كان على زائر معرض التشكيلي العراقي ضياء العزاوي، أن يصعد الأدراج العالية المؤدية إلى قاعة العرش في قلب قلعة حلب، ليشهد عن كثب إلى أين وصلت تجربة هذا الفنان المتفرد. في فضاء القاعة التي ضمت ذات يوم مجلس سيف الدولة الحمداني وصدى أشعار المتنبي وأبي فراس الحمداني، توزعت أعمال ضياء العزاوي بمبادرة من"دار كلمات"، ولعل أول ما يلفت الانتباه هنا، هو أن اللوحات المعروضة اعتمدت الطباعة، الأمر الذي أفقدها وهج ورائحة القماش، لكن هذه الوسيلة المعتمدة عالمياً، لم تخفف الدهشة من شغل هذا الفنان الذي يعرض أعماله للمرة الأولى في سورية، خصوصاً أنه اختار أعمالاً تنتمي إلى مراحل مختلفة من تجربته اللونية الطويلة، هذه التجربة التي تمتد إلى مطلع الستينات، ببروز جماعة الانطباعيين العراقيين، والتي استلهمت في أعمالها منجز الفنان الرائد جواد سليم في الالتفات إلى المفردات والرموز الشعبية في محيط من الفراغ اللوني، ولعل خصوصية ضياء العزاوي تتجلى في حفره العميق في استلهام البعد الآثاري للوحة ومزجها بعناصر من الموروث الشعبي من دون أن يتخلى عن الغنائية العالية للون، إذ اعتمد على تجاور الكتل اللونية إلى جانب مقاطع من القماش الشعبي المزين بالورود، وأحياناً"الخيش"كمقترح جمالي، لا يجد صعوبة في التماهي مع معطيات الحداثة، وهذا المزج بين الروح الشرقية والتجريد هو في المآل الأخير مسعى طليق لكتابة نص تشكيلي مفتوح على الاحتمالات والتأويلات والاختزال، مثلما ينبئ عن قلق خلاق في استنباط أبعاد جديدة لتعبيرات اللون وحركة الخط على خلفية شغله الغرافيكي الصارم. وتكشف السيرة اللونية لهذا الفنان عن تبدلات دراماتيكية كبرى، قائمة على التضاد والتنافر، من أقصى حدود النشوة اللونية في أعماله المبكرة إلى مساحات السواد كترجيع لأزمة وجودية تتعلق بمصير"أرض السواد"، إذ يزحف اللون الأسود ليغطي مساحة اللوحة، وكأن ضياء العزاوي وهو يستعيد المشهدية التاريخية للعراق من"ملحمة جلجامش"إلى اليوم، يجد ذاته أسير الحزن التاريخي وخراب الروح، وهو ما يسجله في لوحته"يوميات عراقي"مثلاً، فهنا تصطخب الألوان والخطوط لتضيء تناقضات الخريطة ودمارها، فيما تكشف أعمال أخرى عن هوس لوني يرتقي إلى حدود الشطح الصوفي كما في"كتاب الصحراء". وربما لا تكتمل تجربة ضياء العزاوي من دون إطلالة متأنية على اشتغالاته البصرية المستمدة من نصوص شعرية حاول اختبارها لونياً، انطلاقاً من المتبني وابن حزم مروراً بأبي القاسم الشابي والجواهري ونزار قباني ومحمد بنيس وأدونيس إلى سعدي يوسف ومظفر النواب. وتتبدى هذه العلاقة في ابتكارها حلولاً بصرية للنص، ليس من موقع التفسير، إنما من ضفة أخرى تقوم على إثراء الصورة الشعرية بصورة لونية، تتمازج فيها المعرفة بالتزيين، جرياً على عادة رسامين عرب قدامى، كانوا زينوا بعض المخطوطات القديمة برسومهم وتخطيطاتهم ما منح اللوحة تناصاً بصرياً يتوغل في البلاغة الداخلية بأسلوبه التشخيصي الذي يأخذ النص بعيداً من ضفافه الأولى في محاورة واشتباك مع الفضاء التجريدي للغة الشعرية، خصوصاً أنه يناوش نصوصاً من مناطق شعرية مختلفة في رنينها وإيقاعاتها، وفي اشتغالاتها الحسية أو الذهنية تبعاً لفضاء تجربة هذا الشاعر أو ذاك، ليتحول النص في نهاية الأمر إلى مجرد مشغل سري لهواجس الفنان وتطلعاته اللونية، التي تتفاوت في درجاتها من البهجة إلى السواد التام. ويشكك ضياء العزاوي بوجود لوحة عربية خالصة كمحصلة لدأب شخصي في اختراق تقنيات أخرى مستمدة من ثقافات متباينة، وهكذا فإنه لا يتوقف عند حدود المنجز التشكيلي العربي والإسلامي، إنما يقترح إشارات متنافرة لبناء عناصر جديدة للوحة، سواء على صعيد اللون والسطوح أم على صعيد التقنيات، وتالياً فإن اعتماده"الكولاج"أو معطيات الملصق في بعض أعماله، هما نتاج قلق مستمر وبحث دؤوب لتطويع مفردات جديدة، تتناوبها عناصر هندسية تمتد من المثلث إلى الدائرة كمركز لبلاغته التشكيلية، قبل أن يطيح بها نحو تجريد مفتوح، وتشخيص مختزل يحتفي بتفصيل على حساب تفصيل آخر غائب، وهذا التناوب بين الظاهر والباطن هو أحد الملاذات الحميمة لهذا التشكيلي اللافت، ومن هنا يصعب على المتلقي الاطمئنان إلى ركيزة أساسية في تظهير صورة نهائية، وكأن ضياء العزاوي في ترحاله الطويل، ومخزونه الشرقي العميق، هو سليل شرعي للواسطي وكل ملوني وآثاريي بلاد ما بين النهرين، بإضافة بصمة شخصية لا تمحى.