يجد الاردن نفسه هذه الايام شبه وحيد في مواجهة تداعيات تبدل خارطة التحالفات الاستراتيجية في دول الجوار، بانتظار وقوع مواجهة كارثية بين أميركا وإيران على إيقاع أزمة الملف النووي المتفاقمة المنتظر أن تجلب معها ويلات اقتصادية وسياسية وإرهابية للمنطقة والعالم، وأن تصب الزيت على فتيل نار الاضطراب والمنازعات المذهبية المتقدة في العالم العربي. الازمة المتنامية مع ايران تضيف إلى الكوابيس السياسية المتعددة، المتداخلة والمتقاطعة أمام الأردن، الذي يترنح تحت وطأة أزمة العراق شرقاً، وفلسطين غرباً وعلاقات سياسية شبه مقطوعة مع سورية، وانهيار كامل للمنظومة العربية. كل ذلك بينما ينشغل حليفه الأميركي، ومن ورائه إسرائيل، بأولويات إستراتيجية متناقضة في معظمها مع مصالح المملكة الوطنية والقومية. كل تلك التحديات تتماهى مع ضغوط اقتصادية ومعيشية خانقة تواجه الاردن، ومرشحة لأن تتعمق بسبب الارتفاعات المتلاحقة في أسعار البترول في السوق العالمية، في وقت ترتفع أصوات المعارضة بقيادة الإسلاميين ضد الفساد المستشري، والمراوحة في تطبيق الإصلاحات السياسية، والوصول إلى مبدأ تداول السلطة بما يعكس موازين القوى البرلمانية، خصوصاً بعد صعود نجم الاسلام السياسي في مصر والعراقوفلسطين وقريباً في المغرب. الحل العسكري ضد إيران، الذي يروّج له الرئيس الأمريكي جورج بوش المأزوم داخلياً وخارجياً، يبقى الاحتمال الأكبر من بين الخيارات الموضوعة على طاولة المساومات السياسية العالمية، وسط إصرار الديبلوماسية الثلاثية الأميركية -الفرنسية - البريطانية على استصدار مشروع قرار من مجلس الأمن يطرح على التصويت هذه الأسبوع، بموجب الفصل السابع من الميثاق، على رغم ممانعة روسيا والصين، حليفي إيران، بسبب مصالح اقتصادية وحسابات مناكفة سياسية. العزم على وضع إيران تحت البند السابع الملزم، والذي يعطي الحق باستخدام أنواع شتى من الضغوط لفرض تنفيذ المطالب على الدول، ومن ضمنها العقوبات الاقتصادية والإجراءات القسرية، بما فيها العسكرية، لاحراج ايران التي تهدد بالانتقام، وتصر على استكمال مشروع امتلاك التكنولوجيا النووية الذرية. هنا بيت القصيد، فمرحلة العد التنازلي بدأت، فيما استعادت إيران نفوذها وخياراتها بعدما ساعدتها أميركا بغير قصد من خلال إزاحة نظام طالبان في أفغانستان وحكم صدام حسين البعثي في العراق، والآن تسعى الى تعظيم دورها الاقليمي من خلال محور التشدد الذي تقوده في الاقليم، ضد مصالح واشنطن وحلفائها العرب. أكثر ما يخيف الاردن والدول المعتدلة في الاقليم، هي فورات العزة الوطنية، والإرادة الحديد التبشيرية، والقومية العصبية، والمذهبية التي تحفز قيادات طهران المتعاقبة على دخول النادي النووي المدني والعسكري الذي يضم الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن إضافة الى الهند وباكستان وكوريا الشمالية وإسرائيل. في خلفية المشهد القاتم محاولات تصدير الثورة"الخمينية"في أوائل الثمانينيات، وبث الاضطراب والشقاق الديني في العمق الإقليمي بوسائل مباشرة وغير مباشرة، ودعوية تحريضية، الى تأجيج نيران الغضب في أوساط الرأي العام العربي, المناوئ أصلاً لسياسات أميركا في الشرق الأوسط، وأطماع إسرائيل التوسعية، وأخيراً توظيف محورها مع سورية وحماس، والقيام بأدوار في العراقوفلسطينولبنان، عن طريق استغلال المشاعر العربية، والإيحاء بأن إيران هي حامي العالم العربي الأوحد في وجه الشر الاميركي-الاسرائيلي، مع أن الواقعية السياسية تحتم عدم تصديق تلك الأوهام. فإيران لن تستعمل سلاحها لتحرير فلسطين، او حتى لتنفيذ قرار مجلس الأمن الرقم 242 او ضمان وحدة العراق، إنما ستستخدمه لخدمة مصالحها في المنطقة والدفع الى تكريس التشدد والتعصب الديني. التوقعات الأقوى في الأوساط الرسمية الاردنية، شأنها العربية والغربية هذه الأيام أن تتجه إيران إلى شن حملة تخريب وإرهاب اقتصادي وسياسي من نوع آخر، إذا لجأت الولاياتالمتحدة الى الخيار العسكري ضدها. وتداعيات ذلك ستكون خطيرة على الأردن، المتحالف أصلاً مع أميركا وإسرائيل بعد تكشف عمقه العربي عقب ازمة الخليج الاولى عام 1991 وتوقيع اتفاق السلام مع اسرائيل عام 1994 ما يضعف قدرته على المناورة الديبلوماسية. في حال ضُربت طهران فإنها سترد بقصف تل أبيب على أمل تأليب الرأي العام العربي ضد أميركا وحلفائها العرب، وستغلق الطرق الملاحية التي تتحكم بها، لقطع الإمدادات النفطية وتدمير البنية التحتية الاقتصادية، والتأثير في القطاع النفطي، من خلال ضرب منابع البترول العربي في دول الجوار، لحرمان أوروبا وأميركا من معظم بترول المنطقة. أما العراق الذي تحول إلى مسرح تخريب لمختلف اللاعبين الإقليميين فقد يتحول إلى ساحة انتقام إيراني مباشر، أو من خلال قيام تحالفات مع المقاومة الداخلية، ضد القوات الأميركية الموجودة أيضاً بأعداد كبيرة في دول الخليج العربي، لا سيما ان لدى ايران حوالي 55.000 مشروع انتحاري جاهز، معظمهم تسلل الى العراق خلال السنوات الثلاث الماضية تحت مسميات عديدة. وهم على اتم الاستعداد للتحرك شرقاً وغرباً. وقد ذاق الأردن مرارة إرهاب القاعدة الآتي من العراق منذ سقوط بغداد قبل ثلاث سنوات، من خلال تفجيرات فنادق عمان قبل ستة أشهر، وإحباط أكثر من عشر عمليات إرهابية ضد أهداف ومنشآت أردنية، معظمها مصدره العراق. وهو الآن في مواجهة مفتوحة مع قادة حماس في الخارج وعلى رأسهم رئيس المكتب السياسي خالد مشعل، بعدما ضبطت عمان كميات من الاسلحة مهربة من سورية، وادعت ان العملية تمت باشرافه، لضرب استقرار الاردن. وقبل ايام اعلنت حماس رفضها المشاركة في وفد امني فلسطيني سيزور الاردن قريباً للبحث في ملف المضبوطات. العمل الاخير يعزز قناعة المسؤولين بأن أدوات إيران الإقليمية المنضوية تحت محورها السياسي الديني -"حزب الله"في لبنان، وحماس في فلسطين وسورية، والفصائل الفلسطينية المتشددة التي تستضيفها دمشق - هي أيضاً جاهزة للتحرك. وأي ضربة إسرائيلية لإيران ستشجع"حزب الله"على استعمال صواريخه للانتقام من تل أبيب، وستكبر حلقة المواجهة. شأن الأردن كشأن غالبية الدول العربية التي لا تريد لإيران امتلاك هذا السلاح، لأنه سيجعل منها قوة إقليمية تفرض شروطها. إلا أن توجيه ضربة عسكرية لإيران يعني اشاعة فوضى إضافية في المنطقة، مفتوحة على كل الاحتمالات، وربما تتسع لتصل إلى دول الخليج والعراق وسورية ولبنانوفلسطين. إزاء ذلك كله، لا تملك الديبلوماسية الأردنية الكثير من أدوات التحرك، أكثر من الدعوة الى استعمال المنطق والتفاوض لحل أزمة ملف إيران النووي سلمياً، ومحاولة إدارة مخاطر تبعات الأوضاع المأسوية في العراق، وتحديات حكومة"الانطواء"الإسرائيلية الجديدة، بعد تلقيها ضربة فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية الأخيرة، وتبدل أسس لعبة السلام التي دعمتها المملكة لسنوات، وتلاشي فرصة إقامة دولة فلسطينية مستقلة، كهدف وخيار استراتيجي للأردن، لحماية أمنه الداخلي واستقراره. يوم الاحد حذر العاهل الاردني الملك عبدالله في مقابلة تلفزيونية من نفاذ الوقت بالنسبة الى مستقبل القضية الفلسطينية قائلاً:"اخشى بعد عامين ان لا يبقى للفلسطينيين ما يتفاوضون عليه". واكد انه يجب ان يكون للاردن دور في مفاوضات المرحلة النهائية خصوصاً في مسائل القدس والاجئين والمياه والحدود. بانتظار معجزة سياسية على خط المواجهة الدولية مع إيران، لا يملك الأردن الكثير من الخيارات إلا العمل الدؤوب لادارة الازمات السياسية المتلاحقة، والرهان على تفعيل"خارطة الطريق"نحو قيام دولتين على اسس القرار 242، وعلى"تشبيك"سياسي اكثر مع مصر والسعودية، في مواجهة محور التشدد، والعمل على دعم محمود عباس، رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، و"تعقيل"خطاب حماس الداخل على أمل قبول الاخيرة بمبادرة السلام العربية لعام 2002. بالتزامن مع ذلك، لا بد من تحصين مسارات"مكافحة الارهاب"لتعزيز موقعها الاقليمي وتمتين الاستقرار الداخلي، والسعي الى الحصول على نفط بأسعار تفضيلية من دول شقيقة غير معنية أصلاً بأوضاع الجيران ممن لم ينعم عليهم الله بهبة النفط، طالما ظلت البلايين من عوائد مبيعاتها النفطية تتدفق عليها، بعد سنوات من المصاعب الاقتصادية. فالأمن الاقتصادي للاردن سيكون من الآن فصاعداً على رأس أولويات السياسة الخارجية والداخلية، خصوصاً مع تعاظم فرص صعود سعر برميل النفط حاجز ال 100 دولار العام الحالي، من 75 دولاراً الآن، و60 دولاراً قبل اكثر من شهر. فمنذ انهيار نظام صدام حسين، الذي كان يزود الأردن احتياجاته من مشتقات النفط بأسعار رخيصة لأكثر من عقد ونيف - نصفه مجاني والآخر بأسعار تفضيلية - أصبحت الدولة تدفع ثمن النفط كاملاً، وبأسعار غير مسبوقة في السوق العالمية، مرشحة للاستمرار، بعدما تعوّد المواطن كما تعوّدت دورة الاقتصاد على الاستعمال الرخيص للطاقة طوال عقود. الأكيد أن حكومة الدكتور معروف البخيت لن تغامر مرة أخرى برفع أسعار المحروقات، بعد زيادتها قبل أكثر من شهر للمرة الثالثة خلال اقل من ستة أشهر، مما رفع كلفة الحياة اليومية من مأكل ومشرب وطاقة وتنقل بصورة كبيرة مسّت خصوصاً أكثر من 3.6 مليون من أصل 5.6 مليون أردني ينتظرون الحصول على دعم مالي مباشر ومتفاوت من الحكومة. فأي زيادة تحمل مخاطر تحريك الشارع المحبط والمهموم والمهمش اصلاً. أضاف فرارق ارتفاع أسعار شراء احتياجات الأردن من النفط ومشتقاته خلال شهر واحد، بعد الرفع الأخير للاسعار، عجزاً جديداً الى الخزينة المثقلة أصلاً بالديون، يقدر رسمياً بنحو 30 مليون دولار. والحبل على الجرار. لا خلاص للأردن، ولاقتصاده، إلا بالاعتماد على النفس، وتحصين الجبهة الداخلية، ونشر الديموقراطية، والمحاسبة، والمساواة، ومحاربة الفقر والبطالة ومظاهر الترف والبذخ الرسمي التي لا يزال يمارسها بعض المسؤوليين امام أعين الجميع. فمن دون اقتصاد قابل للنمو والديمومة، والاعتماد على الذات والمقومات الوطنية، لن تتمكن أي دولة مهما بلغت أهميتها الجيو- استراتيجية، وسياساتها الوسطية، وولاء اجهزة الامن، من المحافظة على دورها الإقليمي، وعلى تحقيق الأمن والاستقرار الداخلي. * كاتبة من الاردن.