يعاني نظام التمثيل في لبنان من تشويه تكويني كبير. فيجرى توزيع المقاعد في المجلس النيابي على أساس الانتماء الطائفي، كما توزع المقاعد الوزارية على هذا الأساس، وتجرى الانتخابات على الأساس "الطائفي" ذاته. فهل تنطبق هذه التسمية على الواقع؟ وهل يمثل من يفوز بهذا المقعد النيابي أو ذاك طائفته أم يمثل من انتخبه؟ هذا التشويه الكبير هو أصل التشويه لمعنى الديموقراطية في لبنان سواء جرت الانتخابات على صعيد الدائرة الصغرى في القضاء أو الدائرة الكبرى في المحافظة أو اذا أقرت صيغة وسطى جديدة. ان التشويه التكويني لنظام التمثيل في لبنان يعود الى زمن نشوء الدولة. وبعد اندلاع الحروب ابتداء من عام 1969 بين القوى السياسية المختلفة وأحياناً بين القوى المتحالفة، أطلق البعض على هذه الحروب صفة "الحروب الطائفية" في حين أنها جرت بين هذه القوى نفسها، ولم تكن بين الطوائف أبداً على رغم بعض الحوادث ذات الطابع الطائفي. ولم تكن الأكثرية في أي طائفة مشاركة في هذه الحروب، على رغم خضوع الأكثرية في كل الطوائف لأجواء الحروب. وفي الأخير توصلت القوى السياسية المتصارعة في تلك الحروب والمتمثلة آنذاك بالمجلس النيابي الى "اتفاق الطائف" الذي وضع حداً للحروب بين هذه القوى. لكن، لم تستطع هذه القوى معالجة التشويه التكويني لنظام التمثيل اللبناني، بل ساهمت في تثبيته في الواقع بإضفاء بعض لمسات التجميل إرضاء لهذه القوة أو تلك، وظلت عبارات الإصلاح السياسي خجولة وغامضة وظل التشويه قائماً، واستمر الغطاء "الطائفي" يستر الجوهر السياسي في الصراع. اذا كانت القوى السياسية المتصارعة أحياناً والمتحالفة في بعض الأحيان هي التي أقرت نظام التمثيل "الطائفي" في لبنان قبل الحروب الأخيرة، واذا كانت هذه القوى هي التي أبقت على النظام بعد الحروب الأخيرة، فهل يجوز استمرار اعتبار ان الطوائف هي التي تريد استمرار النظام "الطائفي"؟! في حين انه لا يصح هذا القول الا اذا شارك جميع أبناء الطوائف في ابداء آرائهم حول هذه المسألة عبر استفتاء يشارك فيه جميع أبناء الطوائف، وبعد اتاحة الحرية الكاملة في التعبير عن الرأي لجميع الطوائف. أما استمرار الأساس "الطائفي" بناء على رأي القوى السياسية واعتبار رأيها هو رأي الطوائف فإنه التحريف الكبير لجوهر الصراع في لبنان. الأساس الحزبي؟ حين تطالب بعض القوى السياسية بالعودة الى دائرة القضاء لإجراء الانتخابات النيابية، فإنها لا تستطيع الادعاء أنها تمثل كل ابناء طوائفها وهي في الحقيقة ليست مفوضة منهم للتقرير في هذا الشأن أو ذلك، بل هي تتحدث باسم الطوائف من دون تكليف. ومعنى هذا أن هذا المطلب انما هو صادر عن قوى سياسية معينة وليس عن طائفة معينة. إن اجراء الانتخابات النيابية على أساس الدائرة الصغيرة أو الكبيرة هو في حقيقته تنافس بين قوى سياسية في الطائفة وفي المجتمع، لكنه يخرج الى الناس باسم الطوائف، كما تظل قوى أخرى خارج ساحة ابداء الرأي، ويشكل ذلك انحرافاً عن الأسلوب الديموقراطي الذي يعني مشاركة الجميع في الحوار أو المناقشة قبل الوصول الى قرار الأكثرية. وفي نظام الدائرة الكبيرة في المحافظة ظلت العيوب موجودة بل تفاقمت أكثر من السابق، ولم يتوافر التمثيل السياسي الصحيح، بل استمر ظهور التحالفات الانتخابية الآنية بين اتجاهات سياسية متباعدة سرعان ما تنفرط فور انتهاء الانتخابات. الدائرة الوطنية لما كان المضمون الحقيقي للانتخابات وللصراع في المجتمع هو بين القوى السياسية على رغم الغطاء الطائفي، يكون من الضروري الأخذ بالصيغة الأرقى في التنافس الاجتماعي التي هي صيغة التنافس على الأساس الحزبي، فيكون اجراء الانتخابات النيابية على صعيد الدائرة الوطنية الواحدة. فالحزب هو الشكل الأحدث والأرقى في تكون الجماعات السياسية، وهو الشكل الأرقى للخلاص من سلبيات الجماعات السابقة من عشائرية وطائفية وعائلية. وتكون هذه السلبيات في حدها الأدنى على رغم كون التجربة الحزبية لم تظهر بعد على مستوى متقدم من التطور. فكلما ترسخت الأساليب الديموقراطية داخل الأحزاب كلما انتفت هذه السلبيات لتنحصر في أشكال التنافس الديموقراطي والانتخابي لجمع أكثرية معينة حول هذه القضية أو تلك في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وقبول الأقلية هذا الرأي من دون ان تحرم حقها في طرح رأيها. ان الجماعات "الطائفية" لا يمكن ان تشمل الطائفة كلها، ويؤكد الواقع ان الاتجاهات المتعددة موجودة في كل طائفة، واستناداً الى ذلك يمكن القول إن الطوائف الموحدة لم تعد قائمة فهي موزعة في الواقع بين اتجاهات سياسية عدة يستحيل جمع تياراتها في اتجاه سياسي واحد. على هذا الأساس ان الحصص السياسية ليست حصصاً للطوائف بل للاتجاهات النافذة التي تتوزع الحصص المحسوبة على الطوائف، ويبرز ذلك لدى الطوائف وليس لدى واحدة بعينها. لذلك فإن اقرار حرية تشكيل الأحزاب وإزالة أي قيود تعيق ذلك انما يشكل الخطوة الكبيرة للاصلاح الحقيقي وللانسجام مع الواقع السياسي والاجتماعي القائم. ويمكن اخضاع تشكيل الأحزاب الى شرطين: 1- الالتزام بالقوانين المرعية الإجراء والعمل على تغيير هذه القوانين حيث يلزم عبر المؤسسات الدستورية وبالأساليب الديموقراطية. 2- التزام أي حزب سواء حمل اسماً دينياً أو غير ديني بعدم التعرض لأي حزب آخر بسبب معتقداته الدينية أو الطائفية أو الصراع معه بسبب هذه المعتقدات واعتبار الصراع السياسي أمراً مشروعاً سواء كانت المفاهيم السياسية تستند الى رؤية دينية أو غير دينية. فالتنافس مشروع ضمن اطار الحرية والديموقراطية. الحزب ومرشحه ان حرية تشكيل الأحزاب السياسية هي خطوة ضرورية لمسار الاصلاح السياسي ومعالجة التشويه التكويني في التمثيل النيابي في لبنان. وهي خطوة أولى لتصحيح المسار الديموقراطي داخل الأحزاب وفي الحياة السياسية اللبنانية في آن. فيجب ان يمنح كل حزب عبر الانتخاب داخل الحزب حق تسمية مرشحيه في كل قضاء، قبل الانتخابات العامة، وبعد تقسيم لبنان الى أقضية أو دوائر ادارية متعادلة في عدد الناخبين وبغض النظر عن أي حسابات اخرى. ويمكن ان ينص القانون على حد أدنى وأعلى من أصوات الناخبين للفوز بأحد المقاعد في المجلس النيابي. كما يجب ان ينص القانون على تسلسل الفوز لمرشحي الحزب بحسب عدد النواب الذي يفوز به الحزب وبحسب عدد الأصوات الذي يناله الحزب في كل قضاء أو دائرة. على هذا الأساس، تنتفى كل أشكال الصراع الجارية الآن على حجم الدائرة، ويمكن ان يحدد عدد المقاعد في المجلس النيابي بشكل أكثر تناسباً مع عدد الناخبين. وتُظهر الانتخابات على الأساس الحزبي القدرات الانتخابية لكل حزب سياسي، وتنتفى فرص التحالفات الموقتة للقوى المتنافسة والمتصارعة. ويصبح التمثيل في لبنان مطابقاً لواقع القوى السياسية فيه، ويُسحب الغطاء "الطائفي" لهذا الحزب أو ذاك، وتتم معالجة التشويه الخلقي لنظام التمثيل في لبنان. وبعد الانتخابات يمكن أن تتشكل الجبهات والتحالفات بين الأحزاب بحسب برامجها السياسية وبحسب موالاتها للحكومات أو معارضتها. * صحافي لبناني.