الآن يمكن لأحمد قريع رئيس الوزراء الفلسطيني السابق، ان يكتب الجزء الثاني من الرواية الفلسطينية او الفتحاوية لما بعد اتفاقات اوسلو مروراً بخارطة الطريق وربما الوصول الى الحال الفلسطيني ومنه الحال الذي لا يوصف لحركة"فتح"ومصير"المشروع"الوطني الفلسطيني كما يراه. لدى قريع كل الوقت ويمكنه التفرغ، كما قال مؤخراً، لكتابة مذكراته لتكون الجزء الثاني لكتابه"الرواية الفلسطينية الكاملة - من اوسلو الى خارطة الطريق"الذي صدر مؤخراً عن مركز الدراسات الفلسطينية في بيروت. قد يخبرنا قريع الذي كان المسؤول الرئيسي الذي فاوض الاسرائيليين في اوسلو، هذه المرة روايته، لفشل مسيرة اوسلو وبعدها خارطة الطريق. في كلمته امام المجلس المركزي الفلسطيني يوم 12 تشرين الاول اكتوبر 1993 بعد التوقيع على اتفاقات اوسلو في البيت الابيض قال قريع"اما ان نبني دولة الحلم الفلسطيني، دولة ديموقراطية، تعددية بمشاركة ابنائها ومفكريها، واما ان ينتج عن هذه الاتفاقات وضع يقودنا الى الاقتتال والتناحر والنزاع... اما ان نواجه التحديات بجهد جماعي وروح اخوية ديموقراطية، الاقلية تحترم رأي الاكثرية واما ان ان تفتح الاتفاقات باب الصراع على السلطة على مصراعيه ونفشل وتذهب ريحنا سدى". في كتابه هذا يرى قريع في مسيرة اوسلو اتباعا ل"استراتيجية الخطوة خطوة"ويبرر هذا النهج بأنه"كان ممراً اجبارياً مهدت له الانتفاضة الفلسطينية الاولى عام 1987 التي أدت الى نوع من التعادل النسبي رافقه بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت ترشيد للخطاب السياسي الفلسطيني وترجمته الى لغة مفهومة ومفردات مقبولة في العالم ومن جانب اوساط اسرائيلية ايضاً. وانه محصلة لموازين القوى الذاتية وتم في ظل متغيرات اقليمية في سورية وفي لبنان كما شهد العالم انهيار الاتحاد السوفياتي وبرزت الولاياتالمتحدة كقوة وحيدة اضافة الى فشل لغة النار في فرض حل". وفق ما يقول قريع في الكتاب رأت القيادة الفلسطينية ايجابيات في اتفاق اوسلو اهمها"تمكين الشعب الفلسطيني ولأول مرة من بناء الكيانية السياسية وانه لأول مرة ايضاً يضع يده على صلاحيات امنية وتشريعية واقتصادية تسمح بقيام اول سلطة ديموقراطية. الاتفاق اوجد ارضية سياسية ملائمة على الارض الفلسطينية لاستمرار الكفاح الوطني وعودة عشرات آلاف النازحين خلال حرب حزيران يونيو عام 1967 كما أبقى الابواب مشرعة امام تطبيق حق تقرير المصير وحقوق اللاجئين التي نص الاتفاق على البدء في التفاوض عليها في بداية السنة الثالثة". الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي كان هو والرئيس ياسر عرفات وحدهما على علم بكل ما كان يدور في اوسلو والمفاوضات اللاحقة، رأى بدوره ان اوسلو يحمل في احشائه امكانية قيام الدولة المستقلة وكذالك"احتمال ان يتحول الاتفاق الى تكريس للاحتلال لسنوات طويلة قادمة"مؤكداً ان"النتيجة تتوقف على كيفية بناء دولتنا. هل سننجح في ذلك؟"يتساءل محمود عباس ويقول"يدي على قلبي". منذ البداية واثر البدء في تنفيذ اتفاق اعلان المبادئ، أراد عرفات تحسينه عبر تفسيرات تحتملها بنود الاتفاق العام والغامض، وهذا ما فعلته اسرائيل مع فرق كبير وهو امتلاك اسرائيل، القوة المحتلة، كل ادوات الضغط واخذ الاتفاق بسهولة نحو تفسيرها ومراميها. وهكذا اتضح ان محاولة القيادة الفلسطينية فرض وقائع وتحصيل مكاسب في عملية تراكمية بهدف تحسين شروط التفاوض كانت عملية مكشوفة تماماً من قبل اسرائيل الواقفة بالمرصاد التي تحتاج الى جهد قليل لتواصل التحكم بوجهة التطورات. وهذا أمر ادركته القيادة الفلسطينية في وقت مبكر. واصبح قريع المسؤول الذي تابع التفاوض في فلسطين ايضاً، اقل تفاؤلا واكثر مرارة. يقول:"اعود من جلسات المفاوضات لتطبيق الاتفاق المرحلي النهائي... اعود ساهما مطرقا اقاوم الضغوط... اقاهر مشاعر الاحباط والغضب التي كانت تستبد بي... اغالب الشكوك التي كثيراً ما كانت تعصف بقلبي وبعقلي". يتضح لقريع"في كل مرة واكثر من المرات السابقة ان المشكلة الجوهرية الكامنة في قلب التعثر والتعنت والمراوغة المتواصلة من جانب الاسرائيليين تكمن في العقلية الاستعمارية وفي الثقافة الاحتلالية المتراكمة. وان لسان حالهم كان يقول: من انتم حتى نقبل مطالبكم او حتى نسمعها؟ لستم شركاء ولا نتساوى كأفراد". تجلت العقلية الاسرائيلية بوضوح - يقول قريع - في اوضح صورها، اثناء المفاوضات حول الانسحاب من المدن الفلسطينية ونقل الصلاحيات وحل الادارة المدنية الاسرائيلية في الاراضي المحتلة وغير ذلك من قضايا الكهرباء والماء وحتى قضايا البيئة والمحميات الطبيعية. يخلص قريع الى القول ان الاسرائيليين لا يعرفون شيئا عن حقوق الانسان الفلسطيني. ومع مرور الوقت يقتنع المفاوض الرئيسي ان"مواقف المفاوضين الاسرائيليين تستند في الواقع الى الأسس نفسها التى استند اليها ديفيد بن غوريون مؤسس دولة اسرائيل: انكار وجود الفلسطينيين كشعب ومحاولة تقسيمه كما يستدل من العروض النادرة التي قدمها بن غوريون الى القياديين الفلسطينيين التقليديين قبل النكبة عام 1948 مثل الحاج امين الحسيني وسامي العلمي... طعم غزه اولاً... وليس آخراً اقترح قريع في مرحلة حرجة من المفاوضات مع الاسرائيليين ان تنسحب اسرائيل من غزة اولاً واعتبر لاحقاً ان اقتراحه هذا كان"صنارة متواضعة"رمى بها في"البحر الاسرائيلي المليء بالاسماك". وظل قريع يحذر بعد عقد ونيف من الزمان واثناء مواصلته رئاسة الحكومة الانتقالية، بانتظار نقلها الى حكومة"حماس"من مخاطر الخطة الاسرائيلية الاحادية لاقامة"دولة غزة"و"دولة مؤقتة في الضفة"على مستقبل القضية الفلسطينية. لم يكن قريع يتوقع انه برميه"صنارته المتواضعة"أخذ مشروع"فتح"لبناء الدولة الفلسطينية المستقلة"الى المجهول. لم يحلم ان صنارة غزة واصرار عرفات ان تشمل اريحا، ستأتيه بصيد لا يعجب ولا قدرة له على تدبره. في غزة يجرب الاسرائيليون محاربة الناس بلقمة عيشهم. وباقتحامها سجن اريحا اعلنت اسرائيل وبشهادة مموليها اميركا وبريطانيا الموت السريري للسلطه الحالية والتالية. لقد اطاحت السياسات الاسرائيلية التي خشيها قريع بجهود"السلام المقبول"بين الاسرائيليين والفلسطينيين كشعبين. وبعد تمسك الفلسطينيين بحقوق"الشريك"اطاحت افخاخ وصنارات سياسات شارون بدعم من واشنطن وبتواطؤ اوروبي، بالاتفاقيات وصانعيها على التوالي. وكاد ان يكون انسحابها من غزة اولاً بعد إحكام محاصرتها"طعما"اسرائيليا شكل في الواقع العنوان الرئيس لفشل ونهاية سياسات السلطة التفاوضية والادارية، وفي الوقت الذي زعمت فيه"حماس"ان الانسحاب من غزة كان انتصاراً على اسرائيل، تبع هذا الزعم انتصار حقيقي ل"حماس"وهزيمة لسياسات وادارة الصراع من قبل"فتح"المثقلة بالخطايا والاخطاء في غزة والضفة اضافة الى الشتات الفلسطيني المهمل كلياً. وما هو ظاهر الآن ان"شراكه اوسلو"ذهبت وذهب معها بعض من صنعها وخربها. فبعد غياب عرفات وشارون، يجد شمعون بيريس، الذي تفاخر يوما بأن الاسرائلييين كانوا يفاوضون انفسهم في اوسلو، نفسه الآن خارج حزبه تكفنه كوابيس شرق اوسط"جديد" يعصف به الخراب وظلت اسرائيل مصدر علته بدل أن تكون مركز انتعاشه كما كان يخطط صاحب مواويل"سلام"اوسلو. محمود عباس وحده في المشهد وكما كان عرفات في المقاطعة، يشاهد غير جزع صعود"حماس"وصنع"الشريك"الذي تستحقه اسرئيل الراهنة، ومن فوق اطلال السلطه في سجن اريحا، يشتم بريطانيا واميركا بعد النهاية الغادرة لمسلسل حلقات"الشريك": تأهيل الشريك، استحضارالشريك، تردد الشريك، عجز الشريك، عزل الشريك، غياب الشريك، اهمال الشريك، حصار الشريك، ثم الغدر به والخلاص منه، الامر الذي يواجهه بشجاعة الرئيس عباس مهندس اوسلو، لأنه لا يخشى ايضاً هندسة الطريق لشراكة افضل فلسطينية فلسطينية ولأنه يحترم اراده شعبه ورفض كما زعيمه ياسر عرفات، اغراء التواطؤ من موقع الرئاسة والخيانة تحت راية الشريك. سقطت شراكه اوسلو - لكن من صنعها ها هو يظلل ما امكنه صعود البديل وهذا ما بدأه عرفات عندما اخذ سويا مع"حماس"المواجهه مع اسرائيل المعتدية الى القدس وتل ابيب. عل قريع مفاوض اوسلو الاول المملوء قهراً وغضباً بسبب انهيار الكثير من آماله وطموحاته، يجد الآن من الوقت ليروي ان كانت ريحه... ريح فتح"ريح السلطة، ريح المنظمة... قد ذهبت والى أين وهل ذهبت سدى؟ * اعلامي فلسطيني