قد يكون جان غروجان آخر الشعراء الصوفيين الكبار في فرنسا وأوروبا. هذا الشاعر الفرنسي الذي غاب في باريس قبل ايام عن 94 سنة اختبر الصوفية في معناها التوحيدي وپ"الابراهيمي"لا سيما بعدما عمل على ترجمة معاني القرآن الكريم وكتب الانبياء في التوراة وبعض الاناجيل والنصوص المسيحية. وصوفيته تختلف عن سائر الصوفيات الغربية والاسلامية لأنها نابعة من صلب الأديان التوحيدية الثلاثة التي جمع الشاعر بينها جمعاً روحياً ورؤيوياً في الحين عينه. وقد التحمت اللغات الفرنسية والعربية والعبرية واليونانية واللاتينية في صنيعه الشعري لينجم عنها ما يسميه الناقد بيار أوستر"لاهوت اللغة"في أعماله الشعرية. ولم تكن الترجمة الدينية التي صرف لها الكثير من جهوده إلا"تمريناً"شعرياً. وإن بدت اناشيده، خصوصاً في ديوانه "المجد" قريبة من الأناشيد التوراتية فإن أثر التوراة في شعره كان روحياً أكثر مما كان شكلياً. وهذا الأثر تؤكده القصائد التي توزعت دواوينه الاولى مثل"أرض الزمن"1946 و"ابن البشر"1953 وپ"رؤيا"1962 وپ"شتاء"1964 وپ"مراثٍ"1967 وكذلك ديوانه الاخير"ضوء الأيام"1991. والديوان الاخير يختلف بقصائده عن سائر الدواوين ويتجلى فيه الحوار القائم بين الشعر والموضوعات الطبيعية والدينية كالفجر والنور والبارئ وپ"الابن"والدين... وهذا الحوار"الانطولوجي"يطرح سؤال الهوية متحولاً حواراً بين"الأنا"وپ"الأنت"المخاطب، بين"الأنا"والعالم. وهنا في صميم هذه العلاقة المزدوجة يتمثل الشاعر صورة آدم ويونان وأيوب وسليمان... ويتأمل في زمن الوجود، في العالم"النباتي"، اللازمني حيناً والمعاصر حيناً آخر. إلا أن هذا التأمل لا يلغي احوال السأم والشك والقلق. فالكلمة الشعرية تنتقل دوماً لدى غروجان من المرحلة"العدنية"الى مرحلة السقوط ثم الى مرحلة تكتشف فيها نفسها من خلال"تنقية"العالم. انه العبور من"الكاوس"او السديم الى الضوء. الحاضر السلبي وغياب ظل البارئ يسببان احوال العزلة والسأم ويدفعان الى مواجهة الزمن. وهنا تتجلى الذات"الملغزة"والممزقة بين حنينها الارضي ورغبتها في الاتصال بپ"الواحد". أما الشعر فينطلق مما يسميه الشاعر نفسه"الخواء الاصلي"الذي يوازي لديه ما يسمى عادة"الخطيئة الاصلية". يصعب اختصار جان غروجان في صورة الشاعر وحدها حتى وان كان الشعر شغله الأول وهمه الرئيس او طريقته في"الحضور"وليس الوجود فقط كما عبر الكاتب الفرنسي فيليب دولافو في كلامه عنه. فالناثر فيه لا ينفصل عن الشاعر ولا عن الكائن الديني المأخوذ بل المسحور بالموروث المقدس والأديان الثلاثة والنبوءات والرؤى ولكن المنغرز في الحين عينه في تربة الحياة وأرض العالم والفصول. ونصوصه السردية تفيض شعراً واشراقاً تماماً مثل قصائده ومراثيه او أناشيده الخاصة جداً. وكم اصاب الكاتب الفرنسي لوكليزيو حين وصفه بپ"الوحداني"وپ"العابر"بل"عبار العصر"الذي"يجتازه بهدوء، من غير ان يحدث ضجة ولكن بخطوات كبيرة ومشية راسخة وواثقة". وتحدث لوكليزيو ايضاً عن السترة السوداء التي لا يتخلى عنها غروجان ملمحاً الى مظهره الكهنوتي. دخل الشاعر سلك الكهنوت طوال سنوات ودرس اللاهوت وعاش حياة شبه رهبانية. لكنه شعر في قرارته ان رسالته اعمق وأبعد من ان يحصرها في مسلك او مدرسة، فتزوج ولكن من غير ان يتخلى عن رسالته. وكان ان سمع نداء الشرق، نداء الارض القديمة والمقدسة فلبى النداء وجاء الى الشرق متنقلاً بين لبنان وسورية وفلسطين والعراق ومصر. كان ذلك في الثلاثينات أي قبل ان ينصرف الى الكتابة والترجمة كلياً. واذا سألته:"لماذا الشرق؟"يجيب بوضوح:"لأنه أشد اصالة وحقيقته هي الحقيقة الكبرى". ويقول غروجان:"ذهبت الى الشرق لأرى". وبلغ ولعه بالشرق الديني مبلغاً كبيراً حتى انه بات يحيا وحدة الاديان الثلاثة. وقال مرة:"لو كان لدينا القرآن لما كتبت حرفاً". وعندما عاد من الشرق انكب على ترجمة معاني القرآن وقد شجعه على المضي في الترجمة لويس ماسينيون"الابراهيمي"النزعة. ولئن احتل المسيح جوهر تجربته وكان في قلب اعماله وپ"النار المركزية"فيها كما يعبر لوكليزيو فإن مسيحيته اختلفت عن مسيحية الشعراء الفرنسيين الكاثوليك من امثال بول كلوديل وبيار امانويل وسواهما وقد مال بوضوح الى المسيحية الشرقية، الى المسيحية"المهرطقة"بحسب الكنيسة الكاثوليكية والمتمثلة في النسطورية. ودافع غروجان عن"المهرطقين"الذي حاربتهم الكنيسة قديماً معترفاً بفرادة فكرهم المسيحي. ليس جان غروجان شاعراً صوفياً عادياً، حتى وان عاش حياة شبه نسكية. وقد يكون شاعراً صوفياً في المعنى الرحب للانتماء الديني. ومعجمه الشعري يبتعد عن المعجم الصوفي الصرف وعن التعابير العرفانية"الجاهزة"والمصطلحات المعروفة."شعره، كما يقول لوكليزيو، مصنوع من حركة الحياة، من عبور الفصول والايام، من سطوة النبات ومن ارادة البشر". ومهما تنسك الشاعر او استسلم لرؤاه الدينية وتجربته الداخلية فهو يظل أسير الحياة المتفجرة وسليل الطبيعة المشرقة وصديق الضوء والشمس وأليف الظلال والحقول. ولعل نزعته الى الطبيعة دفعت الكاتب كلود روا الى تسميته بپ"الشاعر المزارع"وقال فيه:"شاعر ومزارع؟ شاعر لأن رأسه ليس في الغيوم، بل لأنه يحب الطبيعة اضافة الى شغفه بالدقة ولذة الرؤية الصادقة تلك التي تقود تلقاء الى الكلمة الحقيقية". الا ان نزعة الشاعر الى الطبيعة ليست مجرد نزعة عاطفية او وجدانية، لئلا اقول رومانطيقية في معناها الرائج والأليف بل هي نزعة ميتافيزيقية وروحية، نزعة"حضور"وكينونة. فالطبيعة مرآة الماوراء وفضاء الوجود والغياب، كتاب الولادة والموت، المخيلة والذكرى. وشعر غروجان الذي يسميه لوكليزيو"شعر النبع الصافي، وماء الحقيقة"يسعى الى قول"اللامرئي"عبر اللغة التي تستخدمها الطبيعة كما يعبر الكاتب دولافو. شعر اللامرئي يتجلى على صفحة المرئي: في ضوء الشمس وأوراق الاشجار وذهب السنابل". هنا كل شيء ساطع، جديد، سري ولكن على قساوة نادرة". فالشاعر يحاول جاهداً ان يجعل"الحضور"حاضراً او ان"يحضر"العالم. هكذا يصبح للطبيعة حضور جوهري بل حضور سحري على غرار ما تجلت الطبيعة في شعر رامبو"الوثني"او"الصوفي الوثني". وهكذا ايضاً تصبح الارض هي"الارض الموعودة"التي يحتفي بها الشعر ويكشف ملامحها عبر كشفه عن"اللازمني"الكامن في الذات الانسانية وفي داخل"الكائن". كأن سر تجربة غروجان يكمن في توفيقه او مصالحته بين الطبيعة والذات، بين الارض والكائن، أي بين المرئي واللامرئي، بين العالم والموت. "هل نجسر على تصنيف جان غروجان بين الشعراء؟"يسأل فيليب دولافو. وسرعان ما يجيب قائلاً:"اننا لنعتبره من ثم شاعراً من كبار شعراء العصر". جان غروجان شاعر كبير حقاً، شاعر استطاع ان يخرج من إرث اللغة الفرنسية الى تراث العصور القديمة والى آفاق العصر الذي يتخطى حدود الاوطان واللغات. شاعر توراتي معاصر، رؤيوي ولكن متجذر في الحياة، يحيا على"جبل سيناء"كما قال فيه الشاعر بيار اوستر وفي صحراء الشرق، في معترك العالم والعصر. لغته منصهرة في جوهرها، لا تقول اكثر مما ينبغي ان تقول، لا تضيف ولا تفيض، لغة مختزلة على رغم نزعتها الرثائية او الانشادية في احيان، لغة تستحضر إرثها الديني لتشهد على الرؤيا."الشعر هو الكثافة حين لا يكون من تفسير"يقول غروجان. وحين يكتب الشاعر فهو انما يسعى لأن يجعل"الماء ينبثق في البريق". لا تستقيم الكتابة عن الشاعر الفرنسي جان غروجان إلا انطلاقاً من اعماله الشعرية والنثرية ومن الترجمات التي انجزها وفي مقدمها الكتب النبوية القديمة ومعاني القرآن وانجيل يوحنا. وان كان شعره التوراتي الروح، المسيحاني الرؤيا، لا يختلف في جوهره عن نصوصه السردية التي استعاد عبرها بعض الموروث الدينية فإن ترجماته لا تبتعد بدورها عن صنيعه الابداعي بل هي ترسخ خطابه الادبي والديني وشغفه القديم بالشرق، ارض النبوءات والوحي وموئل الاديان الثلاثة. وقليلاً ما ترجم غروجان نصوصاً حديثة بل انصرف كل الانصراف الى الكتب المقدسة والأسفار القديمة. فالترجمة في نظره ليست مجرد نقل نص من لغة الى اخرى بل هي كتابة نص في لغة غير لغته الام. ولم يتوان مرة عن الاعتراف بجرأة انه لم يكتب قصائده ونصوصه الا على تخوم ترجماته. وربما لم يبالغ غروجان في مقولته هذه فترجماته اعمال ابداعية صرفة وكان لها أثر بيّن في نتاجه الادبي ككل. وعوض ان يلجأ كشاعر مثلاً الى حقل النظرية الادبية او النقد الادبي وجد في الترجمة خير ملاذ أدبي ولغوي وديني. يغيب جان غروجان بعدما عاش 94 سنة، كان خلالها شاهداً على التحولات التي عرفها القرن العشرون وفي مقدمها ظاهرة التحول الديني الذي آل الى صعود حركة الارهاب والى المزيد من الانفصال بين الشرق والغرب. وقد تكون اعمال جان غروجان الشعرية والسردية وترجماته البديعة خير مثال للحوار بين الاديان التوحيدية والحضارات. اثنتا عشرة قصيدة قيلولة الأيام الجميلة تمضي عبر الحقول، الزهيرات تغني في الحدائق الأشجار تمكث بحزم والهواء يتمايل بين أوراق الشجر. الضوء يصرخ فوق السطوح الضياء يلعب في الشوارع، الظلال تطوي أجنحتها في أسفل الجدران التي تصنعها، لكن القيلولة تبسط على الروح الظل الحائم للأحلام. عاصفة حبوب جافة ووريقات ميتة يحملها الإعصار تحت سماء من حبر بروق على الرابية. عصفور ينحرف في طيرانه. الأشجار تلتوي كأفنان الأسل في منتصف - ليل النهار هذا. تجهم البروق يمزق ستائر المطر. بقع الماء تثب في أعلى السطوح السماء ترعد. بيت البيت يرمق ظل السياج اذ يكبر على الطريق. في البعيد الحقول والغابات، عالياً هناك، جزر من غيوم. الشمس تضيء في هنيهة زجاج النوافذ كالأفجار. وحينما تثوي الشمس وراء الهضبة الأخيرة، يتمهل في السماء شعاع، وفي عمق الغرف. مقبرة أقدامنا تندفع خطوة خطوة على درب المقابر. منذ الفجر يحتدم الحر، وفي البعيد تلتمع أضرحتنا المقبلة بين القبور القديمة تنورها أزهار ذاوية. ما من جديد أكثر من أن نموت من أن نذهب خطوة خطوة. النسيم يهب بين أشجار الزيزفون والشمس على الدرب. سماء حافات السماء تتكئ على الأفق لكن بئر اللازورد الشاسعة فوق رأسنا. اتمدد على الحضيض قبالة السماء. ليس في السماء سوى رؤوس الاشجار يهز هبوب ورقها وديكة برج الاجراس التي تدور في الريح. الريح تكنس الأرض، تكنس جسدي والروح. رائحة القش تسافر مع حبوب وغبار الدروب مع أصوات يتلاشى صداها في اقاصي حقل مفقود. مساء حل المساء مثلما يحط عصفور. خبا النهار مثل قصبة تنحني. الشمس العجوز غرقت في الضبابة وراء حجاب من شجر الحور. يمامة برية تجثم ثانية في عشها الصغير مع حفيف الاوراق التي ترقم. أولى الخفافيش شرعت تنتشر في الهواء الأشد نداوة، هواء الظل الشفيف. بضع نجمات تشتعل في ناحية السمت متكهنة بالليل المنجم. صحراء مقفرة حقول النهار المشرق. الظل يتوارى في عمق الغابات. النهار مقفر، النهار أبكم. حذر مرتفع الشمس. النسيم أخرس، السماء صحراء. غيمة فقط على حافة السماء. ظلها هارب فوق الاكمة. أدوات مهجورة، اشغال مهجورة، منازل مهجورة، الظلال خرساء، الفضاء شاسع، الاوقات رحبة. اهتداءات رتاج يهتز ويصر. اسراب غربان تمتزج في السحب التي تزيغها الريح. السحب تلامس الاشجار الاشجار تتمايل مثل اشخاص يترددون، الريح تعيد وريقات الشجر فنراها شاحبة مثل كتب، لكن الريح تؤثر على الكتب همس الروح العميق. ظلال دروب تتوه في الحقول، حقول تتمدد في محاذاة الغابات، غابات تنام تحت التلال، تلال راقدة عند سفح السماء، سماء راقدة وراء الشمس، شمس راقدة فوق الظلال. لكن الظلال تحت الاشجار، في الازقة، في محاذاة الجدران، وعلى الرمل في عمق الماء، ظل يدي. حبور شمس هناك فوق الهضبات. أنام في ظليل التخوم مع الموتى الذين يضحكون بلا ضوضاء تحت شجرات الصمت الكبيرة. هناك النيران، هناك الحروب، هنا عصفور الزمن الذي يعبر كمثل غيمة فوق الغابة. هناك الصرخات التي لا تسمع، هنا غناء الموتى الاخرس وتنسم الروح. دخان الشمس العذبة بين الاشجار جاءت تزور الطحالب والظل. الريح تركض على اصابع رجليها في كل دروب الاماليد. الضوء يرقد على الشواطئ التي تحدّ غيومها السماء. نار عشب قديم تطلق دخاناً في زاوية حقل محصود. الناس الذين نسمعهم يتحدثون يخفيهم الدخان. بطالة محروثة تهب منحدرات الهضاب نفسها لظلال الغيوم التائهة. الريح التي تدفع الغيوم تذرو غبار الارض. صحراء العالم حيث يعبر ظل الايام، غبار الاوقات حيث يتوه العابر، سماء متقلبة في المدى المتبدل لأيام البطالة. ترجمة: عبده وازن