تجري حالياً حياكة قانون للانتخابات النيابية اللبنانية تقريباً في الظل، بالصدفة ربما، لطغيان أخبار وتطورات الحوار الوطني العتيد، أو عن سابق إصرار وتصميم. ما أدرانا! فالكواليس تسهل الوصفات السرية، كان يتوجب استقالة عضوين من أعضاء اللجنة بارود وثابت وعودتهما في 23، منه لنعرف أن اجتماعاتها لا تزال مستمرة، علماً أن صياغة قانون جديد للانتخابات يوازي باقي الاستحقاقات أهمية، ولو انتمى شكلياً لحق آخر، بقدر ما يعني فعل الانتخاب تشكيل هوية السلطة السياسية، اتجاهاتها وخياراتها كما مقدار تداولها وتوزيعها وتجديدها، وبقدر ما يعني أصلاً الاقتراع الشعبي العميم لانتخاب مجلس نيابي، أي سلطة تشريعية ورقابية، مشاركة هذا الشعب في الحكم، تخيلوا مشاركة الشعب بحكم نفسه! الأمر الذي لا يزال يعتبر مدماك الديموقراطية الأساسي، على رغم ما نبت على هامش هذا الحق الديموقراطي الذي انتزع منذ قرون قليلة من تاريخ البشرية الطويل، من طرائف تعبير ومشاركات سياسية مباشرة، من دون تمثيل، كالأنشطة النقابية والرابطية والإعلامية والبحثية، وأنشطة اللوبيات ومجموعات الضغط، أنشطة تشكل بمجموعها وسائل وآليات مراقبة وتحفيز وإيحاء وكشف. ولكن هذه التشكيلات السياسية الديموقراطية، تتأثر هي أيضاً بهوية السلطة الحاكمة بليبراليتها أو تعسفها، بديموقراطيتها أو ديكتاتوريتها. لنعد الى موضوعنا المباشر، ما يرشح من مداولات اللجنة المفوضة إعداد القانون، والتي لا نعرف مراعاة حسن التمثيل، حسن تمثيل المجموعات السياسية الطائفية عموماً، لأن أحزاب الطوائف هي التي تدير الانتخابات، ولمراعاتها أصول حسن التمثيل، تمعن بتمحيص مختلف التقسيمات الادارية الممكنة، دائرة صغرى، أو وسطى أو كبرى محافظة مع تمثيل نسبي، طبقاً لمفاهيم عزيزة على القاموس السياسي اللبناني، من طينة"العيش المشترك"و"العدالة بين الطوائف"و"الوفاق الوطني"ولكن هذا المبدأ الذي يبدو ايجابياً لا يعبر بالضرورة عن مصالح الفئات نفسها الحاملة لهذه الحساسيات، فهو لا يكفل لهم حقوقهم الانتخابية الكاملة، وما يفترض أن ينتج عنها من حقوق سياسية واقتصادية واجتماعية ومعرفية من جهة. ولا يؤمن من جهة أخرى فعالية ووظيفية fontionnement عمل المجلس النيابي الناتج عنها وذلك للأسباب الآتية: - أولاً: ان النظام الانتخابي الذي يوزع المرشحين على جغرافيات الطوائف ويحصر الناخبين بالتشكيلات السياسية الخاصة بطوائفهم ليختاروا بينها، ولا تحصى أصواتهم إلا على هذا الأساس، يمنح هذا المواطن فرصة الإدلاء بربع أو نصف ربع أو أقل، صوت، فإذا كان عدد الدوائر مثلاً عشر، فإن قيمة صوته تتحول الى واحد من عشرة 10/1، لاسيما أن مرشحي الدائرة الواحدة لا ينتمون بالضرورة الى أحزاب وطنية، وأن عدد الأحزاب قد يوازي عدد الدوائر كبرت أو صغرت بمعنى آخر يجيز هذا القانون التوزيعي للناخب اختيار مجموعة من المرشحين، يضؤل عددهم أو يزداد وفق الحجم الديموغرافي للدائرة ليس ناخباً كاملاً. - ثانياً: وهذا النظام الانتخابي الذي يشرذم القوى الانتخابية يمنع تضامنها اللازم لتوحيد أهدافها السياسية والعمل على تحقيقها، فلا تتمكن هذه القوى بالتالي من تطوير علاقة سياسية بينها، فيجري فرض السياسات الفوقية عليهم بسهولة، وينعكس الأمر على باقي حراكهم السياسي المدني، النقابي المهني أو الجمعياتي عموماً، ويفترض هذا التقسيم ضمناً أن لكل طائفة حاجات سياسية استراتيجية واقتصادية واجتماعية وثقافية مختلفة جوهرياً عن غيرها وهذا الأمر غير علمي، وان حملت الطوائف سمات ثقافية وسياسية، ناشئة عن عوامل تاريخية، إلا أن هذه السمات لا تحدد مجموع حاجاتها، ولا تفصلها كلياً عن مواطنيها، ولا يحتم عليها اختيار نواب متخصصين ومختصين بها. - ثالثاً: يحول التقسيم السياسي الجغرافي دون تشكيل مجموعات سياسية برلمانية عابرة للطوائف تلتقي على قضايا مركزية وسياسيات عامة جامعة تنظم وتيرة عملها، وتمثل بفعل شمولية برنامجها السياسي، طوائف متعددة، بدل اكثريات ظرفية متحولة متذبذبة مفككة، غير متجذرة بمجموعها في العقل والوجدان الشعبيين لحركة 14 آذار، وغير قادرة بالتالي على صوغ مشروع سياسي عام وتنفيذه وهذا ما يشهد عليه تاريخ البرلمان اللبناني حتى هذه اللحظة. - رابعاً: قضت الأنماط الايديولوجية المهيمنة التي تصنف الناس عامودياً الى جماعات متمايزة جوهرياً في روحانياتها تستثني وتهمش الآليات الاقتصادية والاجتماعية المحددة لأوضاع الناس الاجتماعية المتشابهة في كل الطوائف، قضت وتقضي بتقسيم القوى الناخبة عامودياً، تؤجل الى ما لا نهاية الفهم الشعبي المتشابه للأوضاع أي الى الفهم المتشابه للعيش الذي يتجاوز العلاقات الطائفية، التي عملت تاريخياً الطبقة الحاكمة على تكريسها، وبناء عليه يعتبر أي تقارب بين الناخبين بمثابة تفويض لنظام النخبة السياسية والطائفية الحاكمة. كما من شأن هذه الثقافة المتذرعة بالعيش المشترك، التي تجوهر الفروقات الروحانية بين المجموعات مرتكزة على إيقاعاتها النفسية والروحانية إزالة التناقض الاجتماعي من المستوى الاقتصادي الاجتماعي السياسي وازاحته الى المستوى الثقافي الديني السياسي. وكأن الطوائف لا تعرف اختلافات سياسية داخلها، وتضمر هذه الثقافة مفهوماً خاصاً للعيش المشترك يقصره على توافق سياسي من فوق بدل أنسنته وجعله تشاركاً على كل مستويات الحياة بما فيها الأهداف السياسية، فتختص كل طائفة بخيارات سياسية وكأنها مفطورة عليها بحكم انتمائها الروحي. ليقل لنا معدو مسودة قانون الانتخابات لماذا يستبعدون الى ما لا نهاية فكرة الدائرة الانتخابية الواحدة وإرفاقها بقانون عصري للأحزاب يلزمها بأن تكون عابرة للطوائف، لاسيما أن ميثاق الطائف ينص هو ايضاً على الغاء الطائفية السياسية، فيكون نظام التقسيمات الادارية المنفصلة سياسياً لمرة واحدة الانتخابات المقبلة على أساس الدوائر الصغرى تفادياً للمحادل واعترافاً بمجموع الحساسيات الى ان يجهز هذا المجتمع ويتثقف لصالح المشاريع السياسية الأفقية المشتركة ولصالح دائرة انتخابية واحدة. * كاتبة لبنانية.