في تلك الليلة لم يبق من بندقية عبدالرحمن غير العصا في تلك الليلة سقطت آخر النجوم في البحر في تلك الليلة تضرّج الأبيض المتوسط بالحمرة في تلك الليلة تكاثرت الحيتان حتى سدَّت الشاطئ في تلك الليلة خرج عبدالرحمن قطع البحر على عصاه تاركاً أخوته للقتلة في تلك الليلة. ... توقف الراوي عن الكلام كان الحضور مدهوشين الصغار بكوا سقطت دموعهم في المستقبل. - كيف لم تروا يد عبدالرحمن تلوح لكم عبر الموج يا اخوتي كيف لم تنظروا عيني عبدالرحمن كيف لم تنصتوا الى حشرجة عبدالرحمن في تلك الليلة التي فقد فيها عبدالرحمن وطنه. * * * قال الراوي: عندما تنزلق الأرض من تحت قدمي انسان "يصير الانسان ذئباً" هكذا صار عبدالرحمن "للثعالب أوجار ولبنات آوى أوكار لكن عبدالرحمن ليس له اين يسند رأسه". متنقلاًً من أرض الى أرض من مدينة الى مدينة من جبل الى جبل من صحراء الى صحراء ماسحاً الحدود بيده عن الخريطة الكثيرة التضاريس. عندما يفتقد الانسان وطنه يعيش الانسان في خريطة هكذا عاش عبدالرحمن لا جواز لديه ولا جواب لا جواب لديه ولا جواز غير لسانه الصافي. - ماذا تقصد باللسان الصافي يا عبدالرحمن؟ ... هز عبدالرحمن رأسه تأمل كثيراً في الواحد فتح فاه ولم تخرج كلمة كان عبدالرحمن مُقتلع اللسان كان لسان عبدالرحمن مفخرة قومه وحده ظل يشق الطريق الى القلوب المؤمنة، كما تشق العاصفة طريقها بين الرمال كان ذلك زمن النار المتأججة كان ذلك زمن الانتظار العظيم كان ذلك زمن الولادة العسيرة وسط أزمان الحمل الكاذب كان الكلام يخرج من فم عبدالرحمن شعراً واذا رق غناء واذا انفعل سقطت الكلمة على الصخر فطحنته أوقفوه على حاجز اطلقوا الرصاص عليه لم يكن في جسد عبدالرحمن مقتل تأكدوا من ذلك وعندما تأكدوا من ذلك قطعوا اللسان واستفظعوا واستكبروا ونددوا بالأمر. * * * كان يوماً مهيباً يوم تشييع لسان عبدالرحمن. دقت الطبول. اكتظ الشارع بأكمله. كف الأولاد عن اللعب. توجه رصاص كثير الى السماء، أدعية كثيرة وتمتمات. وكان عبدالرحمن في مقدمة المشيعين. كان يوماً مهيباً كمنظر عبدالرحمن نفسه قابضاً على لحيته البيضاء بعناد القابض على الحقيقة. سحقت يد عبدالرحمن حدوداً كثيرة لتصل الى الشاطئ. قال الراوي في نفسه:"قطع عبدالرحمن طريقاً طويلة ليثبت أن لا أرض ولا ماء ولا لسان". تذكر الداخل تذكر الخارج البوابة الحمراء صارت سداً كيف تصير الأبواب سدوداً يا عبدالرحمن؟ اهتز عبدالرحمن وخرج شاهراً عصاه على الخليقة. قال الراوي: مات خلق كثير عاش خلق كثير وعبدالرحمن واقف على عصاه. تهرّأت الخريطة تشققت العصا وعبدالرحمن واقف على عصاه. أقبلت الأجيال أدبرت الأجيال وعبدالرحمن واقف على عصاه. غريبة عصا عبدالرحمن البعض راهن على أنها العصا التي شقت البحر، والبعض انها العصا التي تجمع ولا تشق، أما هو فكان يدخرها لأمر عظيم. تناولتها سيوف الغزاة من كل جانب وزمن. كلما اقتطعوا عقدة انتقل الى أخرى. كان يكفيه أن تظل عقدة واحدة لتعود فتفرِّخ عصاه. اذا اشتدت الريح تمسك بها فأمسكته. إذا قوي الحر استظلّ بها فأظله اذا جاع غرزها في الأرض فأنبتت ثمراً واذا مل القعود ركبها الى كل مكان. * * * توقف عبدالرحمن أمام جثة ابنه المصلوب منذ زمن على بوابة المدينة. أراد أن يقول:"أما آن لهذا الفارس أن يترجل؟". فخرجت من فمه غرغرة. رفع عبدالرحمن رأسه عالياً ومن فمه المفتوح عالياً خرجت صيحة تناسلت في الزمن. * * * في صبيحة ذلك النهار رأت المدينة عجباً. الحق ان الرعاة هم الذين رأوا: المقابر منقوبة كغربال. القبول مفتوحة كصرخات تجمدت وسع فتحتها. اختلف الرعاة في التشبيه. البعض قال انها صيحات ذعر والبعض أنها صيحات انتصار. وكان ثمة فزع في كل مكان. * * * قالت اليمامة لأخواتها: ماذا نفعل الليلة وقد عادت جثة أخي الى البيت؟ ارتبكت الصغرى. قالت الجثة: أتركن باب البيت مفتوحاً. الليلة يعودني الرفاق. تهدّلت يد عبدالرحمن فوق لحيته المخضوضلة/ بالدموع. ارتفع عبدالرحمن. ومن أعلى عصاه شاهد جموع الخارجين. تعرّف عبدالرحمن أولاده تعرّف أحفاده نظر الى كل مكان في الخريطة فرسان كثيرون يترجّلون عن بوابات كل المدن. ها هم المصلوبون يُبعثون غصت الخريطة بالخوارج احتار المهيمنون في تفسير الأمر: "كيف يمكن قتل القتيل؟". في صبيحة ذلك النهار اصطف الموتى الخوارج صفاً واحداً رفع عبدالرحمن عصاه وأشار بها انها لمثل تلك اللحظة ادخر عبدالرحمن عصاه كل هذي السنين سار الموتى الخوارج مسلحين بأسنانهم وعظامهم في اتجاه واحد في اتجاه المهيمنين على الأمر لم ينتظر عبدالرحمن نهاية المشهد كسر عصاه وخرج...