يقتنص عادل مردان المفردات من لحظة عابرة، ويدخلها في مشغل قصيدة قصيرة لا تمنح نفسها الا بصعوبة. مجموعته"من لا تحضره السكينة"الصادرة في البصرة 2006، تهويمة في عالم الخيال والرموز والايحاءات، ونادراً ما تنزل الأرض التي خبرها الانسان في زمان معين او مكان محدد. تأتي البصرة، موطن الشاعر، مثل لمح برق في ليلة دكناء. تتضح مويجات شط العرب، وبضاعة سوق الهنود. يشف النخيل بسرعة خاطفة، ثم تتماوج اللغة فوق كل ذلك، تاركة قارئ القصيدة مع ذات الشاعر المتصوفة، السادرة في ممالكها. القنوط والوجوم والفجيعة. الحزن والنحيب والحسرات والتعب والأسى، لغة في الفرادة ومخاطبة الوجود، حيث يندغم الحسي مع الذهني، ويصبح المهم لدى الشاعر هو رسم صورة تأتي أحياناً محتشدة بالحكمة، وأحياناً بالمفارقة الذهنية. تلك الصور المتجاورة، والمتلاحقة، على رغم رسمها الجميل، توحي بالهذيان أحياناً:"ألعب مع المصير/ فالحلول في الماء/ اترك صوتك الجديد تحت الجسر/ تشابح وانظر من الأعلى/ أترى القنادس تبلغ الحافة/ والى ممالكها الباردة/ تجتاز حنجرة بعد أخرى". والقارئ يحس وكأنه يقرأ في ذاكرة بعيدة عما يدور في الحاضر، فلا تمكن رؤية الواقع الفائر داخل النص. هو، أي النص، يطمح الى عيش وتكثيف لحظة شعرية خالصة، لكنها لحظة قوامها الأسى، وذلك الحزن المعتق المقبل من سنين بعيدة. من البصرة السندبادية، حين كانت السفن تجلب البضاعة من كلكوتا وبومباي، والبشر من افريقيا ومجاهل آسيا وجزرها، من معارك سابقة، ومن صيد لؤلؤ، ومن بحّارة غابوا في مياه البحر ذات يوم: "خلف أسيجة المرجان/ يحكم الغواصون أقنعتهم/ ويرتعدون من الدلافين/ يفحصون الخراطيم/ ويلوذون خلف اسماك فزعة". وتلك هموم الإنسان البصري أولاً، وهموم الإنسان في شكل مطلق ثانياً، ذلك الإنسان الذي يشبه حجراً كريماً. سرّه"ينبض كهرماناً"، وهو ذاته الذي يسكب بغموض أفراحه في الفضاء، حيث يلف الظلام بردته وملامحه. تيجانه الباردة على التراب. حشائش وطل على الجبين. بروق في خواصره. الإنسان، الحجر الكريم، ابن الألم والحزن واللوعة... لقد داسوه طويلاً. هذا اللاإكتمال في القصيدة، يتناغم مع روح الشعر، باعتباره بحثاً مضنياً عن معنى ما، غير محدد، معنى الوجود البشري بكل مآسيه وتعبه ومعاناته. فعادل مردان لا يصل بصورته وبلاغته الى نهاية ما، بل يقف دائماً قبل خط النهاية، محاكياً قصور البشر في الخلود والاكتمال والنضج المطلق. عدم اكتمال محبب، يجعل المرء يتوق الى مزيد من الصور الشعرية كي يمتلئ، بالبلاغة غالباً، وبمتعة اللغة وفيض الأحاسيس، وكأننا أمام هايكو بصريّ يكشف طرفاً من الغيمة، ومن الفضاء، ومن حيزوم سفينة تعوم برويّة في شط العرب. المهمشون والمغيبون والمذلون المهانون عادة ما يتحاشون البقاء في واجهة المشهد، وهم البؤرة المخبرية لما يجري على المسرح. وهذا بالضبط ما يهمهم به عادل مردان، لسان أولئك وضميرهم. أولئك الذين ديسوا طويلاً، حتى اصبحوا حجراً كريماً، ألماساً يزيّن اللغة وصفائح البياض: "خرنوب يشتعل بأزهاره الصفر/ هذا ما تتركه النسائم على الجلسة/ أنحن على جدوله/ وتحدّث مع جاموسه المخوّض... من طرف البادية/ الى نهر معقل/ السرى طويل عليك/ والضنى يعشوشب... تودع السيارة/ شارع مالك بن دينار/ يبتسم المعتزل/: تأخرت نجمة الصبح". نعم تأخرت على ذلك المعتزلي الذي يهيم في أسحار العالم، باحثاً عن مرفأ لسفينته البصرية المهدمة. السفينة العاطلة في شط العرب، منذ سنين، وقد خلت من ريح العالم وبضاعته، وقصص المدن البعيدة. فتكت بها أشباح موت قدمت من مقابر نائية يهجس بها الشاعر، ولا يجرؤ على تسميتها. وكانت القصائد تنوء بزمن ما قبل خراب البصرة وبغداد ونينوى وما قبل ان يفتك الحصار، وتزحف الجيوش الغريبة على اليابسة. يحن الى بصرة ذلك الزمان، قبل ان يخرج منها السندباد باحثاً عن اصقاع بعيدة من الثروة المصنوعة من جواهر وقصص وتوابل وغانيات. أيام ما كانت البصرة مرفأ ينفتح على بحر العرب وبحر الظلمات وبحر الصين. قمرات مبللة بالتواشيح، وزنود مرصعة بثعابين الذهب، تتنفس باردة. وهناك في عدن، اذ ينتحب شاطئ الشاعر، والمستشرق جاء به الى هرر. أصداء لرامبو، والشيرازي، والسياب وسلمان الفارسي. هو من كان قطن النار الذي يوقدها، ولا يتركها لحظة تخبو. هو الذي يصيح بالخليج: يا واهب المحار واللؤلؤ، والموت. لا يسمع من ذلك الزمن سوى نشيج الكائن الذي يتصاعد حزيناً مثل ناي، يغنّي بين نخيل بويب، في قصيدة"شجرة العناء":"العناء أضنى البدن، وأضنى الجدار/ العناء يرفع أعلامه الخضر/ يتطلع الى المعمار الفاجع/ فتعبره طيور سود/ العناء يشرب على الأسيجة نخبنا/ نظراته مشدودة الى السماء/ جذره غائص مع الجذور/ العناء يرشدنا الى سره النابض/ راجفاً على الواجهة/... العناء لبلاب طموح/ يتوّج واجهة المنزل".