عندما نتأمل حال العرب والمسلمين اليوم ونقارن حالهم بحال الأمم الأخرى، ونرى ما وصلوا إليه من تخلف وانحطاط، نشعر بالمرارة والحزن والحسرة. وتزيد الحسرة عندما نقارن حالهم المزرية بماضي جدودهم الناصع وتاريخهم المجيد، هؤلاء الأجداد الذين جمعوا الدين والدنيا، وبنوا في فترة وجيزة دولة ممتدة الأطراف مرهوبة الجانب، ولم تجد هذه الدولة حرجاً في الاستفادة من حضارات الأمم التي سبقتها فأخذت من الاغريق والرومان والفرس وطورت ما أخذته حتى أصبحت أمة رائدة. وللمرة الأولى في التاريخ نجد أمة غالبة منتصرة، تطلب من الدول المغلوبة - كغرامة حربية - كتباً ورسائل علمية بدلاً من مال الجزية والضريبة، وهكذا عمرت خزائن الحكمة والمكتبات بمئات الألوف من الكتب في كل ألوان المعرفة، وبكل اللغات المعروفة حتى ذلك الوقت من يونانية وقبطية وفارسية وهندية. وبدأ عصر الترجمة وبلغ أوجه في عصر المأمون، الذي قيل انه كان يدفع وزن ما يترجم ذهباً، وبرز عصر الابداع العلمي، إذ سطع في سماء الحضارة الانسانية مئات من العلماء مثل الفارابي والخوارزمي وابن الهيثم وابن سينا وابن النفيس، أبدعوا في مجالات العلوم الطبيعية من رياضيات وفلك وحساب وكيمياء، ونبات... الخ وقدموا لأوروبا زاد نهضتها العلمية، وقد اعترف المنصفون بهذا الفضل، وأجمعوا على أن العرب كانوا أساتذة أوروبا في جميع العلوم والفنون، وأنهم لم يكونوا مجرد نقلة للعلم الإغريقي. لقد كان المسلمون في أجيالهم الأولى أمة نشطة في كل اتجاه، كانت معظم تجارة العالم في أيديهم من الصين إلى أوروبا، وقد كان العصر الأُموي ومن بعده العصر العباسي من أكثر العصور تطوراً في العلوم، واستمر المسلمون في تطورهم وتقدمهم على هذا النهج، حتى العصر العباسي الثاني، حيث شنوا حرباً على الفقر والجهل والمرض وسادوا عصرهم متمسكين بزمام العلم. وإذا عدنا إلى واقع المسلمين اليوم ومسيرته، نجد عجباً فالشتات والتمزق والضعف اهترأ منها جسم الأمة ووصلت سوستها الى العظم، والتخلف أصبح سمة من سمات المسلمين، حتى ربطه البعض بالاسلام وهو منه براء، وثالوث الفقر والجوع والمرض اتخذ بلاد المسلمين موطناً ومستقراً وهُنَّا على الآخرين - بعد أن هُنَّا على انفسنا - فتكالبت علينا الأمم كما تتكالب الأكلة على قصعتها، وليس ذلك من قلة عدد ولكن غثاء كغثاء السيل. لقد انهار البناء القوي الذي شيده أسلافنا وأصيب جسم الأمة بالضعف والهزال ان لم نقل أصيب بالكساح، وكان ذلك بسبب الاطماع والانقسام والتنافس السياسي وقمع حرية الفكر وصراع القوى محلياً وإقليمياً ودولياً فدخل العرب والمسلمون في عصور الظلام والتأخر والتخلف التي لم يخرجوا منها حتى الآن والى إشعار آخر. وأخشى إن استمرت الحال على ما هي عليه من تدهور لصورتنا وواقعنا عرباً ومسلمين وتزايُد الضغوط الدولية المخططة بمكر ودهاء وخبث سياسي واقتصادي واستراتيجي... الخ، حتى أصبح التهميش الكامل لقضايانا واقعاً وبلاد من أوطاننا تمزقت وغارقة في جراحها تنزف وتصرخ بلا مجيب! ما نخشاه حقاً ان ينطبق على الأمة قانون الإزالة كما حدث في تاريخ أمم من قبلها. ولتجنب هذا المصير الأسود لا بد لها من أن تنهض من كبوتها تلك وتعمل من اجل التقدم في جميع المناحي السياسية والاقتصادية والعلمية والعسكرية، وذلك لا يتم الا بالتكاتف والتآزر وتوحيد الجهود فالمسؤولية مسؤولية الجميع حكاماً ومحكومين سياسيين ومفكرين وعلماء ومثقفين جماعة وأفراداً! ان من يحمل في جنبات صدره ضميراً حياً لا بد من أن يشعر بإحساس أليم يختلط فيه الإحباط بالانكسار والأسى بالأسف الشديد، وهو يرى مصير الأمة نفقاً مظلماً ليس فيه بصيص نور حتى ولو في نهايته لو كان له نهاية، ومع طول ذلك النفق ولا نهائيته اتسعت الهوة بين مفكري ومثقفي الأمة ومعظم من يصنعون القرار نيابة عنها، وهنا تبرز الحقيقة المرة والواقع الأليم الذي يبدو تغييره وكأنه مستحيل. وهذه هي حال الأمة التي تعد اليوم عند مفترق طرق حقيقي بعد ان توالت عليها النكبات وإبعاد المفكرين والعقلاء الذين يثرون التطور الفكري والسياسي والاقتصادي والمجتمعي والذب عن قضايا الأمة! وشاع بين الامة التواكل والكسل والسلبية مستذكرين امجاد الماضي اربعين عاماً من صدر الاسلام وانتهاء الفتوحات الاسلامية التي كان مؤداها الخراج والفيء انتهت ببذخ وإسراف في الاموال وفوائضها بدلاً من دفع عجلة الاقتصاد والتنمية والمستوى الاجتماعي فكانت النتيجة الحتمية التأخر والتخلف وتمزق الدولة الاسلامية، وهذه سمة تنطبق على الدول العربية والاسلامية اليوم على رغم ثرائها من الموارد الطبيعية وغيرها. والشيء المؤلم والعجيب حد الاندهاش في الوقت نفسه أن الأمة الاسلامية - التي تعاني الخور والضعف وخيبات الامل المتلاحقة منذ أكثر من خمسة عقود وينخر عظامها التخلف والانحطاط وتتوالى عليها الكوارث كل واحدة منها اكبر من أختها حجماً واكثر منها سوءاً، حتى ان اسرائيل التي كانت تطلب الصلح والعرب يمتنعون بل يستكبرون ها هي اليوم ترفض بينما العرب يهرولون طلباً للتطبيع. هذا، لأن الدولة العبرية منذ تأسيسها على ارض العرب طبقت خططاً استراتيجية عسكرية فدخلت النادي النووي الذي لم يفكر العرب حتى بالوقوف على بابه، وعمقت وجودها سياسياً وديبلوماسياً واقتصادياً كأمر واقع على الارض، بينما العرب من جانبهم عاشوا على حلم اللاءات في مؤتمر الخرطوم 1967، واستمروا حتى تحولوا الى نعمات في مؤتمرهم في المكان نفسه عام 2006. هذه الأمة وفي حالتها الراهنة تاهت بها السبل لا تملك من القوة والارادة ما يكفي لصد أطماع اسرائيل! تعيش وسط بحر متلاطم من القضايا والأزمات المعقدة والمخاطر المحدقة محلياً واقليمياً ودولياً تهمش مفكريها واصحاب الفكر الثاقب والرأي السديد من أبنائها وهم القدم التي بها يمكن ان تنهض من كبوتها والنور الذي يضيء لها ظلام الطريق لنهوضها، والسلاح الذي يرد عنها مهددات الطريق عندما تبدأ السير، فبهم نهضتها وبهم حركتها وبهم ضمان استمرار تقدمها فلا يصيبه ذبول ولا ضعف ولا انطفاء. وأهل الغرب والشرق والامم الأخرى لم يبلغوا ما بلغوه من علم وتطور مذهل الا بالعلم والعمل الجاد وبذل النفس والمال، فالسماء لا تمطر ذهباً ولا فضة.. لكن بالعلم والعمل والتخطيط السليم والفكر النير الرشيد تنهض الامم، وهو الشيء الذي نهضت به الامم الاخرى... وتأخرت عنها بقرون أمتنا! لأن الكثيرين من ابناء جلدتنا استسلموا لحضارة الغرب متناسين الاصالة والمبادئ الكفيلة بنهضة الأمة الكامنة في دينهم وحضارتهم بدلاً من التغريب والتقليد الأعمى! يجب ان نفهم ان سقوط الاتحاد السوفياتي السابق، وانفراد اميركا بقيادة العالم والهيمنة بخاصة في المحيط التكنولوجي من الحضارة لم ينل من همم الذين يدركون أن سنة الكون لا تعرف الثبات، وان اميركا مهما بلغت قوتها وحضارتها فإنها تفتقد الى قيم العدالة والحق على رغم رفعها للشعار الزائف للحرية والمساواة وحقوق الانسان، وهي لن تستطيع فرض سيطرتها المطلقة على حركة العلاقات الدولية... فبروز قوى اخرى لن تحجبه قوة أميركا. ففي الأفق تلوح قوى أخرى من جديد لتصعد كروسيا التي أخذت تتعافى من مسببات الانهيار، والصين التي تتحفز للقيادة والاتحاد الاوروبي ومعه اليابان كلها سيشهد التاريخ مبارزتها لأميركا وخروجها عن سطوتها كلياً او جزئياً وعاجلاً ام آجلاً ستضمحل السطوة الأُحادية لأميركا، وهذا هو ديدن الامبراطوريات وصدق الله اذ يقول:"ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون"الأعراف 34، فالأمم ككل شيء لها عمر محدود وأجل محتوم! وكلنا يدرك ان ما يواجه الأمة سيكون عابراً مع حركة التاريخ فستقوم الأمة مرة اخرى لتنهض من جديد نافضة عنها اسباب تأخرها عن الأمم الأخرى... وهذا سيكون ركيزته الايمان الراسخ بالله، واجتياز المحن والنكبات بالاعتصام بحبل الله، ولا بد من ترسيخ الأمل والتأكيد على قيمنا الحقيقية. لا بد من ان نعترف بأننا أقوياء بعقيدتنا وتراثنا وثقتنا في انفسنا، وما علينا إلا أن نعمل وندرك ان لغة العالم المتغير اليوم هي المصالح المتبادلة في العلاقات الدولية، وفي التقدم العلمي والتطور والتكنولوجيا لغة القوة بكل عناصرها، وهذا تجسيد لفن ولعبة السياسة الدولية التي طبقتها وتطبقها الدول ببراعة على عالمنا العربي، ولكننا اذا توقفنا عن فهم هذا الواقع او فهمناه وتجاهلناه فستتوقف عجلة تاريخنا وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من اراد الدنيا فعليه بالعلم ومن اراد الآخرة فعليه بالعلم ومن ارادهما معاً فعليه بالعلم". وليت العرب وهم يشاهدون مصير نظامهم العربي اليوم تقذف به الرياح العاصفة ميمنة وميسرة وسط احداث وتطورات خطيرة غير مسبوقة تهدد الكيان العربي برمته، في ظل هذا التخلخل في الكيان الدولي ومتغيراته والتحولات الكبرى المرتقبة في السلوك الدولي، ليتهم يجدون مكاناً لنظامهم العربي في تاريخ البشرية اليوم المليء بالتطورات الجادة والتحولات الكبرى! عليهم أن يدركوا ان التاريخ لا يرحم وأنه في مسيرته الطويلة لا توجد اسرار تحجب، وانما توجد احوال ترصد وتضبط وتحلل وفيها عبر، وعبر لمن يعتبر، وان الامة لا بقاء لها اذا استمر تأخرها وتفككها وتدهورها، بل ان خروجها من ساحة التاريخ قد يكون وشيكاً، اذا لم يكن التاريخ بالفعل رفض وجودها في منظومته. على الامة فهم ان صلاح الامة ونهوضها من عثراتها وكبواتها لا يمكن اصلاحه الا بما صلح به اولها، وعليها الامة استيعاب دروس وعبر التاريخ بعد ضياع العراق المغتصب وتسريح جيشه وتدمير سلاحه وتشريد من بقي من علمائه حياً، ويخطئ من يفتي متواطئاً بأن جنود اميركا جاءوا ليحرروا العراق ويحموا أمن الخليج العربي، فهم جاءوا ليغادروا من الباب، ويعودوا في اللحظة نفسها من الشباك، بل أدخلوا ايران في قلب العراق. ايران المارد النووي الجديد تطل على المنطقة الخليجية العربية برمتها لتخلق الهواجس الامنية والعسكرية تخطط للنفوذ في العراق والمنطقة، ويبقى على العرب في خضم هذه التطورات والصراعات والتغيرات السريعة اقليمياً ودولياً تبني استراتيجية جادة لصوغ نظام عربي جديد على أنقاض النظام العربي والأمني الحالي المريض يختلف عنه شكلاً ومضموناً. واذا كانت تسوية الصراع التاريخي مع اسرائيل ما زالت قائمة، فإن المبادرة العربية التي أجمع عليها في قمة بيروت 2002 يجب الاستناد اليها ودعمها بدلاً من خريطة الطريق التي تاهت في الطريق! * مفكر سعودي - رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة.