تعيد الذكرى الثالثة للغزو الأميركي للعراق تساؤلات وهواجس عدة حول دوافع الاحتلال الأميركي للعراق. وهناك أوجه شبه وتباين بين الاحتلال الأميركي للعراق في القرن الجديد ولليابان في القرن العشرين. مقارنة بسيطة تسلط الضوء على الحقيقة. قد يكون التاريخ مصدر إلهام لتفسير احتلال العراق، أما الاحتلال الأميركي لليابان فكان رداً انتقامياً على مقتل ثلاثة آلاف جندي أميركي في بيرل هاربور بقصف جوي ياباني مباغت مما دفع الادارة الأميركية الى دخول الحرب العالمية الثانية مدفوعة بنزعة الانتقام في محاولة لرد الاعتبار الوطني. وكان احتلال العراق الذي أودى وفقاً لاحصاءات معلنة الى اكثر من مئة ألف قتيل عراقي فيعتبر رداً انتقامياً بصورة غير مباشرة على هجمات 11 أيلول سبتمبر 2000 التي أودت بحياة ما يقرب من ثلاثة آلاف ضحية معظمهم من المدنيين واعتبرت أكبر عملية ارهابية في العصر الحديث. انتهت الحرب العالمية الثانية على اليابان بإلقاء الطائرات الأميركية قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي أودت بحياة 135 ألف ياباني خلال ساعات. وهنا ينتهي وجه الشبه بين الاحتلالين فما أن اعلنت اليابان استسلامها في الحرب توقفت العمليات العسكرية الأميركية فوراً وتقلص عدد القوات الأميركية من مئتي ألف جندي الى ما يناهز خمسين ألف جندي خلال عام من الاحتلال، لكن العنف لا يزال يشتد ضراوة على أرض العراق وليست هناك مؤشرات على توقفها قريباً بل تخطط الادارة الأميركية لارسال المزيد من القوات الأميركية. من الصعوبة مقارنة أهداف الاحتلالين فاليابان جزيرة معزولة لا تربطها بجوارها الآسيوي روابط عرقية أو ثقافية، فكيف يمكن بناء عراق مستقل بمعزل عن تأثير دول الجوار؟ فنسيج الشعب العراقي مرتبط عرقياً ودينياً وجغرافياً بين ايران وسورية، وايران لاعب مركزي في الحياة السياسية العراقية لأسباب طائفية وسياسية بالاضافة الى التحالف الاستراتيجي مع سورية وتأثير الروابط التاريخية السورية عبر حدود البلدين على مجريات الأحداث في العراق وان لم يكن على المستوى الايراني. خلال زيارة لليابان اخيراً تناقشت مع مسؤولين يابانيين في أوجه الشبه والاختلاف بين الاحتلالين الأميركيين لليابان والعراق، وتردد السؤال نفسه عن كيفية ادارة القوات الأميركية المحتلة لليابان في حوار مع البروفسور ماكوتو ايوكيب أحد أبرز أساتذة التاريخ في العلاقة اليابانية - الاميركية الذي تستند الخارجية اليابانية ودوائر القرار في تلك الامبراطورية الى أفكاره. فحسب الوثائق الأميركية للاحتلال الياباني التي اطلع عليها البروفسور الياباني ايوكيب بدأت فكرة احتلال اليابان في صيف عام 1942 قبل الهزيمة بثلاث سنوات بقرار اميركي بالقيام بحرب شعواء على اليابان، ووضعت خطة مفصلة لادارة الاحتلال وشكلت مجموعة استشارية نصفها من الأكاديميين الجامعيين والنصف الآخر من الديبلوماسيين وعلى رأسهم البروفسور جورج بلكزلي من جامعة كلارك ومن القلائل الذين كانت لديهم خبرة في الشؤون اليابانية آنذاك. بدأ بلكزلي عمله كمحاضر للمسؤولين في وزارة الخارجية الأميركية عن الدولة اليابانية وكان معادياً للحرب في جو معاد لليابان ولكن تحمل المسؤولون أفكاره لقلة وجود متخصصين في الشأن الياباني. تبعت ذلك في لقاءات سرية في فندق"ماجيستك"مع البريطانيين وتمخضت عن تجهيز فرعين معنيين بالتحضير للحرب، اذ تم تأسيس مؤسسة للمعهد الملكي البريطاني تشاتام هاوس بادارة البريطاني هيو بورتون، ومجلس العلاقات الخارجية برئاسته. كان الهدف الرئيسي للادارة الأميركية تفكيك مفاهيم الحضارة اليابانية العدوانية وتطويع الالتزام بالمفاهيم العقائدية الشنتوية اليابانية بإزالة مفاهيم القدسية عن الامبراطور الياباني بانتزاع قدرته باطاعة شعبية لا تقبل الجدل على قراراته بالتركيز على الديموقراطية كوسيلة لتغيير المجتمع وإشعار اليابانيين بالخزي من تاريخهم العسكري وان اليابان قد ارتكبت خطأ تاريخياً بحق الدول المجاورة وان العسكريين اليابانيين مذنبون ومن الضروري اجراء تغيير في هيكلية الدولة مع الاحتفاظ بالآلة الادارية والتفريق بين أصحاب القرار من كبار المسؤولين والاداريين وتخضع يابان موحدة بعد وقف اطلاق النار لحكم عسكري ويشرع دستور ينزع مخالبها العسكرية. وخلص الباحثون الى ان التركيبة الاجتماعية الطبقية اليابانية التي تخلو من العدالة بالاضافة الى السيطرة الامبراطورية على مقادير اليابان هي المحرك العدواني للسياسة اليابانية، وبالتالي فلا بد من تفكيك مركزية اتخاذ القرار مما يلغي قدرة اليابان على المواجهة الدولية، بحيث أصبح الدستور الياباني الذي صاغه الأميركيون أداة لتغيير مكونات المجتمع الياباني. فالهدف لم يكن إحلال الديموقراطية بقدر ما كان الاميركيون يبغون إضعاف سلطة العائلات اليابانية الداعم الرئيسي لسلطة الامبراطور من دون الغائها، وتقرر الانتظار بعد الاحتلال للبت بموضوع الغاء الامبراطورية وضرورة التفريق بين دور الامبراطور الذي يتعرض لضغوط من القادة العسكريين للحرب بحيث يكون الامبراطور رمزا لوحدة اليابان وليس عقبة في وجه السياسة الاميركية وان وجود دور للامبراطور يمكن ان يكون مفيداً أو مؤيداً اذا أبدى رغبته بتأييد للسلام والقبول بإعلان بوتسدام وان قيام السلام الامبراطوري لا يعني عزل الامبراطور مع ان العسكريين الاميركيين كانوا يميلون الى الغاء الملكية الدستورية اليابانية وبالتالي وضعت خطة لادارة الاحتلال الاميركي لليابان موضع التنفيذ حيث أعد نخبة من الاستاذة الاميركيين المختصين بالشأن الياباني مع القيادة العسكرية الاميركية خطة مفصلة وقدم الاختصاصيون اقتراحات كانت لها تأثيرات عميقة في الحضارة اليابانية بحيث تم انقلاب كامل في المجتمع الياباني بدأ بتغيير المناهج الدراسية وإزالة مفاهيم القدسية عن الامبراطور الياباني مع الاحتفاظ بدوره كرمز لليابان الموحدة ومنع البيروقراطية اليابانية من ممارسة الشؤون السياسية. حدث جدل بين الادارة العسكرية الاميركية والاستشاريين حول طريقة ادارة الشؤون اليابانية بعد شهرين من الاحتلال حول دور المؤسسات الامبراطورية. جنح القادة العسكريون الاميركيون وعلى رأسهم قائد القوات الاميركية في اليابان الجنرال ماك آرثر الى الغاء الدور الياباني في ادارة شؤون البلاد بحكم عسكري اميركي مباشر لليابان وفي النهاية رضخ العسكريون لأفكار الاستشاريين وقررت سلطات الاحتلال الاميركية انه يمكن السيطرة على اليابان وسياساتها من خلال شراكة مع البيروقراطية الادارية اليابانية، ومن ناحية أخرى حفظ الاعتبار والكرامة بالسماح لأصحاب الشركات العائلية المصادرة التي كانت تهيمن على الاقتصاد الياباني ومولت الحرب بالاستمرار بإدارتها وتحويلها الى شركات مساهمة يملك اصحابها جزءاً من تلك الاسهم ولا تزال تطلق اسماء عائلات مسويتي ومتسوبيشي ولم تعد تملك إلا النذر اليسير من تلك الشركات. طالب الاستشاريون بتعديل سياسة الاحتلال وتساءلوا كيف يمكن حكم دولة ذات حضارة عريقة متقدمة تكنولوجياً، فاليابان دولة صناعية متطورة ومشاركة الخبرة اليابانية الادارية ضرورية لادارة الاحتلال وإذا أصر العسكريون على إلغاء البيروقراطية والحكم العسكري المباشر فإنه يتطلب وجود ادارة أميركية عسكرية قادرة ومؤهلة فنياً من حوالي نصف مليون اميركي يتكلمون اللغة اليابانية وبالتالي وافقت وزارة الخارجية الاميركية على تلك الاقتراحات وانتهت بإلغاء وظائف عدد من كبار الاداريين وابقاء معظم الادارة لدعم السياسة الاميركية. ان التباين بين الاحتلالين ليس لاختلاف أهدافهما، وإدارة الاحتلال فقط بل لجهل ادارة بوش الحالية بأمور العراق والشرق الأوسط بصورة عامة، اذ يبدو ان الادارة الاميركية لا تستطيع التفريق بين الحقائق والأوهام حيث قال لي مسؤول ياباني ان روما"واشنطن"البعيدة - فكرياً وحضارياً - لا تدري كيف تجري الأمور في ولايات الامبراطورية الرومانية، لقد تحول العراق حقلاً للتجارب السياسية الاميركية في الشرق الأوسط فعلى رغم تدهور الأوضاع الأمنية وان بدا إنهاء العمليات الحربية الجارية هدفاً رئيسياً أميركياً، لكن الرئيس بوش وصف الحرب ب"أنها جعلت العالم أكثر أمناً"وان العراق موقع متقدم في الحرب على الارهاب"واننا نحاربهم في أراضيهم قبل ان يستطيعوا دخول اراضينا". هل هناك خطة مسبقة لإدارة شؤون العراق؟ بالطبع كان هناك اتفاق بريطاني - اميركي على اسقاط نظام صدام حسين واعلان نصر اميركي بتدمير الدولة العراقية التي قامت منذ ثمانين عاماً وإحلالها بدولة ضعيفة لا تهدد الدولة العبرية فعراق قوي هو مصدر قلق لاسرائيل. لقد تصور الرئيس بوش وجماعته ان الشعب العراقي سيهلل للمحتلين وانه سيتم تمويل نفقات الحرب من نفط العراق وينتهي الأمر بتنصيب حكومة علمانية موالية للولايات المتحدة تعترف باسرائيل ومعادية لإيران، فهل لهذه الادعاءات براهينها أم أنها من وحي ما يسمى بنظرية المؤامرة التي يتهم بها العرب بأنها مصدر تفسير للسياسة الغربية؟ ان الأحداث تؤيد تلك الادعاءات فأجندة الحاكم الاميركي للعراق بريمر تختلف تمام الاختلاف عن الجنرال ماك آرثر الحاكم الاميركي لليابان فماك آرثر قام بتغيير جذري في العقلية السياسية اليابانية من دون المساس بالدولة وتماسكها، أما الحاكم الاميركي السابق للعراق بول بريمر الباحث في مؤسسة كيسنجر وزير الخارجية الاميركي السابق ذي الميول الصهيونية المعادية للعرب فلم يخف أفكاره العدائية للعرب والمسلمين، بل كانت له اليد الطولى في تفتيت الدولة العراقية ومجتمعها، وما آلت اليه الأمور وما تلاها من مآس بدءاً من قانون إدارة العراق الذي يعتبر اللبنة الأولى وانتهاء بتقويض الأمن بإلغاء الجيش. لقد بدت أهداف الاحتلال الاميركي للعراق مختلفة عن الاحتلال الاميركي لليابان، فبعد سقوط بغداد تصرف الجيش الأميركي كمحتل أجنبي بكل معنى الكلمة، فمنذ الايام الأولى للاحتلال انتشرت الفوضى فحلت قوات الأمن والجيش العراقي وتركت الوزارات تحترق على مرأى من القوات الاميركية التي بررها وزير الدفاع الاميركي رامسفيلد بأنها فورة شعبية غاضبة على حكم صدام، فالهدف تدمير بنية الدولة العراقية وليس اسقاط النظام القائم، وعومل العراقيون باستعلاء كشعب مهزوم، ولم تحاول الإدارة الاميركية الحاكمة في العراق استعادة ما دمرته الحرب والحصار الاقتصادي على العراق من مرافق رئيسية كالماء والكهرباء والخدمات العامة، بل وصفت المقاومة ضد الاحتلال الاميركي بأنها عصابات اجرامية ثم تحولت بقدرة قادر الى مجموعات ارهابية مدعومة من الاجانب، إلا ان رغبة قيادة الاحتلال الاميركي في بناء جيش عراقي على وجه السرعة دفعتها لقبول معظم المتطوعين من الميليشيات الشيعية والكردية ونذر يسير من الطوائف الأخرى من دون التحقق من خلفيتهم ورفضها أفراداً من الجيش العراقي الذي جمع أطياف الشعب العراقي تحت شعار تصفية البعث، ما أعطى القوة العسكرية الجديدة صبغة طائفية. وفي هذا السياق كتب الخبير الاميركي في الشؤون العسكرية"ستيفن بيدل"في العدد الأخير من مجلة"العلاقات الدولية"انتقاداً لاذعاً للسياسة الاميركية وطريقة بناء القوة العراقية الجديدة قائلاً:"ان العراقيين السنة يشعرون ان ما يدعى بالجيش الوطني ليس سوى ميليشيات كردية وشيعية مشحونة، كلما أصبحت القوات العراقية المسلحة أحسن تدريباً وقوة وحجماً واعداداً بالسلاح كلما شعر السنة بالتهديد وعلى الارجح فإنهم سيواجهون الاحتلال بمزيد من الصلابة والمقاومة وسيزداد التوتر الطائفي حدة وان التركيبة للقوة العسكرية العراقية الحالية لا تساعد على الاستقرار بل تساهم في حلقة سليمة مفرغة من العنف. اما صيحات اعادة بناء العراق وتطويره الاقتصادي فلا معنى لها فالعراقي لا يشعر بالأمان فهو قلق من الاعتقال والقتل والتعذيب، وأدت ممارسات الاحتلال الى نشوء حقل خصب للارهاب، وافقد الاحتلال والممارسات الاميركية الخاطئة في العراق الدعوة الى الديموقراطية أهميتها. * كاتب سوري.