ربما كان أفضل لو دخلت أغنية الأطفال إلى صميم الأغنية العربية اليوم. فهذا، نظرياً، يجعلها تكسب بعضاً من الاختلاف والتجديد في ما هي تكرر نفسها. لكن ما يحدث ليس هذا: إنها أغنية موجه الى الكبار، لكن"التمويه"اقتضى أن تغلف بغلافها الطفولي الذي نراها في داخله. "التجديد"الذي يقتضيه غناء هيفا للأطفال وهي التي وجهت أغانيها إلى فئة أكبر عمراً خلال مشوارها الفني يبدو تقليداً: هيفا هنا أسيرة أيضاً - لكن الآسر"واوا"، لا لوم أو حبيب غير متفهم. عاشت أغنية الأطفال العربية فترة"كساد"اقتصادي في السنوات الأخيرة - على اعتبار أن الأغنية اليوم بمكن اعتبارها ضرباً من ضروب الاقتصاد. فالناحية التي نحتها الأغنية"العصرية"المتمثلة أمامنا على الشاشة لا تناسب الطفل بالمرة: ماذا سيفهم الطفل من تأوّه وكشف للمستور ورقص ذي مغزى إن كان طفلاً حقاً؟ ببساطة وجد الفنانون أو ربما المنتجون أن الأطفال فئة غير مربحة اقتصادياً، فيما الشباب يملكون مالاً، ويحضرون الحفلات ويشترون الألبومات، ويملكون قسطاً وافراً من الهوس بالفنانين. وما حدث أن توجهت الأغنية إلى الفئة الأقوى اقتصادياً - والكلام ينسحب على الفئات الأخرى. وصار أن تحدد جمهور كل الأغاني، فتشابهت وبهت بريقهاً ولم تعد بطعم أو لون، ولكن برائحة تدلل على تعفنها لثبوت مسيرتها في نقطة لم تجتزها. لم تصمد أغنية الأطفال، فاحتلت الصفوف الخلفية. ولم يتبق منها سوى بعض"تراث": أغان قليلة لمحمد فوزي، وقليل من أغاني لمحمد ثروت - فيما كانت نهاية تجربة ريم بندلي سريعة إذ سرعان ما كبرت. أما المحاولات التالية فلم تستمر. لذا، كانت عودة أغاني الأطفال ممكنة حتى لو كانت بمستوى أقل من المتوسط: إنها أغاني جديدة الآن - على اعتبار أن الذاكرة الفنية قصيرة. لذا يمكن لأغنيات مثل"الواوا"أو"نوسو نوسو بابا"لروزي أو"واوا أح"لدومينيك حتى"بابا أبح"من قبلها أن تلاقى نجاحاً. لكن كل هذه الأغاني أخذت عالم الطفل ولم تستطع تجاوزه أليس الفن إبداعاً وتجديداً مهماً ارتبط بالواقع؟. أغاني الأطفال لا تتجاوز مواضيع"البابا والماما"و"الواوا". لم تتجاوز نظرتها إلى الطفل باعتباره كائناً حياً يمكنه أن يستوعب أمراً أكثر تعقيداً من"الواوا"وسبل علاجها من طريق القبل أو سواها. تكسب أغاني الأطفال نجاحاً لأنها أغاني أطفال، أي أنها أغان جديدة - في موضوعها وجمهورها. لكن نظرة أكثر عمقاً قليلاً تكشف هشاشتها وانطواءها على نفسها وعدم اقترابها من أي منطقة جديدة، لا موسيقى أو كلاماً. يختلط الأمر في أغنية الأطفال بين البساطة أو السهولة من جهة، وبين السطحية من جهة أخرى. فلا مانع أن تكون الموسيقى أكثر عمقاً، وأن يكون التوزيع الموسيقي حقيقياً: فلا داعي لاستخدام الآلات الكهربائية فقط. ما الذي يمنع أن نسمع أغنية طفل على أنغام موسيقى الجاز؟ واحدة من تجارب زياد الرحباني الموسيقية كانت أغاني للأطفال، من كلمات عبيدو باشا، كانت تختلف تماماً عن أغاني الأطفال السائدة: كان فيها موسيقى وتوزيع غني وكلام بسيط تجعل منها أغنية حقيقية، قبل أن تكون أغنية أطفال. هذا لا يعني أن تجربة زياد كانت الأولى في هذا المضمار، إذ سبقتها تجارب أخرى كثيرة. لكن التجارب اللاحقة كانت في الغالب ضعيفة وبمستوى لا يختلف كثيراً عن السائد - الهابط. الأزمة على كل حال ليست محصورة في الموسيقى لحناً أو توزيعاً أو الكلام. ليس كل ما في الأمر أن اللحن بسيط حد السذاجة، أو أن التوزيع فقير حد الأنيميا الموسيقية، أو أن الكلام مكرر حد الركاكة. فلأن الجمهور غير محدد تماماً يبدو الناتج الأغنية مشوهاً: فال"واوا"مفهوم أكثر مطاطية من ذلك الذي يفهمه الطفل وهو الموجه إليه كلام، صورياً على الأقل خصوصاً حينما يكون العلاج أن"تبوس الواوا".