استفادت كرة القدم من وسائل الإعلام الحديثة، خصوصاً التليفزيون، لتكرس نفسها في مرتبة اللعبة الأكثر شعبية في العالم، إلا أنها باتت في دورها عنصرا مضادا للعولمة بتوحيدها أبناء البلد الواحد، أياً كانت خلافاتهم السياسية وانقساماتهم العرقية والدينية، حول المنتخب الوطني. مع ذلك تبدو في عالم اليوم كما لو أنها ظاهرة تُفتت الهويات القومية وتخترق الحدود طالما أن مئات الملايين من المتفرجين من جميع القارات يتسمرون أمام شاشاتهم لمتابعة مباريات كأس العالم أو نهائيات الدوري الإسباني أو البريطاني أو البرازيلي. وأظهر الكتاب الجديد للباحث الفرنسي باسكال بونيفاس"كرة القدم والعولمة"الدور الكاسح الذي تلعبه الكرة في كسر الحواجز اللغوية والعرقية والدينية بين مناطق العالم. إذ أن الأطفال، كما قال، باتوا اليوم يتعرفون على الدول من خلال رايات منتخباتها وأسماء لاعبيها. ومن هذه الزاوية اعتبر كرة القدم"التي اجتاحت العالم سلماً والتي باتت الشمس لا تغرب أبداً عن امبراطوريتها"أبرز رمز للعولمة اليوم. ويدير بونيفاس الذي أصدر كتبا عدة عن صراعات الشرق الأوسط والحرب الباردة والسلاح النووي وحروب الغد، مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية في فرنسا وهو عضو اللجنة الاستشارية لنزع الأسلحة لدى الأمين العام للأمم المتحدة. وفيما تسببت مباراة لكرة القدم باندلاع شرارة الحرب بين الهندوراس وسالفادور العام 1969، أعلن ظهور منتخب كرة القدم في السنة 1964 بدء ولادة الدولة الفلسطينية وإن لم تعترف به"الفيفا"سوى العام 1998، مثلما مثل تشكيل المنتخب الجزائري العام 1958 الإرهاص الأول للدولة الوطنية التي جاءت الحكومة الجزائرية الموقتة لاحقاً علامة على مولدها. وبعد اندلاع الانتفاضة حظرت اسرائيل مباريات كرة القدم كي لا تكون مناسبات للتعبير الصاخب عن الانتماء الوطني الممهد للاستقلال. ومن المفارقات التي عرضها الكتاب أن أبطال كرة القدم القوميين في فرنسا طيلة الأجيال الثلاثة الأخيرة كانوا يتحدرون من أصول غير فرنسية، وهم كوبا البولندي الأصل وميشال بلاتيني الايطالي وزين الدين زيدان الجزائري. ومن المفارقات أيضاً أن الألمان والفرنسيين الذين تصالحوا بعد حروب طاحنة، وباتوا يشكلون ثنائيا منسجما داخل الاتحاد الأوروبي إلى حد أن شيراك تحدث باسم ألمانيا في اجتماع أوروبي لما تعذر على المستشار شرودر الحضور، ما زالوا يستلذون هزيمة بعضهم بعضاً على ملاعب كرة القدم. وقال بونيفاس إن انزال هزيمة بالايطاليين أو الاسبان، على رغم تعاليهم الدائم على الفرنسيين في مجال كرة القدم، لا يمكن أن يعادل نشوة هزيمة ألمانيا أمام المنتخب الفرنسي. ففي كرة القدم تزول الفوارق العرقية والدينية والمناطقية التي تكون عادة مصدرا للصراع في المجتمعات. ففي تركيا يُدمج الأكراد في المنتخب الوطني أسوة بباقي القوميات وفي الكوت ديفوار حيث تحتدم النزاعات العرقية والدينية تُمحى الفوارق بين المسيحيين والمسلمين والوثنيين لدى تشكيل المنتخب، وكذلك لدى متابعة المباريات التي يخوضها ضد منتخبات أخرى. وعندما جالت آلات التصوير في مدينة ديار بكر مركز الأكراد في تركيا خلال مباراة المنتخبين البرازيلي والتركي أثناء مباريات كأس العالم 2002 التقطت الأكراد وهم يطيرون فرحا لدى تسديد الهدف التركي ثم وهم يذرفون الدموع بعد هزيمة المنتخب، فيما كانت المزارع مقفرة تماما من المزارعين. واللافت أيضاً أن جميع بلدان العالم صغيرها وكبيرها تبدو متساوية في المنافسات الكروية فأميركا، البلد الأقوى، لديها حقوق مماثلة لأصغر بلد، ولا أحد يخشى من منازلة القوة الأميركية في هذا الملعب خلافا للملاعب الأخرى. وعلى خلاف المعايير العسكرية والصناعية لا تُعتبر الولاياتالمتحدة القوة الأولى ولا حتى من بلدان الصف الأول في هذا المجال، ويمكن لبلد صغير مثل البرتغال أو اليونان أن يلحق بها الهزيمة.