لا يمكن الشعب اللبناني ان يبني وطناً يتعايش فيه كل أبنائه معاً الا بالتوافق، لأن التوافق الحقيقي نابع من الحسابات الوطنية لا الحسابات الشخصية والحزبية والطائفية. وهو وحده القادر على بناء دولة عادلة تشعر الجميع انها ترعى حقوقهم وتحمي مصالحهم وتضمن شراكتهم في الوطن، ولا يمكن ايضاً ان يفصّل - كل على هواه - عدواً له ويأخذ البلاد والعباد لمواجهته وفقاً لرؤيته ومصالحه الخاصة. ولا يعقل ان يتفرد اي طرف بتحويل الدولة ومؤسساتها الدستورية شركة خاصة يدير شؤونها، ويأخذ القرارات المصيرية منفرداً. ولأن لبنان يحتكم الى الديموقراطية واحترام حرية التعبير والحريات العامة ورأي الآخر، يتعين على جميع الفرقاء السياسيين المشاركة في صناعة القرار وفق ثوابت ومسلّمات وطنية وقومية لا تخضع لمزاجيات سياسية ضيقة. اما اليوم ونحن نعيش ازمة حكم فعلية وأزمة سياسية معقدة نسفت كل المحرمات والمسلّمات، وجعلت الوطن ساحة مكشوفة امنياً وسياسياً واقتصادياً جعلت مستقبله عرضة لتجاذبات اقليمية ودولية قد تؤدي في نهاية المطاف الى تحويله ساحة صراع متعددة الأوجه لن تحمد عقباها. أي ان هذه التحولات الاقليمية الجذرية والمتسارعة جعلت لبنان، بفعل انقسامات الاطراف السياسيين اللبنانيين، قاعدة لاختبار النجاح أو الفشل للمشاريع والمصالح الدولية في منطقة الشرق الاوسط عموماً. المغالطة الكبرى التي تحصل في لبنان ان فريق الاكثرية النيابية"الموقتة"يتصرف بعقلية الغلبة، ويسعى لاختصار الدولة بكل مؤسساتها الدستورية خدمة لمصالحه السياسية، ويعتبر امتلاكه الاكثرية النيابية في الوقت الراهن انها تعطيه حق التفرد بقرارات الوطن المصيرية. وهذا نوع من انواع الجنوح السياسي الخاطئ، لما له من تداعيات سلبية على ادارة شؤون الدولة. وهذا بحد ذاته تصرف غير منطقي سيفشل حتماً، لأن لبنان لا يحكم الا بالتوافق. وهذا ما نصت عليه وثيقة الوفاقق الوطني التي شكلت مخرجاً وأساساً عاماً لادارة الحكم في لبنان، بعد حرب اهلية دامت اكثر من عقدين من الزمن خرج كل منها"لا غالب ولا مغلوب"، لكنها ألحقت دماراً مادياً وبشرياً ومعنوياً ما زال الشعب اللبناني يدفع ثمنه حتى اليوم. واذا كنا نتحدث انه لا يمكن أي أكثرية، مهما كان شكلها ولونها، ادارة الحكم المطلق في لبنان، فكيف لأكثرية بالحد الادنى هي أكثرية موقتة وبالحد الاقصى اكثرية خيالية لا تمت الى الواقع بشيء؟ وهذا التوصيف لا ينطلق من منطلق معارضة سياسية للاطراف المشاركة في هذه الاكثرية، بل من منطق فعلي يسقط عن هذه الاكثرية حق التفرد في سن قوانين تشريعية، فكيف بقرارات مصيرية حساسة ودقيقة تحتاج الى توافق حقيقي؟ وهنا نسرد بعض الوقائع والارقام التي انتجت الاكثرية"الموقتة"المسيطرة على معظم مؤسسات الدولة: اولاً، ان هذه الاكثرية جاءت وفق قانون انتخابي اقطاعي مغاير لما نص عليه اتفاق الطائف، اضافة الى غياب تطبيق قانون الاعلام والاعلان الانتخابي، واستخدام المال السياسي في شكل فاضح ومعلن، خصوصاً في الشمال والبقاع. ثانياً، تفتقر الاكثرية الى تحالف سياسي أعطاها اكثر من اربعة عشر نائباً في البقاع ودائرة بعبدا ? عاليه. هناك ايضا اطار قانوني دستوري قد يفقد هذه الأكثرية أكثر من عشرة نواب، بحسب الطعون المقدمة من"التيار الوطني الحر". وتشير المعلومات الى ان تعطيل عمل المجلس الدستوري، من جانب الأكثرية النيابية، سببه خشيتهم من هذه الطعون التي على ما يبدو انها فعلياً تبطل شرعية عشرة نواب على الأقل. اما العامل الحاسم في توصيف الاكثرية بأنها"اكثرية خيالية"فيندرج في سياق التحالف السياسي وفق ما افرزته الانتخابات النيابية. على سبيل المثال: نرى ان تحالف"المستقبل"-"الاشتراكي"-"القوات"و""قرنة شهوان"وپ"الكتائب اللبنانية"حصل فعلياً على نحو 514000 صوت، اي بنسبة 41 في المئة، أما تحالف"حزب الله"-"أمل"وحلفاؤهما فحصل على نحو 540000 صوت، اي 44 في المئة، واذا اضفنا تحالف"التيار الوطني الحر"مع"أمل"-"حزب الله"يصبح المجموع 737000 صوت، وتصبح النسبة الفعلية لهذا التحالف 60 في المئة التي تعطي فعلياً لغالبية المطلقة. ولا بد ايضاً من التذكير بأن اكثر من 11 نائباً في الأكثرية الحالية جاء عبر"التزكية"، ومعروف ان التزكية مخالفة لشرعية النائب، حيث لا حصانة شعبية حقيقية للنائب المفترض ان ينتخب من جانب الشعب، فكيف تكون حالة الفائز بالتزكية وهو لا يمثل صوتاً واحداً من الشعب الذي يمثله. أما الاطار التمثيلي فيبرز وجهاً آخر يتمثل في شرعية التمثيل الفعلي. اذ ان معظم نواب"قرنة شهوان"حصلوا على ما نحو 20 في المئة من اصوات الاقضية المرشحين عنها. على سبيل المثال: الوزيرة نايلة معوض والنائب سمير فرنجية، عن قضاء زغرتا ، لم ينالا نسبة تفوق 19 في المئة من اصوات الناخبين في قضاء زغرتا. بناء على هذه المعطيات التي تبرز مدى هشاشة الاكثرية الحالية في لبنان ووهميتها، فضلاً عن خسارتها ايضاً قواعد شعبية عريضة في البقاع والشمال وبيروت جراء مواقفها السياسية التي لم تراع التراث والانتماء القومي العربي لهذه القواعد، نرى ان من واجب هذه الاكثرية"الموقتة"اللجوء الى منطق التوافق والحوار، لأنه وحده الكفيل بحماية سيادة لبنان واستقلاله ووحدته في وجه كل المخاطر والصعاب. اما منطق الغلبة والشارع فيأخذ البلاد حتماً الى مزيد من الصراعات والانقسامات، ويعزز دور التدخل والوصايات في شؤونه الداخلية. واذا كان البعض يتصور انه يستطيع ان ينقلب على الدولة والمؤسسات الدستورية عبر الشارع... يكون واهماً، لأن من يظن انه عبر شارعه يستطيع ان يقيل رئيس الجمهورية، سيجد شوارع اخرى تؤيد بقاء الرئيس. وهذا إن دل على شيء، فإنه يؤكد ان الجميع بحاجة الى توافق بين جميع الفرقاء خصوصاً فريق الأكثرية"الموقتة"... رحم الله امرأً عرف حده فوقف عنده... عباس المعلم - بريد الكتروني