يمتد مفهوم "العولمة" بمدلوله المطلق تاريخياً الى القرن الميلادي الخامس عشر وما تلاه، وارتبط بعصر النهضة في أوروبا ثم بالثورة الصناعية وما أدت إليه من نشأة الطبقة البورجوازية وتطور النظام الرأسمالي ثم حركتي الاكتشافات والاستعمار للعالمين القديم والجديد، على حد سواء، بهدف توفير الاسواق ومصادر المواد الخام وتأمين طرق التجارة وضمان استمرار عملية التراكم اللازمة لاتساع النظام الرأسمالي. فما الذي يميز "العولمة" بشكلها الراهن الذي نعيشه في مطلع القرن الحادي والعشرين؟ تميزها ثلاثة أمور: أولاً: على الصعيد الايديولوجي والسياسي، أدى انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي السابق والمنظومة الاشتراكية في شرق أوروبا ووسطها، وعدم وجود منافسة تتسم بالندية، والضعف النسبي لمجمل العالم العربي والإسلامي الى هيمنة نموذج عقائدي وسياسي واحد يسعى إلى فرض معاييره ونظامه القيمي على العالم بأسره، ونعني هنا النموذج الغربي في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية، وأيضاً - مع بعض التحفظات - في اليابان، علماً أن مثقفين أوروبيين ويابانيين يشكّون بقوة في أن النموذج السائد ليس هو النموذج الغربي بل الأميركي. ثانياً: أن شمول نطاق جولة أوروغواي للمفاوضات التجارية المتعددة الأطراف 1986 -1993 عدداً كبيراً من المواضيع التي كانت تاريخياً تقع خارج حدود المسائل التجارية بمعناها المعروف، مثل الاستثمار والملكية الفكرية والخدمات وتوصلها إلى اتفاقات دولية تغطي هذه المجالات وإنشاء المنظمة العالمية للتجارة بما تشمله من نظام لتسوية المنازعات والسماح بفرض إجراءات عقابية عبر قطاعية من جانب أطراف ضد أطراف أخرى أخلّ بالتزامات تعاقدية في إطار أي من الاتفاقات التي أسفرت عنها تلك الجولة. إن أهمية هذا التطور تكمن في أنه تحقق في ظل سيطرة الغرب سياسياً واقتصادياً، وجاء كإطار تشريعي ليستكمل في واقع الأمر ما لم تستطع تحقيقه قرون الاستعمار المباشر وعقود التبادل غير المتكافئ، وتحاول انهاء مظاهر سيادة الدولة في ما يخص النشاط الاقتصادي والتجاري أو سعيها الى تحقيق الاستقلال الاقتصادي أو الاعتماد على الذات. وتسعى الدول الغربية الى جولة جديدة من المفاوضات "التجارية" للتوصل لاتفاقات في مجالات غير مسبوق شمولها مثل البيئة والتجارة الالكترونية وما يسمى بالمعايير الاجتماعية، ربما تمهيداً لجولة مقبلة تدمج مفاهيم الديموقراطية وحقوق الانسان و"الحكم الرشيد" ومكافحة الفساد ضمن مشروطيات التجارية الدولية. ثالثاً: على الأصعدة العلمية والاعلامية والثقافية، حدثت ثورة غير مسبوقة سواء من ناحية الكم أو الكيف في مجالي المعلومات والاتصالات وكان - ولا يزال - مصدر هذه الثورة هو الغرب، بينما العالم العربي والإسلامي لا يزال في الأساس يلعب دور المتلقي والمستهلك. ومن جهة أخرى وعبر تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، تأكد بإستمرار وجود هوية ثقافية متميزة للأمة العربية - الإسلامية على رغم فترات جزر عدة واحياناً ممتدة شهدتها مسيرة الخمسة عشر قرناً الماضية. وقد اتسمت هذه الهوية - الى جانب تمايزها - بالانفتاح والتفاعل الايجابي ليس فقط مع هويات ثقافية مواكبة لها زمنياً ووجدت في مناطق أخرى من العالم، بل أيضاً مع هويات ثقافية سابقة عليها وأخرى فرعية موجودة داخل الحدود الواسعة لتلك الهوية الثقافية العربية والإسلامية. فقد نجحت هذه الهوية بمرونتها ونزعتها التسامحية في استيعاب اسهامات ليهود ومسيحيين بل لملحدين عاشوا في دار الإسلام واسهموا في تطوير الثقافة الإسلامية في شكل ايجابي بالقدر نفسه الذي نجحوا فيه في إدماج منتجات ثقافات أخرى رأت أنها لا تتعارض مع جوهر الهوية الثقافية العربية والإسلامية، سواء كانت تلك الثقافات سابقة عليها أو مواكبة لها. ولا شك في أن أحد أسباب تلك المرونة هو التوسع في رسم حدود تلك الهوية الثقافية للعالم العربي والإسلامي بما جعلها ساحة رحبة تبرز تقدم الأمة العربية الإسلامية وثراءها الفكري والثقافي وتنوع هذا الثراء ما بين صوفية وفلسفة وفقه وفنون وآداب وغير ذلك من ألوان الثقافة المختلفة. وتباينت الرؤى إزاء تأثيرات العولمة في مرحلتها الأخيرة الراهنة على الهوية الثقافية للعالم العربي والإسلامي، وتنوعت الاستجابات الفكرية لهذا التحدي ما بين دعوات للمقاومة والرفض واتجاهات لممارسة النقد الذاتي لإصلاح الحال الداخلية المكونة للهوية الثقافية للعالم العربي والإسلامي حتى تكون قابلة لانجاز مهمة التلاقي للمواجهة مع طوفان العولمة، ونصائح بتبين الغث من الثمين ضمن ما تلقي به أمواج العولمة على ضفاف عالمنا العربي والإسلامي من أفكار وقيم ومنتجات قد يصلح بعضها لإنعاش مكونات هويتنا الثقافية، وأخيراً دعوات الى تبني مجمل الثقافة التي تحملها ظاهرة العولمة في طورها الراهن باعتبارها الوحيدة القادرة على قيادتنا الى تحقيق درجة التقدم الاقتصادي والتقني نفسها التي حققها الغرب. ولا تخرج مختلف هذه الرؤى عن مجمل الاستجابات التي سجلها مفكرو العالم الإسلامي ومثقفوه إزاء الثقافة الغربية منذ التلاقي الأول بين الطرفين على هامش الحملة الفرنسية على مصر العام 1798 وفي المئة عام التالية لذلك، وإن اختلفت بالطبع التفاصيل وتزايدت تعقيداً مما رتب تشابكاً وتداخلاً مماثلاً على صعيد الاستجابات الصادرة عن ابناء الثقافة المحلية. واذا انتقلنا من المجمل الى المفصل، نجد أن هناك عدداً من التأثيرات للعولمة بشكلها الحالي على الهوية الثقافية للعالم العربي والإسلامي نود أن نشير إليها، ليس على سبيل الحصر بل لمجرد اعطاء أمثلة متنوعة لهذه التأثيرات واستمالة التفكير المنهجي المتأني في كيفية التعاطي معها. وأرى أن التأثير الأول يتمثل في أنه اذا كانت ثورة المعلومات من الناحية النظرية قادرة على أن تسهم في التوحيد بين البشر عبر زيادة تعرفهم على ما يدور في مختلف أقاليم العالم وعلى ثقافات وإسهامات مختلف الشعوب والأمم، وعلى ما هو قاسم مشترك ضمن ثقافات العالم من قيم وأخلاق ومناهج تفكير وحياة، فإنها تثير على أرض الواقع بعض القضايا التي يطغى عليها الطابع السلبي، وبخاصة أن التجربة التاريخة علمتنا أن الحضارة الغربية في مراحل تقدمها المختلفة وظفت المعلومات لقهر الإنسان والحد من حرياته بقدر ما وظفتها في مجالات أخرى لتحقيق رفاه الانسان وحريته. فثورة المعلومات - مثلها مثل أي ظاهرة تتصل بالإنسان - ليست حدثاً محايداً أو خالياً من القيم النابعة من الثقافة التي أنجبته - وهي في هذه الحالة الثقافة الغربية - ويصدق الأمر نفسه على نوع المعلومات التي يتم نقلها وكيفية انتقاء هذه المعلومات وما يحكم هذه العملية من معايير، ثم كيفية توظيف هذه المعلومات. وعبر كل هذه المراحل، فإن هناك عناصر من تلك المعلومات المنقولة - مثلها مثل الثقافة التي تنتمي اليها - متعارضة تماماً مع الثقافة العربية الإسلامية وتقاليدها وقيمها واخلاقها ومثلها العليا بل وقد تدفع - في شكل مباشر أو غير مباشر - الى إثارة الشكوك حول صدقية الهوية الثقافية العربية الإسلامية وجدوى التمسك بها في ظل متطلبات التقدم في الزمن الحاضر وفي المستقبل. وقد تؤدي ايضاً الى ثقة مبالغ فيها في القيم التي تحملها الثقافة الغربية ومدى إشباعها لحاجات الإنسان المختلفة وإيمانها بحتمية انتصارها وتفوقها. وأخيراً قد يؤدي تشجيع النزعة الاستهلاكية على الصعيد المادي والحض على ازدراء قيم الثقافات المغايرة للثقافة الغربية بديلاً من التعايش والتفاعل معها والتسامح ازاءها. والتأثير الثاني للعولمة في سياقها الراهن على الهوية الثقافية للعالم العربي والإسلامي يكمن في سعي دوائر في الغرب - خصوصاً عقب انتهاء الحرب الباردة - لفرض نماذج ومعايير بعينها باعتبارها صالحة - بل هي الوحيدة الصالحة - على المستوى الدولي. ولكننا على وعي بهذا المسعى على الصعيدين السياسي والاقتصادي، إلا أن له أبعاداً ثقافية لا تقل خطورة. وقد يقول قائل إن هذا المسعى يشمل اقاليم العالم كافة، فلماذا اذاً الاقتصار على الاحساس بالخطر من جانب العالم العربي والإسلامي دون غيره من شعوب أمم العالم غير الغربي؟ ومربط الخصوصية بالنسبة للعالم العربي والإسلامي - بحسب رأينا - يكمن في أن الحضارة العربية الإسلامية لم تكن مجرد شعائر او طقوس مراسمية بل حملت قيماً متقدمة بكثير على حال العالم منذ يوم نزول الرسالة وبما غطى مختلف مناحي الحياة للفرد والمجتمع بما في ذلك من معاملات وفكر وثقافة. وبالعودة إلى مسألة فرض النموذج والمعايير، نرى أن الأمر وإن كان يتعلق بنماذج ومعايير خاصة بالنظم السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية للدول فإن الأساس يكمن في الهوية الثقافية. فقد أدركت الدوائر ذات توجهات الهيمنة في الغرب منذ فترة أن محاولة فرض نموذج أو تشريع اقتصادي أو اجتماعي في شكل مباشر على الشعوب الشرقية عموماً - والشعوب العربية والإسلامية خصوصاً - هي محاولة محكوم عليها بالفشل، لأن الثقافة السائدة تشكل قلاعاً صلبة الجذور لمقاومة هذه النماذج. وبالتالي انتقلت هذه الدوائر الى نشر الثقافة التي نبعت منها تلك النماذج بحيث تكتسب هذه الثقافة بنظامها القيمي وتقاليدها أرضية واسعة في صفوف شعوب اسيا وأفريقيا - خصوصاً الشباب - بما يسمح في مرحلة تالية بضمان وجود قاعدة قوية تساند - بل وتطالب - تطبيق النماذج والمعايير الغربية - التي هي في الأساس سليلة للإطار التاريخي - الاجتماعي لتطور الثقافة والحضارة الغربيتين - في بلدانها، بما في ذلك بلدان العالم العربي والإسلامي. ولا يعني ما سبق القول إن كل ما في الغرب شر وكل ما في الشرق خير. وعن تلك الأطراف تولدت لديها قناعة بأنه ما دام الغرب هو الأكثر تقدماً على الجبهتين العملية والتكنولوجية، فإن هذا يعني بالضرورة تفوق الثقافة الغربية بما يستدعي التعامل معها باعتبارها "الثقافة العالمية" وليست مجرد ثقافة واحدة ضمن ثقافات متعددة تكون مستعدة للانتقال من مرحلة محاولة فرض هيمنة نماذج بعينها الى مرحلة تعددية ثقافية قائمة على الأخوة الانسانية والعدالة والمساواة بما لا ينفي وجود قيم ثقافية إنسانية مشتركة ولكن يضعها في إطارها المستند الى الحوار والاحترام المتبادل وفهم الآخر. والتأثير الثالث للعولمة على الهوية الثقافية للعالم العربي والإسلامي يتصل بتوظيف منتجات ثورة المعلومات والاتصالات لربط المهاجرين العرب والمسلمين المقيمين في بلدان غير عربية أو إسلامية بثقافاتهم الاصلية، والذين عانوا تاريخياً من الانقطاع الثقافي عن هويتهم الأم، وزادت هذه المعاناة بسبب الآثار السلبية على إدراك الجيل الثاني من هؤلاء وما يتلوه من اجيال - بانتمائهم الحضاري والثقافي. وجاءت الطفرة في نقل المعلومات وفي تكنولوجيا الاتصالات لتسمح بنقل الثقافات المحلية للخارج عبر شبكات المعلومات والقنوات الفضائية وتوفر ساحة للتفاعل الثقافي بين عرب ومسلمي الداخل والخارج مما يساعد على مراجعة بعض الأفكار التقليدية بهدف إعادة النظر في صحتها وجدواها من دون الرجوع عن الحدود العامة للهوية الثقافية للأمة بمرونتها التي تستوعب هويات فرعية عدة على أسس لغوية أو غير ذلك. وعبر هذا التوظيف الجيد لثورة المعلومات والاتصالات - هو ما لم يتحقق في الشكل المرجو حتى الآن - يمكن ضمان ان يكون المسلمون في الخارج جزءاً من بناء ثقافي واحد يحركه لغة مشتركة وماض مشترك من دون تجاهل وجود تعددية محمودة داخل إطار هذا البناء. لا يرقى ما سبق الى كونه تحليلاً شاملاً لكل أبعاد تأثير العولمة على الهوية الثقافية للعالم العربي والإسلامي. فالأمر يستلزم القيام بجهد جماعي منظم لرصد ذلك التأثير والعمل على صوغ الاقتراحات والأفكار التي تضمن التقليل قدر المستطاع من انعكاساته السلبية - الكثيرة والمتنوعة - وتعظيم الاستفادة مما يوفره من فرص. * كاتب مصري.