال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". ولا شك في أن هذا ينطبق على توافر كميات كافية من المياه النظيفة. وكما في المسيحية، للبشر في نظر الإسلام الحق الأول في الموارد التي منحها الله لعباده. فالأولوية في حقوق استعمال المياه هي على النحو الآتي: أولاً، حق الشفة للبشر لإرواء عطشهم. ثانياً، حق الشفة للماشية والحيوانات الأليفة. ثالثاً، حق الري. وإن يكن البشر أكثر حظوة عند الله من سائر خلقه، فإنهم مسؤولون أيضاً عن أن تنال الكائنات الحية جمعاء من خيراته ونِعمه وفقاً لحاجاتها. فالتواصل بين الانسان والطبيعة مبني في الاسلام على أساس أن البشر مستخلفون وأوصياء في الأرض. الوضع في المنطقة العربية يوماً بعد يوم، يصبح موضوع المياه في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا القضية الأساسية في التنمية. فهذه المنطقة تتميز باحتوائها على واحد من أعلى معدلات النمو السكاني في العالم نحو 8,2 في المئة وندرة في إمدادات المياه الطبيعية. وتشكو دول عدة في المنطقة من تراجع كميات المياه المتوافرة إلى ما دون 500 متر مكعب للفرد في السنة. ففي عام 1999، بلغت كمية المياه العذبة المتجددة المتوافرة للفرد 148 متراً مكعباً في الأردن و434 في تونس و241 في اليمن. وحالياً تستهلك دول شبه الجزيرة العربية، إضافة إلى ليبيا والأردن ، كميات من المياه تفوق مواردها السنوية المتجددة. أما سورية ومصر والمغرب والسودان وتونس فتقترب بسرعة من النقطة الحرجة ذاتها. أضف إلى ذلك أن المياه المتوافرة متدنية النوعية بسبب التلوث والافراط في الضخ. ومعدل النمو الحضري في هذه المنطقة 2,3 في المئة أعلى من المعدل الاجمالي في البلدان الأقل نمواً 9,2 في المئة. وقيام مستوطنات عشوائية داخل مدن المنطقة وفي ضواحيها آخذ في التزايد والاتساع. وقليل من هذه التجمعات يحظى بموارد للمياه أو خدمات للصرف الصحي، إما لأنها قامت بلا تخطيط وإما بسبب وجود قيود قانونية أو سياسية تحول دون ذلك. ومعظم سكان هذه المناطق يحصلون على المياه من مصادر غير رسمية عبر شرائها من بائعين متجولين. ويبلغ معدل ما تنفقه العائلة الواحدة على الماء في المناطق العشوائية ما بين عشرة أضعاف و20 ضعفاً لكل ليتر من الماء زيادة على السعر الذي يدفعه السكان الذين يتزودون المياه من الشبكة العامة. وهذه النسبة يمكن أن ترتفع إلى ما بين 80 ضعفاً و100 ضعف في بعض المناطق. وعندما اشتد الحر بصورة غير معهودة في الأردن صيف 1998، عانت عمان نقصاً حاداً في مصادر المياه مقترناً بروائح. واضطر الناس لشراء الماء من السوق السوداء، فوصل سعر المتر المكعب من المياه المنقولة بالصهاريج إلى 14 دولاراً. وتستدعي مسألة المياه وعدالة توزيعها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مزيداً من التقصي القائم على أساس دراسات رسمية ومنهجية. وبما أن الفقراء الذين لا تصل اليهم شبكة المياه البلدية يعيشون في مناطق منسية وغير مرخَّص بها رسمياً، فإن معظم الباحثين يتجاهلونهم. ولا شك في أن الوضع الحالي غير عادل، والحق الأساسي في المياه، كما يقتضي الإسلام، أي حق الشفة، لا يُحترم. يتضمن القرآن اشارتين واضحتين لإدارة الطلب على المياه: الأولى، آية تنص على أن مصادر المياه ثابتة ومحددة: "ويرسل عليها حسباناً من السماء" الكهف 40. والثانية، آية ينبئ بها القرآن البشر أن في وسعهم استخدام هبات الله باعتدال ودونما إسراف: "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين"الأعراف 31. ويذهب الحديث إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم "كان يتوضأ بالمد ما يعادل ثلثي ليتر ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد ما يعادل 2 - 5,3 ليتر". ويبين هذا الحديث الطريقة المنطقية لاستخدام المياه في شكل مستدام في شبه الجزيرة العربية القاحلة حيث عاش الرسول. وهو نهى عن الاسراف في استخدام المياه حتى ولو كانت وفيرة. ورُوي عنه أنه مرَّ بسعد وهو يتوضأ فقال: ما هذا السرف يا سعد؟ قال أفي الوضوء سرف؟ قال نعم وإن كنت على نهر جارٍ. وعلى رغم وضوح هذه الأمثلة، فإنها لا تستخدم على نطاق واسع في الدعوة للاقتصاد في استعمال المياه في البلدان التي تعيش فيها أكثرية مسلمة. ويحبِّذ المسلم العادي التعلم عن البيئة وغيرها من خلال زعمائه الدينيين. وبدأت تعاليم الإسلام حول الاقتصاد في استخدام المياه تجد طريقها إلى استراتيجيات إدارة الطلب في بعض البلدان. ففي أفغانستان، مثلاً، أطلقت منظمة الصحة العالمية، من خلال المساجد، برنامجاً للتوعية الصحية يشتمل على تدريب الأئمة حول الممارسات الصحية السليمة والاقتصاد في استخدام المياه، وأهمية المياه المأمونة، والمجاري الصحية المناسبة، والتقيد بالشروط الصحية لمنع الأمراض. وبعد أن يفرغ الإمام من التدرب يلقي خطبة الجمعة حول الموضوع. وفي محافظة عمان في الأردن، جرى لفت نظر أئمة المساجد إلى شح المياه في البلاد والحاجة إلى تعاون جماعي لمواجهة الأمر، من خلال برنامج مشترك بين وزارة المياه والري ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. وثمة مشروع نموذجي في باكستان، في قرية صغيرة اسمها ديجكوت وجوارها، لحل مشكلة النقص في المياه التي تستخدم للأغراض المنزلية والري. اذ كان السكان الذين يقيمون عند أول شبكة التوزيع وأول القناة في منطقة الري يأخذون أكثر من حصتهم عبر تركيب مضخات غير مشروعة. فقامت مجموعة أهلية بحملة توعية شارك فيها أئمة مساجد وتلاميذ المدرسة الدينية في القرية. وكانت الرسالة الأساسية التي وجهها الأئمة أثناء صلاة الجمعة وخلال المناقشات اليومية في الجامع أن أخذ حصة شخص آخر من المياه يعتبر معصية وعملاً غير أخلاقي. وكانت النتائج مذهلة، إذ تراجع عدد الشكاوى المسجلة حول نقص المياه في القرية بنسبة 32 في المئة وفي منطقة الري بنسبة 26 في المئة. لكن برامج التوعية العامة لا تقتصر على المساجد والمدارس الدينية، بل تتعداها إلى مناهج التعليم. فالحفاظ على الموارد المائية يستدعي تغيير أنماط السلوك على صعيد المجتمع ككل، ومن ثم وضع خطط عمل محكمة وبعيدة المدى. يعود استخدام المياه العادمة في الري إلى أكثر من ألفي سنة، إلى أيام اليونان القديمة. وهي تعتبر عنصراً أساسياً في استراتيجية إدارة الطلب على المياه، لانها توفِّر استخدام المياه العذبة للاستعمالات ذات المردود الأعلى. ولإعادة استخدام مياه الصرف المعالجة فائدتان أخريان: التخفيف من الأضرار البيئية، وتعزيز عملية إنتاج الغذاء مع التخفيف من استعمال الأسمدة غير الطبيعية، نظراً لما تحتويه من مغذيات. لكن استخدامها ليس خالياً من العقبات أو المخاطر الصحية. فالمياه العادمة غير المعالجة وسخة وكريهة الرائحة والمنظر، وتحتوي على عناصر مسببة للامراض، والموت أحياناً، مثل البكتيريا والفيروسات والديدان الطفيلية. ونظراً الى أهمية النظافة في الإسلام، والى ان الكثير من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تقوم بمعالجة المياه العادمة بالقدر الأدنى، فمن الشائع ان نسمع أن إعادة استعمال المياه المبتذلة أمر غير مستحب، بل حرام. ولكن فتوى صدرت في السعودية تشير إلى أن اعادة استعمال المياه العادمة ليست حراماً. فبعد دراسة مستفيضة وضعت بالتشاور مع العلماء والمهندسين، خلص مجلس كبار العلماء المسلمين في السعودية، في فتوى خاصة أصدرها عام 1978، إلى أن مياه الصرف المعالجة يمكن نظرياً استخدامها حتى في الوضوء والشرب، شرط ألاَّ تشكل خطراً على الصحة. وليس مجدياً من ناحية الكلفة، ولا ضرورياً، معالجة مياه الصرف إلى حد يجعلها صالحة للشرب، اللهم إلا في الرحلات الفضائية. لكن مياه الصرف المعالجة يمكن استخدامها في مجال الري وفقاً للارشادات التي وضعتها منظمة الصحة العالمية، والتي تقضي بتقسيم الري إلى فئتين رئيسيتين: ري مقيَّد وري غير مقيَّد. وتتوقف النوعية المطلوبة في المياه العادمة تحدد وفقاً لمستوى الجراثيم البرازية وبيوض الديدان المعوية على وجهة استعمال هذه المياه. فالمياه المستعملة في الري غير المقيَّد تحتاج إلى معالجة أشمل لأنها يمكن أن تتلامس مع المزروعات الصالحة للأكل التي تنمو على مستوى سطح الأرض. أما مياه الصرف المعالجة التي تستخدم في الري المقيَّد، أي في ري أشجار الفاكهة والمراعي ونباتات العلف، فتحتاج إلى معالجة أقل. ففي الكويت، تبلغ مساحة الأرض المروية بالمياه المعالجة والمستخدمة في زراعة الفصة والثوم والبصل والباذنجان والفلفل أكثر من 1700 هكتار. وفي الأردن، بلغت كمية مياه الصرف المنزلي المعالجة التي أعيد استعمالها في الري المقيد عام 1998 نحو 70 مليون متر مكعب، وشكلت نسبة 12 في المئة من مجموع المياه المستخدمة في الري. تدابير اقتصادية إن أدوات السوق لإدارة شؤون المياه، مثل زيادة التعرفة وخصخصة المنافع العامة، هي موضوع أخذ ورد، لأن الماء منفعة عامة حيوية. وقد تكون التدابير الاقتصادية في البلدان ذات الغالبية المسلمة أكثر إثارة للجدل بسبب المفهوم القائل إن المياه لا تباع ولا تشترى. يعتبر الماء في الإسلام هبة من الله. ولذلك، فإنه ليس ملكاً لأي فرد من الأفراد. وما البشر سوى قوامين على الماء وغيره من الموارد المشتركة. ولكن يعتقد معظم العلماء المسلمين أن للفرد أو الجماعة حقاً صريحاً في استعمال او بيع او استرداد كلفة القيمة المضافة لمعظم أصناف المياه. وهذه الأحكام مبنية، بصورة أساسية، على حديثين نبويين شريفين: الأول، "لأن يحتزم أحدكم حزمة من حطب، فيحملها على ظهره فيبيعها، خير له من أن يسأل رجلاً يعطيه أو يمنعه"، ما يدل على أن الموارد الشائعة كالحطب والماء يمكن بيعها. والثاني، الحديث الشريف عن شراء عثمان بئر رومة، والذي يدل على أن في الإمكان تملّك الآبار والمتاجرة بها. وعلى هذا الاساس وغيره من المصادر، صنّف باحثون فئات المياه في الإسلام على النحو الآتي: ملك خاص المياه في الحاويات الخاصة، ومعامل المعالجة، وشبكات التوزيع، والخزانات. هذه المياه هي من النوع الذي استوجب الحصول عليه جهداً واستثماراً في البنى التحتية والخبرات. و"مالك" الحاوية له الحق في استعمالها ومقايضتها وبيعها. ملك خاص مقيّد البحيرات، الجداول، الينابيع الواقعة ضمن أملاك خاصة. هنا، لمالك الأرض حقوق خاصة تميِّزه عن الغير، ولكن تترتب عليه التزامات تجاههم. فعلى سبيل المثال، يحق للمرء أن يدخل الى أرض مملوكة لإرواء عطشه، ولا حق لأحد في حجب الماء الفائض. وللمالك، ضمن هذه الحدود، أن يتاجر بالماء مثل أي سلعة أخرى. ملك عام مياه الأنهار والبحيرات وجبال الجليد والمستجمعات المائية والبحار والأمطار والثلوج.الماء بحاله الطبيعية لا يمكن شراؤه أو بيعه. ولكن، إذا تم الاستثمار في البنى التحتية والخبرات والمعارف لاستخراج المياه أو جرها - كأن تقوم مصلحة عامة بمعالجة المياه أو مد شبكة توزيع لايصالها إلى المنازل - تصبح المياه في هذه الحال ملكاً خاصاً، ويحق للمصلحة أن تسترد ما تكبدته من تكاليف. تسعير المياه السؤال هو: ما هي التعرفة العادلة؟ في نظر الإسلام، هي تلك التي توفر مساواة أكبر في المجتمع بأسره. ونظراً الى الحاجة الماسة الى الحفاظ على الثروة المائية في المنطقة، تعتبر خطط التوعية العامة والارشاد مجرد عنصر من عناصر استراتيجية متشعبة لإدارة الطلب على المياه، ويجب أن تكمِّلها حوافز اقتصادية. ويقدّر معدل مرونة أسعار الطلب على المياه في البلدان الأقل نمواً بنحو -45,0 في المئة يزيد في المناطق الريفية ويقل في المناطق الحضرية، ما يعني، في حال تساوي الأشياء الأخرى، أن سعر المياه إذا ارتفع 10 في المئة، فإن الطلب ينخفض بنسبة 5,4 في المئة. إن المجال واسع لرفع اسعار المياه التي يتم تزويدها للطبقتين المتوسطة والغنية. وأسعار المياه في المناطق الحضرية في البلدان الأقل نمواً هي عادة أقل من سدس الكلفة الكاملة. وتتفاوت الكلفة من بلد إلى آخر. وفي إسرائيل، الوحيدة في المنطقة حيث تفرض تعرفة للمياه تغطي كامل الكلفة، يبلغ سعر المياه بما في ذلك رسم معالجة مياه الصرف دولاراً أميركياً لكل متر مكعب. وتسعير المياه بحيث يغطي كامل الكلفة مسموح به في الإسلام. ففي إيران، التي تطبق أحكام الشريعة، يتوجب بيع مياه الري على أساس متوسط الكلفة التي يدخل في عدادها التشغيل والصيانة وانخفاض قيمة الرساميل. وهذا الشرط هو في صلب قانون "التوزيع العادل للمياه" الصادر عام 1982. وبالنسبة الى المناطق الحضرية، يجيز تشريع صادر في 1990 استرداد كامل الكلفة، بما في ذلك الرساميل وخفض قيمتها. وبموجب هذا القانون، رفعت تعرفة المياه في 1996 بنسبة 25 30 في المئة للاستهلاك المنزلي الذي يتعدى 45 متراً مكعباً في الشهر، بينما فرضت تعرفة أعلى على الاستخدام التجاري. أين هو موقع الفقراء؟ إن فرض أسعار واقعية للمياه في كل مدينة عربية، ما يتيح الاستثمار مجدداً في الشبكات بحيث تقوم بإيصال المياه إلى الفقراء، يظل أرخص مما يدفع هؤلاء حالياً ولكن أعلى مما يدفعه سكان المدن الذين تصل إليهم المياه بالشبكات. في الأردن، مثلاً، تبين من دراسة أجراها المركز الدولي لبحوث التنمية عام 1998 أن السكان الذين لا تصل المياه إلى منازلهم يدفعون دولارين أو أكثر للمتر المكعب الواحد، فيما لا تتعدى قيمة المتر المكعب من المياه التي يتلقاها السكان بواسطة الشبكات نصف دولار، ولا تتعدى الكلفة الكاملة للتزويد دولاراً واحداً للمتر المكعب. في وسع الحكومة، استناداً الى تعاليم الاسلام، أن تسترد ما تكبدته من تكاليف لتوفير المياه للناس. ولكن ماذا عن الخصخصة التي تؤدي إلى المتاجرة بالماء مثله مثل أية سلعة أخرى؟ من الجدير بالملاحظة أن الإسلام يؤيد وجود الأسواق العادلة والحرة. وقد أنشأت الدولة الإسلامية الأولى أسواقاً للمياه، حيث كانت تتم مقايضتها غالباً بالمحاصيل. ويرى كثير من العلماء المسلمين أن السعر العادل للمياه هو الذي تحدده السوق، شرط أن تكون خالية من أي ممارسات غير عادلة كالغش. وهذا المفهوم يوحي بأشياء ثلاثة: أولاً، قد لا يتضمن السعر العادل استرداد الكلفة بالكامل فقط، بل أيضاً بعض الربح لتغطية سعر تعادل السلعة في السوق أي السعر الذي تكون عنده الكمية المعروضة موازية للكمية المطلوبة. ثانياً، نظراً الى اهتمام الإسلام بحماية البيئة، يمكن السعر العادل أن يشمل أيضاً كلفة معالجة المياه العادمة. ثالثاً، إن الخصخصة مسموح بها في قطاع المياه. وفي إيران جرى تأسيس شركات للمياه والصرف الصحي بموجب قانون 1990 الذي وضع الأساس القانوني لمشاركة القطاع الخاص في شؤون المياه في المناطق الحضرية. ولكن حتى لو كانت الخصخصة الكاملة لقطاع المياه مسموحاً بها في الإسلام، فهذا لا يعني أنها أمر مستحب. وكما هو متفق عليه عموماً في سائر بلدان العالم حيث يشارك القطاع الخاص في تقديم خدمات المياه، يستحسن قيام شراكة بين القطاعين العام والخاص، بحيث تبقى المياه "ملكاً" للدولة، فيما يُسمح للقطاع الخاص بتقديم خدمات المياه والمجاري سحباً ومعالجة وتوزيعاً، وتحتفظ الحكومة بحق تنظيم قطاع المياه لضمان الحصول عليها في شكل عادل والتأكد من الحفاظ على مستويات الجودة. ولكن من أين نأتي بالماء؟ مع أن النسبة تختلف من بلد إلى آخر، فإن المياه تخصص عادة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بنسبة 10 في المئة للصناعة و10 في المئة للمنازل و80 في المئة للزراعة. والاستخدام المنزلي للمياه في تزايد، وبما أن دول المنطقة تتجه نحو التصنيع، فإن الطلب على المياه في الصناعة سيتزايد أيضاً حتى لو أعيد استعمالها. وسيكون هذا على حساب حصة الزراعة. فهل يسمح الإسلام بالأسواق القطاعية للمياه؟ وهل إعادة تخصيص النسب بين القطاعات مستحبة من وجهة النظر الإسلامية؟ في أولويات استعمال المياه في الإسلام يأتي الري في المرتبة الثالثة بعد حق الشرب للانسان والحيوان. وما لا شك فيه أن الناس إذ يتحولون من مجتمع ريفي زراعي الى مجتمع مُدُني صناعي، لا يعود تخصيص المياه مسموحاً فقط، بل يصبح مطلوباً للحفاظ على المساواة وأولوية الحق في إرواء الظمأ. لكن وجود أسواق غير منظَّمة تفتقر إلى التدابير القانونية والمؤسسية والاقتصادية اللازمة قد يؤدي إلى نشوء ممارسات عشوائية، كما في الهند، حيث هبط منسوب المياه الجوفية في صورة مذهلة نتيجة قيام المزارعين ببيع المياه المستخرجة من أراضيهم إلى مزارعين آخرين أو إلى المدن. إن الحكومات في حاجة إلى رؤية لمحاصصة المياه على الصعيد الوطني، وإلى تنظيم هذا القطاع بحيث يكون التحوّل بطيئاً وثابتاً ومدروساً. فإذا افترضنا أن 100 وحدة من المياه المتجددة متوافرة لبلد من البلدان ككل، فإن نقل ثماني وحدات من الزراعة، مثلاً، لا يستدعي أكثر من زيادة كفاية هذا القطاع بنسبة 10 في المئة، ولكن هذا يؤدي تقريباً إلى مضاعفة كمية المياه المتوافرة للاستخدام المنزلي، عدا عن إمكان إعادة استخدام الكميات ذاتها من مياه الصرف المعالجة في مجال الري، حيثما يكون ذلك مجدياً. وثبت أن في الإمكان ليس فقط الحفاظ على الإنتاج الزراعي، بل زيادته مع خفض استعمال المياه في الوقت نفسه، خصوصاً إذا انطلقنا من ممارسات الري القليلة الفاعلية الشائعة في بلدان المنطقة. واذا كانت حكومات بلدان المنطقة تفكر في اعتماد الأسواق المنظَّمة للمياه، فعليها أن تضع آليات قانونية ومؤسسية وتنظيمية تكفل عمل هذه الأسواق بطريقة عادلة وفاعلة. وتأتي في الطليعة الآليات المؤسسية التي تفسح في المجال أمام مشاركة المجتمع بحيث يشارك المعنيون كافة في اتخاذ القرارات الصعبة المتعلقة بالتخصيص العادل. وفي الكثير من الحالات، ثبت أن الطرق التي تتبعها المجتمعات المحلية في تخطيط المشاريع التي تهمها وتمويلها وتنفيذها وإدارتها، أكثر قابلية للاستدامة من غيرها. ففي أوغندا مثلاً، أدت سياسة اللامركزية ومشاركة مستهلكي المياه في تمويل المشاريع إلى مضاعفة تغطية إمدادات المياه حيث ارتفعت من 18 في المئة في الثمانينات إلى 36 في المئة عام 1996، كما زادت شبكات الصرف الصحي من 20 إلى 45 في المئة. إن مشاركة المجتمعات المحلية في أي قضية تهمها، ومن ضمنها إدارة المياه، مسألة إلزامية. والمشاركة الحقة تستدعي أن تتحلى الجماعات والأفراد باليقظة وروح المبادرة وتحمل المسؤولية بما في ذلك دفع الأسعار العادلة. وإذا أمكننا اختصار الإدارة الإسلامية للمياه في مبدأ واحد، قلنا إنها تلك التي توفر المساواة لجميع خلق الله. وتطلب الأحاديث الشريفة من المسلمين عامة ألاَّ يقوموا بأفعال تتسبب بأذى، على قاعدة "لا ضرر ولا ضرار". ولكن هذا المبدأ لا يمكن الدفاع عنه بقوة إذا لم يكن لدى الدولة نظام للمراقبة يقيس مقدار الضرر الذي يلحق بجميع المخلوقات وبالبيئة. وهذا يستدعي تكامل السياسات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، ووضع وتطبيق القوانين التي تحمي الأراضي والموارد المائية، كما يستدعي إجراء تقويم للأمور البيئية والاجتماعية ومدى تأثيرها في الصحة. ومبادئ إدارة المياه سبيل للتواصل لا بين الأفراد وحسب بل كذلك بين الدول، لأن المياه لا تلتزم حدود هذا البلد أو ذاك. ويتجلى إجماع في مجال الإدارة المائية الشاملة في المواد ال33 من ميثاق هيئة القانون الدولي، التي وافقت عليها الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 1997. أما المبادئ الأربعة الرئيسة لهذا الميثاق فهي: الاستخدام العادل والمعقول للأنهار الدولية المادة 5، تحاشي الضرر البالغ والتعويض المادة 7، التعاون بين الدول ذات الأنهار أو البحيرات المشتركة المادة 8، حماية الأنهار الدولية والأنظمة البيئية المتصلة بها المواد 5، 8، 20، 21. وهذه المبادئ القانونية تنسجم مع تعاليم الإسلام لأنها مبنية على أساس قيم شاملة. ينشر في وقت واحد مع مجلة "البيئة والتنمية"، عدد تشرين الثاني نوفمبر الجاري.