أكبر التحديات التي واجهت العقل البشري على مر العصور فهم أو الوصول الى الاشياء التي نعرف أنها موجودة ولا نستطيع ان نراها. إذ ليس كل ما هو حقيقي ومفيد، يُلمس ويُرى. فالزمن مثلاً، حقيقي ولكن لا يمكن إدارته بصورة كفء إلا عند تمثله الساعة والتقويم الزمني. واخترع الانسان، على مر العصور، أنظمة وصفية تمثيلية مثل: الكتابة، النوتة الموسيقية، الرموز، الرياضيات وغيرها، ليدرك بالعقل ما لا يمكن لمسه أبداً. كما ان للحياة درجات مختلفة من الواقع كثير منها غير مرئي ولا نستطيع الوصول إليها إلا من طريق التوصل لأدوات التمثيل المناسبة. وأشهر قياس للتمثيل هو ما أورده أفلاطون في كتابه"الجمهورية"حيث تم تشبيهنا بالسجناء المقيدين بالسلاسل في كهف وظهورنا للداخل بحيث ان كل ما نعرفه عن العالم هو الظلال الساقطة على الحائط الذي أمامنا. وما يدل عليه هذا التصوير هو ان أشياء كثيرة مما نسترشد بها لتحديد مصيرنا ليست واضحة بذاتها، وهذا هو السبب في ان الانسان عمل بجد لاقامة نظم التمثيل اللازمة للوصول الى وإدراك الجانب الافتراضي في واقعنا وتمثيله بمقاييس يمكننا فهمها، وهو ما سماه الفيلسوف دانيال دينيت بالتمديد الأصطناعي للعقل. ومن خلال التمثيل فإننا نجسد جوانب أساسية للعالم حتى نغير من الطريقة التي نفكر بها فيه. وبحسب الفيلسوف جون سيرل فإننا من طريق الاتفاق الانساني: نخلع منزلة جديدة على ظاهرة ما. ان تنظيم الواقع في عالم من المفاهيم هو مركز الفلسفة على النطاق العالمي، وكما قال لودفيج فتجنشتين فان الوعي بالعالم لا بد من أن يقع خارجه. ففي العالم كل شيء على ما هو عليه، ويحدث بالصورة التي يحدث بها. ولا توجد قيمة فيه واذا وجدت فستكون بلا قيمة. واذا كانت هناك لها قيمة فلا بد ان تكمن خارج كل ما يحدث. بيد ان المادة عموماً تلعب الدور الأساس في تشكيل تصوراتنا وأفكارنا المجردة. وأن الاستعارة هي ظاهرة ذهنية قبل أن تكون ظاهرة لغوية، أو قل أن الثانية تجلياً للأولى. إن عالم الأشياء المادية هو المعروف لدينا، بينما عالم الأفكار هو عالم مجرد يستحيل التفكير فيه من دون استخدام ما نعرفه عن الأمور المادية، وهنا يأتي دور الاستعارة، بحيث ننقل ما نعرف من الظواهر المادية لنشكل ما لا نعرف من الظواهر غير المادية والتجريدية. معنى ذلك أن الاستعارة لا تقوم على"التشبيه"وإنما على"التشكيل"، فهي ليست فقط أسلوباً بلاغياً، لكنها طريقة تفكير تتم بها إعادة تشكيل الخرائط الذهنية والمفاهيمية، وكسر دوائر الإدراك الجامدة، أي أنها أداة لتطوير المفاهيم والنقلات المفاهيمية، كما أنها وسائل للإدراك ولخلق الواقع، وليست مجرد وصف أمين له، وهذا المعنى يختلف عن معنى الاستعارة منذ أرسطو. وديكارت هو أول من دشن في العصر الحديث فكرة أن المعرفة"رؤية ونور". وأقام منهجه على أساس المعرفة اليقينية التي لا يطاولها أي شك من خلال رفض كل معرفة احتمالية والوثوق بما هو معروف معرفة تامة، وما هو غير قابل للشك. ونظر الى العقل باعتباره مسرحاً فكرياً توجد فيه مواد استعارية هي الأفكار يضيئها نور داخلي نور العقل الطبيعي ويراقبها مشاهد استعاري هو قدرتنا على الفهم. ويسمي ديكارت الرؤية العقلية حدساً وهو ما يمكنه من رؤية الأفكار واضحة ويميز في ما بينها. وأثبت كل من لاكوف وجونسون في كتابهما"الاستعارات التي نحيا بها"عام 1980، بأن قناعة ديكارت في العقل الذي يستطيع أن يعرف أي شيء، تستند إلى مجموعة من الاستعارات"المنسوجة ببعضها على نحو محكم، وأهم هذه الاستعارات وأكثرها أساسية هي المعرفة رؤية والتي تنقل مجال رؤية الأشياء المادية من طريق العين إلى مجال المعرفة وفهم الأشياء. إن استعارة المعرفة رؤية من الاستعارات التقليدية المألوفة في فهم المعرفة العام، كأن نقول"رؤية ثاقبة"أو"رؤية صائبة". ومن هنا فإن كل ما قام به ديكارت هو أنه أخذ هذه الاستعارة على أساس أنها حقيقة فلسفية، فاعتقد أن أهم مشكلات المعرفة هو إمكان أن تكون لدى الإنسان رؤية واضحة لا يشوبها أي غموض، وهنا فإن مشكلة المنهج الفلسفي تغدو مشكلة كيفية رؤية الأفكار رؤية واضحة وتقديمها للعقل كي يتفحصها وأن يميز العلاقات الموجودة بين الأفكار المختلفة. كما استخدم ديكارت استعارات أخرى كاستعارة"العقل حاوي للأفكار"مثل"سلة التفاح"وأن قدرات العقل هي أشخاص يقومون بمهام عقلية مختلفة، بحيث يربط في ما بين هذه الاستعارات لينتج منظومة استعارية معقدة تميز مفهومه للحدس أو كما يقول لاكوف وجونسون: العقل، ذلك الشخص في المسرح الديكارتي القادر على الفهم، يتم تصوره من خلال استعارة"الفهم رؤية"باعتباره شخصاً قادراً على الرؤية. كذلك فإننا إذا أضفنا استعارة"الأفكار أشياء"إلى استعارة"العقل حاوي الأفكار"ينتج لدينا أمر لازم هو أن الأفكار هي أشياء موجودة في العقل. اكاديمي مصري