بعض الحق في نظرنا الى علاقتنا مع الثقافة الكونية، فالمد الثقافي الذي تحمله العولمة يجد أمامه في بعض دول العالم أبواباً مفتوحة ونوافذ مشرعة، دونما مناعة ذاتية فعالة تصفي الضار، أو انتقاء منضبط يستقبل المفيد، وإذ لا مناص لأمم الأرض من التعامل مع عولمة الثقافة، فعليها اللجوء إلى أمرين: الأول: التمسك بالهوية الثقافية. والثاني: اللجوء إلى القيم المشتركة التي أوضحنا امثلة لها من قبل، والتفاعل معها فهي قيم لا جنسية لها، وتجمع أمم الأرض عليها، ولا تتنافر معها أو تنفر منها، والتجاوب معها يكون بهدف تقوية الصلات الفكرية والعلاقات الثقافية التي تحمل في طياتها الخير والحق والعدل لها. ولأن أمتنا تدين في ثقافتها لعقيدتها فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل ثقافتنا العربية الإسلامية قادرة على مواجهة العولمة الثقافية؟ نقول ابتداء وبثقة إن منظومة الثقافة العربية الإسلامية تملك من المقومات والمبررات والقيم والمبادئ الإنسانية ما يمكن المسلمين من التعامل مع الفكر العالمي بندية وتوازن، وعلى الانفتاح على ثقافات الدنيا بجدارة واتزان، بعد أن يتم تفعيل ما تملكه المنظومة في العقل وفي النفس وفي السلوك من أجل خير حاضر أمتنا ومستقبلها، ولأجل تصحيح نظرة الآخر غير الصحيحة لنا ولثقافتنا، عبر التواصل مع الأمم الأخرى بعامة والغرب بخاصة، ولهذا فمن المنطق أن نستعيد ثقة الغير في ثقافتنا وما تروج له من قيم التسامح والاخاء والخير للبشرية جمعاء. ولا يحسبن أحد أن الأمر سهل وسلس كما يتمنى ويتطلع، بل يتطلب جهداً ومثابرة وحرصاً سنأتي على تفصيله بعد قليل، ولكن نؤكد بداية على القاعدة المعروفة في مضمار التبادل الثقافي بين الأمم التي تقول: إذا لم تفهم ثقافة الآخر فلإن الآخر لن يفهم ثقافتك، فهل فهمنا نحن ثقافة الآخر؟ قبل إن نفصل علينا إن ندرك أمرين: الأول: أن رؤية الآخرين الى ثقافتنا تكاد تكون مظلمة، لا بل وظالمة. والثاني: أن موقفنا من ثقافة الآخرين يكاد يكون مرتبكاً لا بل ومشوشاً ومضطرباً. ونبدأ بالأمر الأول: وهو الاعتراف بأن الأمة امام تحد من شقين. الشق الأول: مواجهة الهجمات الشرسة والظالمة ضد الإسلام ونبيه الكريم عليه السلام وقيمه ومبادئه وثقافته التي تنم عن جهل أو حقد أو عن الاثنين معاً. والشق الثاني: التصدي لمخطط ضعضعة وحدة الأمة، الذي أخذ اليوم طريقه إلى التنفيذ، بالتفريق بين مذاهبها وإثارة الفتن بين طوائفها. ويمثل هذا التحدي بشقيه امتحاناً صعباً للأمة، عليها أن تجتازه بتخطيط وعقلانية وصبر، وتنفذه بحكمة ومثابرة وتكاتف. فانقلاب الموازين وتغير المفاهيم وارتباك الأولويات منذ أحداث 11 من أيلول سبتمبر 2001، جعلت الحليم حيراناً وهو يبحث عن أفضل الطرق لتصحيح ما آلت إليه صورة الإسلام وثقافته لدى الناس في الغرب من تشويه وازدراء واجحاف وظلم، فالغرب بات اليوم يفكر في الإسلام بصورة غير مسبوقة، ونطالبه بالالتزام بعدم الفصل اطلاقاً بين احترام الحريات واحترام الأديان والثقافات، وعندها تكون فرصة للمخلصين من الدعاة والمفكرين لتصحيح الصورة. ونجد في هذا المجال أن ثمة أمرين نحسب أنهما يتصدران استراتيجية الدفاع عن العقيدة والنبي الكريم عليه الصلاة والسلام، هما: الأول: الانفتاح بإصرار وحرص على العالم بتعدد ثقافاته وتنوع أفكاره، باعتزاز بالعقيدة وبثقة في الذات وبتمسك بالهوية الثقافية. ونتوقف هنا قليلاً لنسأل: كيف؟ لنجيب: إن هذا يكون باللجوء إلى ما عرف ب"الديبلوماسية الثقافية"، وهو مصطلح برز أخيراً في أدبيات صحافة الولاياتالمتحدة الأميركية، وهي تحاول جاهدة أن تعين الادارة الأميركية على تحسين صورة أميركا لدى شعوب العالم العربي والاسلامي. هذا المصطلح يعني ضمن ما يعني أن تتولى الأجهزة والفعاليات مهمة عقد لقاءات فكرية وحوارات ثقافية مع نخب العالم، من مفكرين ومثقفين وكتاب وقادة رأي في مجتمعاتهم، لتمكينهم من فهم الاسلام وما يدعو له ويسعى إلى تحقيقه من خير وحق وعدل للإنسانية جمعاء، وما تدعو إليه ثقافته من قيم الوسطية والاعتدال والتسامح والتآخي بين الشعوب. أما الأمر الآخر الذي يجب أن يتصدر استراتيجية الدفاع عن العقيدة ونبيها العظيم فهو: الاصرار على ملاحقة المذنبين في حق الاسلام بشتى الوسائل السلمية المتاحة، وعدم التهاون في تجريم من يعادي الاسلام بجهل وكراهية، و يتطاول على رسوله العظيم ببغض و حقد، واللجوء إلى المحاكم الدولية لمحاسبته إذا اقتضى الأمر. نأتي الآن لنعرض للشق الثاني وهو موقفنا من ثقافة الآخر: في البدء، نحسب أن من الخير أن نقر بأن موقف أمتنا العربية الاسلامية من ثقافة الغير في عمومه موقف مرتبك، ووقع بين حدي الإفراط والتفريط، دون الوسطية التي يدعو لها ديننا، ولا البصيرة التي تستدعيها متطلبات التعامل مع ثقافات العالم. فأغلب الظن أن الناس انقسموا في مجتمعات الأمة تجاه الموقف من ثقافة الغير إلى فئات ثلاث: فئة قبلت الثقافة الكونية كما هي، وفئة رفضتها بلا نقاش، وفئة قبلت التعامل معها بانتقاء. * فالذين قبلوا التعامل مع ثقافة الغير بحرية ومن دون ضوابط يعتقدون بأن كل ما فيها مفيد ومقبول، ولا حرج في الأخذ به كما هو وعلى علاته. وهذا الموقف في نظر البعض أقرب ما يكون إلى الانبهار والتحيز، منه إلى العقلانية والتبصر. * والذين رفضوا ثقافة الغير من دون نقاش يعتقدون بأنها كلها شر مستطير وتأثيرها ضار، ويجب عدم التعامل معها أو التأثر بها، و هذا موقف يرى الآخرون أنه يؤدي إلى العزلة والتقوقع داخل شرنقة الذات، والانفصال عن العصر وما يدور فيه، الأمر الذي أصبح مستحيلاً في عصر العولمة وثورة الاتصالات وانفجار المعرفة. * والفئة الثالثة الحذرة في تعاملها مع ثقافة الغير، تعتقد أن على الأمة أن تملك العدة والعتاد الفاعلين، قبل أن تقدم على التعامل مع ثقافات العولمة بمساواة وندية، وهذا الرأي جدير بالتأمل. هذا واقع الحال... فماذا نحن فاعلون؟ سؤال يجب أن يستفزنا ويشلغنا لإعادة التقويم والبحث بشفافية وصدق عن أسباب التسيب في ذواتنا لإزالتها، وعن موقع الخلل في الخطط و البرامج والنظم التي تحكم حياتنا لتصحيح المعوج منها، وعلينا ألا نستهين بمن يقف خلف هذه الحملة الشرسة، وأن نقدر حجم المواجهة وما تتطلبه من عدة وعتاد على مستوى الفرد والجماعة، لنكون على مستوى التحدي. واعادة تقويم موقفنا من الواقع الثقافي الأممي يجب أن يتم في ظل حقائق علينا التعرف عليها والاعتراف بها، حتى نتواصل مع العالم من حولنا. ومن هذه الحقائق: - أولاً: ليس كل شيء من مكونات وعناصر ثقافات الغير سيء وشرير ويتصادم دائماً بالضرورة مع ثوابتنا. - ثانياً: لم تعد ثورة الاتصالات والمعلومات وتأثيراتها الهائلة في المجالات الثقافية والفكرية بخاصة، نظريات في بطون الكتب أو هرطقات يلوكها الذين فتنوا بها، بل أمست واقعاً معاشاً يدق على ابواب الأمم بشدة وعناد وعنف حتى تنفتح لها، وهذا ما ألمحنا إليه من قبل. - ثالثاً: لم يعد الانعزال داخل الحدود وعدم التعامل مع ثقافات الأمم الأخرى اختياراً متاحاً لأمتنا اليوم... ربما كان ذلك ممكناً في الماضي، يوم كانت الثقافة العربية الإسلامية متمكنة من الفرد ومؤثرة في المجتمع وقادرة على حمايته للدفاع عن ذاته والاعتزاز بشخصيته، ويوم كانت أمم الأرض متباعدة ومتناثرة وعصية على التواصل في ما بينها، أما اليوم فالأمر مختلف، ويحتاج إلى نظرات متعمقة في دواخلنا ودراسة متأنية لواقعنا، وجهود كبيرة ومضنية لتركيز القيم والمبادئ التي تحملها منظومتنا الثقافية في التفكير والسلوك، والنظر بواقعية وادراك لتأثير العولمة في تقارب الأمم. - رابعاً: جاء انفتاح مجتمعات الأمة على الدنيا ومسايرة العصر إما طوعاً واختياراً أو كرهاً وقسراً، ولكنه جاء على أي حال وعلينا التعامل معه بحكمة، والأخذ بالأسباب التي تجعل من البنيات التحتية والأنظمة الثقافية والتربوية والفكرية لمجتمعات الأمة قوية ومتفاعلة، حتى لا تكون مجتمعاتنا مسلوبة الإرادة، وعرضة للتأثر ونهباً لما يتسلل اليها من غث وغثاء عبر الفضائيات وغيرها من وسائل الاتصالات الحديثة، علينا - إذاً - أن نتمعن بعمق وشفافية في أنظمتنا الثقافية والتربوية والفكرية وغيرها، ونعترف بشجاعة وصدق: * بأن منظومة القيم والمبادئ والتقاليد الصالحة اعتراها بعض الوهن، وتحتاج إلى تقوية بهدف سمو الفعالية الروحية في الفرد، من خلال المنزل والمدرسة والمسجد والإعلام، للتكيف مع المحيط والعالم المعاصر بعقلانية ورشد، وفعالية واتزان. * وأن النظم التعليمية والتربوية ومحتويات المناهج في مسيس الحاجة إلى تطوير، لتنتج إنساناً سامياً بعقيدته، وقادراً على التعبير عن ذاته، ومعتزاً بشخصيته باعتدال وتوازن وانفتاح. * وأن منظومة الثقافة تحتاج إلى تفعيل وتنمية وتطوير، للخروج بها من الجمود والتخشب، أو الانبهار والانحياز، أو التوجس والريبة، إلى رحاب الانفتاح على العالمية ولترتكز على أسس جديدة تأخذ من ثقافات العالم المعاصر أصلح وأنقى وأجمل ما فيها من قيم وأفكار وفنون، تتفق مع ثوابت الأمة، وتنسجم مع قيمها، وتستعين بالقيم المشتركة وتعزيزها لخير الإنسانية جمعاء... عندها يصبح الموقف من ثقافة الآخر هو التفاعل بثقة وبندية واحترام متبادل. ونصدقكم القول بأن شيئاً من هذا لن يتحقق لمنظومة الثقافة ما لم يكن لها: 1- أولويات واضحة تحدد مسارها. 2- وخطط متفاعلة تترجم تطلعاتها. 3- وبرامج مفصلة تبلور فعالياتها. 4- وقوة اقتصادية متمكنة تدعمها. 5- ورؤية سياسية منفتحة تساندها. وربما لاحظتم أننا أثرنا قضية ارتباط نظم التعليم والتربية بالمنظومة الثقافية، لنضرب بذلك مثلاً ندلل به ونؤكد على أن تطوير خطابنا الثقافي و الحفاظ على هويتنا من دون انغلاق أو انزواء، يحتاج - أكثر ما يحتاج - إلى مواكبة ومساندة منظومات الحياة في المجتمع، التي تتطلب هي بدورها تطويراً مماثلاً، وبالذات في المجال التربوي والعلمي والمعرفي، و إلا فإن القدرة على قبول التحدي الثقافي القادم مع العولمة، والانفتاح على الدنيا وما تموج به من أفكار سيقل حتى لا نقول يتلاشى، فمنظومة واحدة من منظومات الحياة - أياً كان زخمها وامكاناتها - لا تستطيع بمفردها أن تقف أمام المواجهة بفعالية، وأن تقبل التحدي باقتدار، في ظل ثورتي المعرفة والاتصالات. وأخيراً وباختصار نقول إن التمسك بالخصوصية الثقافية، والانفتاح على ثقافات الدنيا لن يتحقق إلا بأمور ثلاثة: الأول: تطوير منظومات الحياة في المجتمع بعامة ومنظومة الثقافة بخاصة. الثاني: تعزيز الثقة في الهوية الثقافية والاعتزاز بالقيم الذاتية. الثالث: تقوية التفاعل مع القيم المشتركة في الثقافات الأخرى. * مفكر سعودي وزير الحج السابق. والمقال يستند الى بحث قدّم الى ندوة ثقافية بعنوان"الهوية الثقافية بين الخصوصية والتبعية"في اطار معرض الرياض الدولي للكتاب غرة صفر 1427ه، 1 آذار مارس 2006