لا شكّ في ان مصطلح المقاومة هو من المصطلحات الأكثر شيوعاً في الواقعين اللبنانيوالفلسطيني وأخيراً في العراق. وقد انبنى حوله خطاب كامل متكامل افترض المقاومة مرساة للسياسات والسلوكيات والاستراتيجيات والأحكام والأخلاقيات. ومن ولع البعض ب"المقاومة"فإنه يتوقّع منا أن نمتثل لمقتضياتها المفترضة في حال ذُكر المصطلح على مسامعنا. يقولون"مقاومة"كأنهم يقيمون الحد على الحدّ ويستدعون منا الإذعان أو التنحي جانباً. ويتعزّز هذا التوجّه حين يقرنون"المقاومة"ب"الشهادة"فلا نقوى على مناقشة أو سؤال! لأن الأمر - أي أمر - يُحشر أوتوماتيكياً في خانة القدسية وما فيها من رموز وشعائر وطقوس ومراسم ومهرجانات وعروض عسكرية تحشيدية لبناء"الشخصية المقاومة"والإنسان"مشروع الشهادة"المقبلة. ورغم ظاهرها الموجّه إلى العدوّ الخارجي، وهنا إسرائيل، إلا أنه لا ضير في نظر أصحابها إذا ما تضمّنت تأشيراً أو تلميحاً للخصوم السياسيين أو للدولة والسلطة على الجبهة الداخلية. خطاب المقاومة يُستثمر سياسياً وفي كل المستويات ليتجاوز بيُسر حدوده الأولى وأهدافه الأولى ولتصير المقاومة"منظومة قوة"تُستثمر للمناورات السياسية كأي مورد آخر. فمن يجرؤ على مناقشة"المقاومة"و"تضحياتها"؟ ومن يستطيع أن يرفع صوته فوق صوت"المقاومة"أو أن يطلب نزع سلاحها؟ هذه الأسئلة طُرحت وتُطرح بإلحاح على نحو تثقل كاهل سلطة الدولة في لبنان والسلطة الوطنية الفلسطينية خصوصاً إن"المقاومة"بخطابها وتبسيطها للحياة وتسطيحها للواقع السياسي تلقى صدى شعبوياً واسعاً تجد الدولة اللبنانية والسلطة الوطنية نفسيهما معه مرتبكة تبثّ على موجتين. الأولى - توكيد دور"المقاومة"وتضحياتها في الذود عن الشعب. والثانية - التوكيد على وجود المرجعية الواحدة وضرورة أن ينضوي الجميع تحت إرادة الدولة/ السلطة. خطاب"المقاومة"عندما يتطور ويتراكم ينفي عن الإنسان اللبناني أو الفلسطيني صورته المدنية أو المواطنية. لأنه يفترض تجنّده ضمن"مقاومة"ما! أو على الأقلّ وقوفه إلى جانب"المقاومة"! أو في أحسن الحالات، من ناحية الإنسان الفرد، تنحيه جانباً إذا ما مرّت"المقاومة"أو فرقها العسكرية! وهذا، من حيث شاء المعنيون أو رفضوا، استئنافاً على مشروع الدولة الحديثة القومية، وإبقاء لها في حالة من السيولة والجريان بداعي التحرر والمقاومة. إن تطوّر هذه الظاهرة في السياقين اللبنانيوالفلسطيني رغم خصوصيتها في كل موقع أفضى بنا إلى حالات سياسية مفخّخة تماما. ف"المقاومون"يحتفظون لأنفسهم بامتيازات سياسية وعسكرية مثل التنظم في ميليشيا وحمل السلاح وإقامة مرجعية داخل مرجعية الدولة بل فوقها. ولا بدّ للمرجعية من حيّز خاص بها تقتطعه من الحيز العام. وهكذا فإن"المقاومة"تحتفظ لنفسها بحيزين، الأول الحيّز العام المتاح للجميع، والثاني، الحيّز الخاص المقتطع من الحيّز العام. وفي هذا وذاك تمارس"المقاومة"نوعاً من الإرادة وتفترضها إرادة الجميع إلا أنها تجسّدها نيابة عن الجميع بمن فيهم الدولة. وفي وجه آخر تختزل المقاومة كل الوسائل النضالية الأخرى علماً بإمكانية أن تكون أكثر نجاعة ونفاذاً وإتياناً بالمكاسب! لنقرّ ان الحالتين المذكورتين لل"المقاومة"المفخّخة هذه، في فلسطينولبنان، ما كانتا لتحدثا لولا ضعف الدولة ومؤسساتها. بل هي نتيجة أزمة أو مأزق مجتمعي متواصل ينعكس في بنية الدولة وسطوتها وسلطة القانون فيها. ويُلاحظ ان الحالتين تتحركان، أيضاً، بقوة دفع خارجية إقليمية أو بوحي من فكرة أوسع من الدولة وحدودها. فإيران عبر سورية أو مباشرة هي القوة الإقليمية الراعية ل"حزب الله"والمشكّلة له مصدر الدعم المتعدد الأشكال. وتأتي سورية لتلعب دورها في هذا الدعم خصوصاً الآن بعد خروجها العسكري من لبنان واتساع رقعة المعارضة لسياساتها هناك. وكذلك"المقاومة"الإسلامية في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية، إلى ما قبل الانتخابات هناك وبعدها، تستمد مرجعيتها من ما يسمى"الصحوة الإسلامية"أو"المد الإسلامي"وصياغاته وأطروحاته بما يتعلّق ب"العدوّ الإسرائيلي"أو"الأمة"أو"العروبة"أو الصراع مع الغرب. ولم تكن سورية أو إيران غائبتين في هذه الحالة، أيضاً. يُمكننا أن نقول في ضوء ما تقدّم وما الغضاضة في ذلك؟ ألا تزال إسرائيل على سياساتها واحتلالاتها؟ وهناك من يتابع السؤال على نحو إطلاقي، أما تزال إسرائيل حيّة تُرزق؟ ولأن السؤال الأخير إطلاقي فإنني استنكف عن محاورته بينما سأفعل ذلك في ما يتّصل بالسؤال الأول من خلال الحفر في مصطلح"المقاومة"وتفكيك المفخَّخ والمفخِّخ منه. يبدو لي ان ما حصل لمصطلحات مفصلية في تاريخنا الحديث وحياتنا كعرب وما أنتجته من تمثيلات ومنظومات وبُنى فكرية لا حصر لها ينسحب على"المقاومة". فالتمثيلات التي نبعت من"الوحدة"كانت أبعد بألف ميل عن حدود القدرة على تحقيقها. أو ان"القومية"بمفاهيمها العربية ظلّت تنطوي على بُعد عنفي وأحيانا فاشي النزعة، رغم ان مفهوم القومية الكوني تحول وتغير مرات عديدة منذ ظهوره فكأن المعنى العربي ظلّ متقادماً قرناً أو أكثر عن المفهوم العام لهذا المصطلح. طبعاً، يُمكننا أن نرى إلى ما حصل ل"الحرية"و"الاشتراكية"من خط الإنتاج العربي! فباسم الحرية المرتجاة تأصّل الاستبداد والقمع فوُلد عندنا نوعان أدبيان نُحسد عليها وهما، أدب السجون وأدب المنافي! وها هو مفهوم"المقاومة"يبدو لي ان هذه القيمة التي أريد لها أن تكون استراتيجة عمل أو أداة فعل تحوّلت إلى هدف بذاته أو قدر أو حالة مزاج ارتفعت إلى مكانة هي فوق الأهداف جميعها والتي اعتمدت المقاومة لأجلها. من كثرة ما"قاومنا"نسينا الغايات النبيلة التي نقاوم في سبيلها. نسينا، إن المقاومة في فلسطين، مثلاً، أطلقت أداة نافذة من جُملة أدوات لاستعادة الحقّ الفلسطيني. ولم ننتبه إلى إن هذا السلاح بالتحديد صار أضعف أسلحة الفلسطيني وأكثرها نأياً بالإنسان الفلسطيني عن غاياته. بل انقلبت هذه"المقاومة"عنفاً مدمراً داخلياً، في مستوى ذهاب عشرات الضحايا في اقتتال الأخوة، وفي مزاج عام صار فيه موت الفلسطيني غاية فلسطينية يزيّنها أو يكاد مفهوم آخر هو"الشهادة". وصارت"المقاومة"فعلاً عنفياً مقصوراً على إطلاق رصاصة أو صاروخاً مصنّعاً! وأغفل"المقاومون"عن عمد أو من شدّة الولع ب"خيار المقاومة"إن العدو الإسرائيلي إنما هو، أيضا، مولعاً بهذه المقاومة، وبالذات فيها لأنها تُعطيه ألف مبرر لسياساته وجرائمه. وهي بالذات تجعله قادراً على قلب الصورة وإدامة ضحويته والانتصار على جبهة الأخلاق كأنه لم يمض على"المحرقة"سوى صاروخ وانتحاري واحد وانها تحدث، هنا والآن، وبأيدي فلسطينية! كذلك الأمر بالنسبة ل"المقاومة"اللبنانية. فالحديث الراهن عنها يحصرها في"شخص"حزب الله ومقاتليه وكأن لم يقاوم أحد من قبل. وهي حالة مثالية لاحتكار المعاني النبيلة والقيم أو المناورة فيها كجزء من ثقافة المنظمات التحررية العربية. لكن يُمكننا، أيضاً، أن نرى إليها على انها خاضعة للإنتاج في كل مرة من جديد بأيدي القوة التحررية المناوبة. خرجت إسرائيل من لبنان تحت وقع المقاومة. مقولة كلها صواب لكنها لا تختزل كامل الحقيقة فيما حصل. فالداخل الإسرائيلي، على تحولاته، زوّد بأكثر من عامل للانسحاب ومنها القناعة المترسّخة عشية الانسحاب ان أسباب الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان لم تعد موجودة وأبرزها إدراك الإسرائيليين بأنهم عاجزين عن تجيير الدولة اللبنانية. وهو ما اتضح لهم في النصف الثاني للثمانينيات! لكن سنختار ان نمنح رصيد الانسحاب إلى"المقاومة"الراهنة المتأخرة عن المقاومات الأولى لنصعّب علينا إثبات فرضيتنا."نقاوم"الآن في لبنان على نحو لا يتعلّق بإسرائيل ولا بالقدس بقدر ما هي تجيير للمفهوم في سبيل مشاريع أخرى غير التحرير. فلماذا لا نقرّ بذلك صراحة؟ ف"حزب الله"الذي أنجز مع آخرين قبله تحري الجنوب يتعرض لسؤال ليس بسهل يتعلّق بالاختيار بين مواصلة"المقاومة"المفترضة هواية أو كجزء من مزاج وكمورد يكسبه قوة ومنعة على الساحة اللبنانية مقابل القوى الأخرى، وبين بناء الدولة اللبنانية وهو أمر غير ممكن بغير إرادة واحدة في الدولة الواحدة وعلى كامل الأرض وفي مساحة الحدود المرسومة للوطن اللبناني. إما مشروع الدولة وفقد ما تطور من مفهوم"العقد الاجتماعي"وما تعنيه من استحقاقات في ألف ملف وملف، أو مشروع المقاومة الأزلية إلى ما شاء الله وقدّر. إما الوطن اللبناني الخارج من سنوات عجاف بسببه وبسبب من الأخوة الأعداء وإسرائيل، وإما الانخراط في مشاريع إقليمية أو محاور؟ نسأل مفترضين إن كل المقاومة كانت لأجل الوطن فحسب رغم علمنا بأنها استثمرت على جبهة الداخل اللبناني ولا تزال. لقد مرت سنوات طويلة حتى قرر الجيش الجمهوري في إيرلندا نزع سلاحه والذهاب في خيار ديبلوماسي وآمل ألا يستغرق ذلك في حالاتنا المقاومة كل هذه السنوات. وهذا ليس لأننا لا نعوّل على المقاومة العنفية من حيث المبدأ بل لأننا على اعتقاد راسخ من إن هذا المفهوم بحاجة إلى ردّ اعتبار له ووضعه قيد شرطيّْ المكان والزمان وما بينهما، وفي امتحان الغاية النبيلة والأهداف. وباعتقادنا إن المفهوم صار ملتبساً ومفخخاً في آن لأن معانيه خرجت من حدوده وانسابت على نحو غير قابل للسيطرة بعد الآن، ولآن مثل هذه الحالة تلتقي مع المصلحة الإسرائيلية المستفيدة، أيما استفادة، من تهلهل المعاني في لغتنا وقواميسنا ومن حالة الفوضى العارمة في المصطلحات قيد الخدمة في فلسطينولبنان وغيرهما. وهنا تحضرني بعض كلمات قالها الحكيم الصيني لاو تسو قبل 2606 أعوام وهو أبرز فلاسفة التاو:"عندما لا تتوقف في الوقت المناسب/ يطفح الكيل بمائه/ عندما تزيد من شحذ الحدّ/ فإنك تتسبّب في انثلامه"... كاتب وأكاديمي، دالية الكرمل.