لقي النعمان بن المنذر سعد بن مالك، ومعه خيل بعضها يقاد، وبعضها أعراء مهملة، فلما انتهى إلى النعمان سأله عنها، فقال سعد : إني لم أقد هذه لأمنعها، ولم أعر هذه لأضيعها. فسأله النعمان عن أرضه : هل أصبحت غيث يحمد أثره، ويروي شجره؟ فقال سعد : أما المطر فغزير، وأما الورق فشكير، وأما النافذة فساهرة، وأما الحازرة فشبعى نائمة. فقال النعمان - وحسده على ما رأى من ذرب لسانه-: وأبيك إنك لمفوه، فإن شئت أتيتك بما تعيا عن جوابه. فقال : شئت، إن لم يكن منك إفراط. فأمر النعمان وصيفاً فلطمه - وإنما أراد أن يتعدى في القول فيقتله - فقال : ما جواب هذه ؟ فقال سعد : سفيه مأمور؛ فقال النعمان للوصيف : الطمه أخرى. فلطمه؛ وقال : ما جواب هذه ؟ قال : لو نُهَى عن الأولى لم يعد الأخرى. فقال النعمان: الطمه أخرى ففعل. فقال: ما جواب هذه ؟ فقال: رب يؤدب عبده. فقال: الطمه أخرى، ففعل. فقال : ما جواب هذه؟ فقال : ملكت فأسجح؛ فقال النعمان: أصبت فاقعد؛ فمكث عنده ما مكث. ثم بدا للنعمان أن يبعث رائداً يرتاد له الكلأ؛ فبعث عمرو بن مالك أخا سعد بن مالك، فأبطأ عليه فأغضبه ذلك. فأقسم لئن جاء حامداً للكلأ أو ذاما ليقتلنه. فلما قدم عمرو دخل على النعمان، وعنده الناس وسعد قاعد لديه مع الناس، وكان قد عرف ما أقسم به النعمان من يمينه، فقال سعد : أتأذن لي فأكلمه ؟ قال: إن كلمته قطعت لسانك. قال : فأشير إليه ؟ قال : إن أشرت إليه قطعت يدك. قال : فأومى إليه ؟ قال : إذن أنزع حدقتيك. قال : فأقرع له العصا ؟ قال : اقرع. فتناول عصا من بعض جلسائه فوضعها بين يديه، وأخذ عصاه التي كانت معه وأخوه قائم؛ فقرع بعصاه العصا الأخرى قرعة واحدة؛ فنظر إليه أخوه، ثم أومأ بالعصا نحوه، فعرف أنه يقول له : مكانك، ثم قرع العصا قرعة واحدة، ثم رفعها إلى السماء، ثم مسح عصاه بالأخرى، فعرف أنه يقول: قل له: لم أجد جدباً. ثم قرع العصا مراراً بطرف عصاه ثم رفعها شيئاً، فعرف أنه يقول : ولا نباتاً. ثم قرع العصا قرعة، وأقبل بها نحو النعمان، فعرف أنه يقول : كلمه. فاقبل عمرو بن مالك حتى وقف بين يدي النعمان، فقال له النعمان: هل حمدت خصباً، وأذمت جدباً؟ فقال عمرو: لم أذمم جدباً، ولم أحمد بقلا، الأرض مشكلة لا خصبها يعرف، ولا جدبها يوصف، رائدها واقف، ومنكرها عارف؛ وآمنها خائف. فقال النعمان : أولى لك، بذلك نجوت، فنجا.