بعد ثلاثين سنة من انتظار"غودو"، اصدر اتحاد الكتاب في مصر العدد الاول من مجلته"ضاد"بعد ما ظل طوال ثلاثة عقود بلا منبر ثقافي فاعل في حركة الثقافة المصرية او العربية على السواء. ونحن نأمل الا ننتظر عقوداً اخرى حتى تتحول"ضاد"مجلة شهرية، تواكب حركة ثقافية تكون احياناً فاعلة، وغالباً منفعلة. فوجود المنبر - الذي سيكون بمثابة الإطار - سيؤدي حتماً الى تحويل الحركة الثقافية حراكاً ثقافياً، وسيعيد تعديل اتجاه الانفعال في اتجاه الفاعلية. وإذا كانت المجلة لاقت نوعاً من القبول من حيث الشكل، فإننا ننتظر قبولاً عاماً لاعدادها المقبلة من حيث المضمون او التوجه، حتى تصبح ذات رؤية كلية ينضوي تحتها المثقفون، وان تعبر عن جدلية العلاقة بين المثقف وواقعه المتردي. ففي هذا الظرف التاريخي الاستثنائي في تراجعه، يصبح انعزال المثقف عن واقعه خطأ قد يبلغ درجة الخطيئة. خصصت المجلة عدداً من الدراسات لجوانب مختلفة لدى"الصروح"الادبية، التي يمثلها بعض الكتاب أو الشعراء محلياً أو عالمياً. فعن رحلة نجيب محفوظ الابداعية، وفي مناسبة بلوغه الرابعة والتسعين، يتحدث يوسف القعيد في مقالة بعنوان"عندما تتساوى ثوابت العمر مع متغيرات الواقع"عن بداية تعرفه على محفوظ، ويرى أنه بينما كان دوستويفسكي حفار قلوب لا يرى الا عيوب البشر، فإن محفوظ - في المقابل - ظل يتعامل مع اطيب الجوانب والنوازع البشرية، فهو لا يسعى إلى اتهام احد! ويبدي الكاتب دهشته لأن محفوظ الذي اسس لنفسه عادات وتقاليد ظل يستعذب الأخذ بها، إلا أنه - في المقابل - كان من المغايرين الكبار في الكتابة، وظل دائم التجدد والتمرد حتى على انجازاته ذاتها. ومن جانب آخر، يتناول هشام مراد شخصية ايريك ايمانويل شميت، مؤلف رواية"مسيو ابراهيم وزهور القرآن"باعتباره فيلسوفا شعبياً، يستخدم المسرح والرواية لتبسيط افكاره الفلسفية، وتقريبها من ذهن الجمهور العام، ويرى الكاتب أن اسم شميت اصبح عنواناً للنجاح، في الوقت يصعب فيه تصنيفه: هل هو كاتب مسرحي، أم روائي، أم فيلسوف، أم الثلاثة معاً؟. وفي مقالة لرفيق الصبان بعنوان"حنا مينة: أبو القصة السورية"يرى أن مينة هو الذي بدأ القصة السورية الحديثة، واعطاها شكلها التاريخي الفني الحقيقي. ويرى أن قصصه - شأن ماركيز ومحفوظ وكونديرا - قد حطمت الحدود الجغرافية، وانطلقت بأجنحتها الواسعة لترفرف في سماوات العالم كله. تخرج حنا مينة - كما يقول عن نفسه - في"جامعة الفقر الاسود"لكنه احال ذلك الفقر الى نوافذ من نور، وعرف كيف يحلق بنفسه وبنا، لان المبدع بغير تحليق او من دون حلم سيسقط في العدم. ويطرح عبد البديع عراق في مقالته"سميح القاسم - البريد لا يصل الى الرامة"رؤية انسانية عن الشاعر الفلسطيني، في مناسبة ذكرى مولده الخامسة والستين، ويقرر أن من يرى سميح القاسم، الرجل الأنيق المذهب، فإنه لا يعرفه في غضبه وثورته إذا كان الامر يتعلق بالوطن والشعب وحقوق الثوار. ونشأته في بلدة الرامة في جبال الجليل جعلته يعشق الطبية، فلا تستهويه المدينة بصخبها وزحامها. وفي ملف عن جائزة نوبل 2005 يكتب حسن عطية عن هارولد بنتر مقالاً بعنوان"التعبير عن الواقع والعمل على تغييره". ويرى أن بنتر هو افضل من يمثل المسرح البريطاني في مرحلة ما بعد الحرب الثانية، حيث لعبت مسرحياته دوراً في التعبير عن قضايا مجتمعه، وعن صوغ ذلك في بنية درامية قادرة على الخلود."إنه يمزج ببراعة بين الرؤى الكلاسيكية والعبثية والطبيعية، من خلال 26 نصاً درامياً. ولم تكن تلك مجرد مصادفة أن تلتقي بدايات بنتر مع"مسرح الغضب"الصاعد داخل انكلترا حزناً على ضياع الحلم الامبراطوري، واحتجاجاً على تحولها الى تابع لأميركا". وتقدم المجلة في ندوتها الرئيسة عشرة مفكرين في آرائهم السياسية المختلفة، عبر حوار فكري مفتوح للاجابة على سؤال اساسي: اين موقع الثقافة على خريطة الفكر السياسي المعاصر؟ وادار الندوة عبد العزيز حمودة. بداية، يرى السيد يسين ان المشكلة ليست في غياب الثقافة عن برامج الاحزاب السياسية، بل في غياب الاهتمام المجتمعي بالثقافة، وتؤكد سحر صبحي على أننا نحتاج الى اعادة تعريف للثقافة، والبحث عن اسباب غياب دورها الحقيقي، حيث يمثل ذلك مشكلة يتحمل المثقفون أنفسهم جزءاً كبيراً من وزرها. ويشير علي الدين هلال إلى أن التحول الديموقراطي الذي تعيشه مصر اليوم يتطلب ثقافة ديموقراطية، تقوم على التسامح وقبول الآخر. وترى عواطف عبد الرحمن أن الثقافة لم تغب عن الممارسة الحزبية في الانتخابات الاخيرة، إذ أن لكل حزب ثقافته التي تخدم الفئة التي يعبر عنها. ويطرح احمد عبد المعطي حجازي رأياً مفاده ان الثقافة لم يكن لها دور ملموس في حياتنا، ما خلا الفترة الليبرالية التي سبقت ثورة يوليو. ويشير جلال امين الى أن ضعف الاحزاب المعارضة ويأسها من تداول السلطة، جعلها تنظر الى الثقافة على انها رفاهية. وفي المقابل، فإن اسامة الغزالي حرب يرى أن التدهور الثقافي الحاصل الآن سببه المناخ السلطوي السياسي، الذي عاشته مصر منذ عام 1952. اما فريدة النقاش فتعترض على فكرة غياب الثقافة عن برامج الاحزاب كلها، باعتبار أن حزب"التجمع"لديه خطط ثقافية حقيقية في برنامجه. ويرى أبو العلا ماضي - ممثل التيار الاسلامي في الندوة - ان هناك مساحة غائبة في فكر التيارات الاسلامية في ما يتعلق بالثقافة، مما يستلزم ضرورة تقديم رؤية واضحة لتلافي هذا النقص. هكذا يتبين لنا ان مجلة"ضاد"على مستوى المضامين والاتجاهات - هي مجلة موسوعية شاملة، لا ينقصها سوى أن تحتوي على ركن ثابت يمثل اطلالة على التراث وتفاعله مع اللحظة الراهنة. وقد نختلف مع توجه المجلة في نشر نصوص ادبية طويلة، كما في حالتي سميح القاسم وهارولد بنتر، لانها تقتطع بذلك مساحة هائلة كان يمكن ان تخصص لقضايا حيوية فاعلة، على أن تطبع تلك النصوص في كتيب مستقل يوزع مجاناً مع المجلة، كما يحصل مع دوريات أخرى كثيرة. على أننا - في كل الأحوال - نحيي هذا الاصرار الذي تأخر طويلاً، ونحلم معه، ومن خلاله، بفتح افق ثقافي جديد، فاعل اكثر منه منفعلاً.