الحكاية في الأصل هي حكاية نحات قبرصي يدعى بيغماليون، وحكاية فاتنته افروديت والتمثال الذي نحته لها. لكن هذه الحكاية التي قد تبدو بسيطة أول الأمر فتنت الكتّاب ودفعتهم الى سن أقلامهم وأفكارهم، وهكذا، من أوفيد الى جان جاك روسو، ومن الاسباني جاسنتو غرو، الى كاتبنا العربي توفيق الحكيم، نعرف ان عدداً كبيراً من الكتاب جرب حظه مع هذا العمل... بل وصل الأمر الى الموسيقيين والرسامين. ولكن الحقيقة تقول لنا ان اياً من هؤلاء لم يوصل "اسطورة بيغماليون" الى النجاح الذي اوصلها اليه، وإن في شكل موارب، الكاتب الكبير جورج برنارد شو. ذلك ان "بيغماليون" كما كتبها ونشرها شو في العام 1912، وقدمت للمرة الأولى في باريس في العام 1923، تظل الأقوى والأقدر على استخراج كل المعاني الرمزية لهذه القطعة الابداعية. ولقد زاد من أهمية "بيغماليون" وشهرتها، خلال النصف الثاني من القرن العشرين تحويلها فيلماً عنوانه "سيدتي الجميلة" ماي فير ليدي مثلته اودري هيبورن وكان أنجح فيلم أميركي في زمنه، حتى وإن كان مناخه انكليزياً. المهم ان "بيغماليون" كما كتبها جورج برنارد شو، تختلف في الشكل عن الاسطورة الاصلية، لكنها لا تختلف عنها في المضمون او في المعنى... وبالتحديد لأن في هذا العمل الاصلي من المعاني المرتبطة بالانسان وخلقه والعلاقات البشرية ومفاهيم التربية، ما لا يضاهيه ما في اي عمل آخر من هذا النوع. و لعل أهمية عمل شو تكمن اساساً في كونه عصرن الاسطورة وجعل ابطالها اشخاصاً من لحم ودم يعيشون بيننا وكأنهم منا. تبدأ مسرحية "بيغماليون" كما كتبها جورج برنارد شو، برهان يقوم بين العالم الارستقراطي الظريف والصلف في الوقت نفسه، هنري هيغنز، وصديقه الكولونيل بيكرنغ على فتاة هي اليزا دوليتل، يلتقي فيها ذات يوم فتلفت لهجتها المبتذلة وأسلوبها المشاكس الوضيع في التصرف، نظرهما. وهنا يقول هيغنز لصديقه ان في امكانه، خلال اسابيع قليلة، ان يحول هذه الفتاة الى ليدي ارستقراطية، بمجرد تعليمها اناقة الحديث واسرار اللهجة الراقية. واذ يقول له الكولونيل ان هذا غير ممكن، منطقياً، يقوم الرهان ين الرجلين. وعلى اثر ذلك يدنو هنري هيغنز من بائعة الزهور الصبية اليزا، ويعرض عليها ان يعلمها المنطق مقابل بعض مال يعطيه لها ومال آخر يعطيه لأبيها. وهكذا يصطحبها، في كل براءة، الى منزله، وتبدأ التمارين على الفور، فيما يشعر هيغنز انه يسابق الزمن طالما ان الرهان مدته ستة اسابيع. غير ان اليزا لم تُخب امل هيغنز، حيث انها خلال التمارين ابدت من الاستجابة والاستعداد الفطري ما اذهل استاذها. وهكذا خلال الفترة المحددة، بل خلال فترة أقل، نجحت اليزا في الاختبارات التي اجريت لها، وتحسن نطقها... ولسوف نرى ان النطق لم يكن وحده ما تحسن لديها. وتجلى ذلك خلال حفلة صاخبة في حديقة منزل سفير من اصدقاء هنري هيغنز. فإلى تلك الحفلة اصطحب هيغنز تلميذته النجيبة ليقدمها الى الحفل على اساس انها دوقة، من دون ان يكشف سرها لأحد... وتتصرف اليزا مثل دوقة حقيقية، نطقاً ولكن فهماً ايضاً وأناقة: تبدو وسط ذهول هيغنز والكولونيل صديقه وكأنها طالعة من فورها من أرقى العائلات والمدارس الارستقراطية. واذ يروح الاستاذ والكولونيل يهنئان نفسيهما بذلك الانتصار الكبير، وبنجاح التلميذة وقدرتها على اقناع الجميع بأنها ليدي حقيقية، تكون اليزا قد اضحت في عالم آخر تماماً، فهي انتبهت فجأة الى ان الرجلين لا يقيمان اي وزن لدورها في النصر، حسناً، قد لا تكون مهتمة كثيراً بموقف الكولونيل على رغم ودّه تجاهها، لكن موقف هنري هيغنز يغيظها الى حد الحزن والدمار... ذلك ان الرجل، خلال اسابيع العمل معاً، كان قد استهواها الى درجة انها وقعت في غرامه، من دون ان يلاحظ هو شيئاً... وها هو الآن يتجاهلها تماماً كامرأة من لحم ودم، معتبراً اياها مجرد مادة أجرى عليها اختباراً ناجحاً. صحيح انها كانت مادة طيّعة بين يديه، مثل المادة التي صنع منها بيغماليون الاصلي منحوتته، لكنها في نهاية الأمر، كائن بشري... تحب وتحزن. انها ليست مجرد دمية صنعت. ان هذا كله تحسه اليزا الآن، لكن هنري هيغنز يعيش خارجه تماماً، فهو المهووس بعلمه وبانتصاره، ما كان ليخطر في باله ان للمادة التي اشتغل عليها اي حياة او مشاعر خاصة. ما كان ليخطر في باله انه في الوقت الذي كان ينمي لديها مقدرات لغوية واجتماعية، كان يبعث في فؤادها دفء الحب. واليزا اذ تيأس من قدرة هيغنز على فهم ما بها، بعد انتصاره الكبير، تلجأ الى منزل والدته، السيدة الليبرالية الواعية. وهذه اذ تؤنب ابنها على التفاوت بين نجاحه العلمي وتفاهته الانسانية، تدفعه الى التفكير في الأمر ملياً... ليدرك - فقط - ان اليزا باتت جزءاً أساسياً من حياته، ولكن ليس على النحو الذي كانت تأمله اليزا. وهكذا، حين يتوجه اليها في صبيحة اليوم التالي"تائبا" "مستغفراً" لا يكون منه الا ان يعرض عليها - وهو يعتقد ان هذا قمة الاريحية والحب من جانبه - ان تعود الى منزله لتعيش معه ومع صديقه الكولونيل كثلاثي عازب. وهنا يبلغ الغضب بالفتاة مبلغاً كبيراً، ولا تشعر فقط ان هيغنز يغدر بحبها، بل انه يغدر بكرامتها ايضاً، وهكذا ترفض عرضه، فهي لا تسعى الى الحصول على صداقة او حياة مترفة، بل ما يهمها هو الحنان، يهمها ان ينظر اليها بحب... لكنه، هو، يرفض هذا تماماً، محاولاً اقناعها بأن هذا الأمر يتعارض تمام التعارض مع طبيعته نفسها. وازاء هذا كله لم يعد في وسع اليزا التي صارت الآن اكثر ثقة بنفسها وقدرة على مجابهة الحياة. الا ان تخطو خارج حياة استاذها، معلنة امامه - وسط دهشته الحمقاء - بأنها ستتزوج شاباً صديقاً له هو فريدي كان يطاردها منذ زمن بعيد. كما انها تعلن امام هيغنز انها، من الآن وصاعداً، اذ لم تعد راغبة في العودة الى بيع الزهور - طالما ان لهجتها الجديدة لا تمكنها من هذا - ستصبح استاذة صوتيات، مثل هيغنز تماماً، بل في التنافس معه. اذاً، هذه المسرحية الطريفة والعميقة في الآن معاً، اعتبرت، ولا تزال، واحدة من أفضل المسرحيات التي كتبها جورج برنارد شو خلال تاريخه الابداعي الطويل... اذ ان النقاد والمتفرجين وجدوا فيها، خارج اطار المسرح الذي طبعها، نزعة انسانية عميقة ندر ان تجلت لدى كاتب على مثل هذه البساطة: نزعة انسانية تدفع المؤلف الى التعبير عن تعاطفه التام مع المخلوق ولو ضد عملية الخلق نفسها او ضد الفنان المبدع. وكذلك وجدوا فيها تبجيلاً لقوة اللغة انطلاقاً من فكرة ان من يعلم امرءاً كيف يتكلم، يعلمه ايضاً كيف يفكر وكيف يعي وكيف يستقل بفكره ونفسه، خارجاً من بيولوجيته البحتة. وجورج برنارد شو 1856-1950 هو بالطبع، الكاتب المسرحي والمفكر الايرلندي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، بكتاباته وحكاياته ومشاكساته، خلال عقود طويلة من السنين، ولا يزال حاضراً اليوم بهذه الاعمال، ولكن ايضاً بشخصيته بعد اكثر من نصف قرن من رحيله. ومن أعمال شو الكبيرة كتب عن الرأسمالية والاشتراكية، ومسرحيات مثل "كاترين العظمى" و"اندروكلس والأسد" و"الماجور بربارا" و"الانسان والسوبرمان" و"جزيرة جون بول الاخرى" و"رجل الأقدار" و"تلميذ الشيطان" وغيرها.