تعود اسطورة النحات بيغماليون وحبيبته غالاتيا الى ازمان سحيقة. وهناك كتب قديمة عدة روتها، في مضمون واحد دائماً، وانما في اشكال متنوعة. اما الحكاية التي بنيت عليها الاسطورة كلها فتتحدث، غالباً، عن النحات الذي كان يعيش ويعمل في جزيرة قبرص. وذات يوم قررت الآلهة آفروديت ان توقعه في الحب، فاختارت له ان يغرم بتمثال نحته بنفسه لغالاتيا، عقاباً له على اختياره البقاء عازباً. وانطلاقاً من هنا تتنوع الحكايات وإن كنا نعرف اليوم ان القسم الاعظم من التنويعات خلال القرون الاخيرة، انما انطلق من النص الذي كتبه اوفيد، حول هذه الحكاية، في كتابه"مسخ الكائنات". فاستناداً الى هذا النص الاوفيدي تفنن الشعراء وكتاب المسرح، ومن بعدهم الموسيقيون في رواية القصة وكل منهم يحاول ان يستخلص الرموز والعبر التي فهمها او تناسب زمنه وافكاره.. ذلك ان اسطورة"بيغماليون"تعتبر حمالة اوجه. واذا كان اصحاب اسماء كبيرة في عالمي الادب والفن قد نهلوا من الاسطورة واشتغلوا عليها نصوصاً تاريخية او معاصرة لهم، فإن النص الاشهر في ايامنا هذه، يظل ذاك الذي كتب اوائل القرن العشرين بقلم جورج برنارد شو. وهو النص نفسه الذي حول اواسط ذلك القرن الى مسرحية موسيقية قدمت في برودواي وغيرها باستمرار وحملت عنوان"سيدتي الجميلة"ماي فير ليدي، ثم حولت فيلماً عرض اوائل ستينات القرن العشرين وحقق نجاحات ما كان أحد يتوقعها. من الطبيعي اننا ما كان لنا ابداً ان نتوقع من كاتب حاذق وساخر من طينة جورج برنارد شو، ان يكتب النص الاصلي كما هو. فلشو دائماً افكاره ومعاركه وتفضيلاته وله كذلك اجواؤه التي برع دائماً في رسمها... ثم خصوصاً موقفه المتهكم العنيف من الارستقراطية الانكليزية في زمنه، ناهيك - اخيراً - بموقفه من قضية الفن نفسه. ومن هنا كان من المنطقي له، اذ قرر ان يكتب"بيغماليون"كتابة معاصرة، ان يستحوذ على العمل ككل، في مبناه كما في معناه ليحوله عملاً ينتمي اليه كلياً. وهكذا منذ كتب شو"بيغماليون"نسي كثر من القراء والمتفرجين اصول العمل وأماكنه القديمة، وصاروا شبه واثقين من ان الاحداث انما جرت، حقاً، في لندن الفيكتورية. كما نسوا حكاية التمثال، ليصبحوا واثقين من ان الامر لا يتعلق بهيام نحات بمنحوتته الحجرية، بل بصنيعته البشرية. اذاً، تدور احداث"بيغماليون"جورج برنارد شو في لندن بدايات القرن العشرين... اما بطل المسرحية، فإنه هنا عالم لا يزال يتمتع ببعض الشباب، شديد الطرافة موسر يعيش كما يحلو له عازباً لا يتطلع الى الهوى أو الى معاشرة النساء، مكرساً وقته كله لعلومه ولمكانته الاجتماعية. اما العلم الذي تخصص فيه السيد هيغنز هذا، فإنه علم دراسة الصوتيات وبالتالي دراسة اللهجات المختلفة وتأثرها بوضعية المرء الاجتماعية، وتأثيرها فيها. وذات يوم يحدث للسيد هيغنز هذا ان يلتقي بائعة صبية حسناء وفقيرة، يلفته فيها لكنتها السوقية وتعابيرها المضحكة والمتهكمة، في ابتذال، بعض الشيء. وعلى الفور يقرر صاحبنا ان الوقت حان لتحقيق معجزة ما. واذ يدنو منها ويعرف ان اسمها اليزا، يطلب منها ان تستجيب له، في تجربة علمية يود الإقدام عليها، وتقوم في تصحيحه مساوئ لكنتها. فاذا قبلت بعرضه سيكون سخياً معها. وتقبل اليزا العرض طبعاً، مبدية رغبتها في خوض التجربة ساخرة من الاستاذ اول الامر. غير ان الامور سرعان ما تجري من دون اية سخرية. فاليزا فتاة ذكية سريعة البديهة. ومن هنا ما إن تمضي ايام قليلة على خوض التجربة، حتى تكون قد حققت مقداراً كبيراً من النجاح، وليس فقط في المجال الذي كان منشوداً منذ البداية تحسين النطق، بل في الكثير من المجالات الاخرى. ذلك ان هيغنز هو من المؤمنين بأن ارتقاء المرء اجتماعياً هو كل متكامل، فإذا تحسنت لهجة النطق تتبدل اخلاق الانسان ويتبدل انطلاقاً من هنا ذوقه في المأكل والمشرب، ويتحسن سلوكه الاجتماعي وهكذا... وفي غضون فترة يسيرة من الزمن، وبعد دروس في النطق والتصرف، وبعد ان يشتري هيغنز لإليزا ملابس جديدة ويهتم بتحسين مظهرها، ودائماً ضمن اعتباره اياها مجرد"فأر تجارب"، يقرر ذات يوم ان الوقت حان ليجري لها أول امتحان حقيقي: سيقدمها الآن الى مجتمع علية القوم، ليرى تصرفاتها على الطبيعة وردود فعل اهل ذلك المجتمع. لو نجحت سيكون هو نفسه قد طبق نظرياته العلمية. واذا فشلت فسيكون الفشل فشله هو أولاً وأخيراً. وتقام حفلة كبيرة يحضرها هيغنز وإليزا وتنجح هذه في الامتحان نجاحاً كبيراً. غير ان المشاكل لا تنتهي هنا، بل تبدأ. ذلك ان ما كان فات صاحبنا العالم التنبه اليه هو ان تصحيح النطق يحدث تغييراً اساسياً، ليس فقط في المظهر الخارجي والسلوك الاجتماعي، بل بخاصة في المنطق واساليب التفكير ثم ايضاً في المشاعر والاحاسيس. وكان الذي حدث خلال فترة التدريب والاختبار - ومن دون ان يدرك هيغنز أي شيء من هذا - هو ان اليزا راحت تدريجاً تغرم بهيغنز وتشعر بنفسها القوة والقدرة على ان تكون صنواً اجتماعياً له، وليس فقط - كما يرى هو - مخلوقة صنعها على هواه. وبالتالي لم يتنبه هيغنز الى عمق التبدلات الحقيقية التي طاولت اليزا: هو كان يعتقد انها تبدلات شكلية ومسلكية. اما بالنسبة اليها، فإن الامور اعمق كثيراً: صارت موزعة بين جملة من العواطف، حائرة في خضم افكار معقدة هي التي كانت تتعاطى مع الحياة بابتذال وبساطة تعاملها مع لهجتها. باختصار ادركت اليزا فجأة انها ? بالنسبة الى هيغنز - لم تكن اكثر من فأر تجارب، بينما كانت قد اعتقدت، لفرط ما تعمقت في اللعبة، انها صارت بالنسبة اليه كائناً بشرياً. اعتقدت ان لها مكانة ما في قلبه. اما في الحفلة فقد اكتشفت ان كل شيء بات متاحاً لها الا هذا. فصعقت ولم تجد ملجأ لها من صدمتها وأحزانها الا في حضن تلك السيدة الارستقراطية الطيبة: ام هيغنز. اما نحن معشر المتفرجين والقراء، فإننا سنبدأ بالنظر الى الامور في شكل مختلف عن نظرة هيغنز او حتى نظرة اليزا اليها. سننظر من وجهة نظر ام هيغنز التي ادركت - وأدركنا معها - ان في الامر حباً عميقاً باتت اليزا تشعر به تجاه هيغنز. وهو حب يتعدى الاحساس بالتحدي أو العرفان بالجميل. انه الحب الخالص. واذ تدرك الام هذه الحقيقة تجد ان من واجبها العاطفي كما من واجبها الانساني ان تقف في صف اليزا وقد قررت ان توصل حكاية الحب هذه الى نهايتها السعيدة، آخذة على ابنها غفلته وحمقه امام شخصية اليزا وجمالها وطيبتها. وهكذا تتدخل الام ويدرك هيغنز ليس فقط حقيقة ما يحدث من حوله، وحقيقة المشاعر التي نمت خلال الفترة السابقة في اعماق اليزا، بل يدرك كذلك حقائق الحياة الحقيقية التي كان غائباً عنها تماماً وهو غارق في ابحاثه وكتبه وحياته الاجتماعية الصاخبة التي لم يكن للقلب وقضاياه فيها أي مكان. وهكذا اذ يتفتح ذهنه - تحت ضغط أمه، ولكن ايضاً تحت ضغط مشاعره الخاصة التي كان يسجنها داخل منطقه الواعي - يصالح اليزا التي تقبل اخيراً بالعودة الى داره... نظرياً لاستئناف التجارب، ولكن عملياً لكي تصبح سيدة قلبه وحياته، حتى وإن كانت المسرحية تنتهي من دون توضيح هذا الامر، اذ ان هيغنز سيظل يزعم ان الحب والزواج على تضاد مع طبيعته، وستقول له اليزا انها ستتحول الى مدرّسة للنطق تنافسه وتتفوق عليه. اذاًَ نحن هنا امام نهاية مفتوحة بالمعنى الادبي للكلمة، ولكن يمكننا بعد انزال الستارة ان نخمن ان النهاية ستكون سعيدة ومنطقية. بيد ان هذه النهاية ليست العنصر الاهم في المسرحية. فالمهم هنا - بالنسبة الى جورج برنارد شو 1856 - 1950، كان ان يصور من خلال هذا العمل الذي كتبه في العام 1913، اخلاقيات طبقة، والصراع بين العقل والعاطفة، اضافة الى خوضه من ناحية في قضية الفن علاقة المبدع بنتاج ابداعه، ومن ناحية ثانية بمسألة كانت قبل الوف السنين عزيزة على قلب سقراط كما يتجلى لنا في الحوارات الافلاطونية: هل المعرفة اصيلة في اعماق الانسان ام تراها مكتسبة تكفي شرارة لاشعال لهيبها داخل المرء؟