تحضر أعمال الفنان شفيق عبود مجدداً في معرض استعادي في غاليري كلود لومون في باريس. في هذه الغاليري الباريسية الواقعة في الدائرة السادسة، والقريبة من ساحة المونبارناس عرض عبود أعماله طوال السنوات الأخيرة من حياته. وكان يحضر افتتاح معارضه في كلّ مرة محاطاً بمحبي فنّه وأصدقائه. يغطي المعرض مراحل متفاوتة من إبداع عبود تمتد من سنوات الستينات إلى العام 2003. يدخل المرء إلى لوحات شفيق عبود من عناوينها: الفجر، غرفة النوم، ذكريات، حي جونتييه، حدائق، جسد امرأة، عيد الميلاد... أحجام كبيرة خصّص لها الطابق العلوي من الغاليري، وأحجام صغيرة في الطابق السفلي. وكلها تدور حول عالم مملوء بشمس المتوسط وبزهو كان يملأ قلب الفنان وأعماله على السواء. ولم تكن التسميات التي يطلقها عبود على أعماله من باب المصادفة. كان ينتقيها بعناية ويروي من خلالها حكايات تتراءى له أثناء إنجازه أعماله. لكلّ عمل عنوان، ولكلّ عمل حكاية. وكان عندما يروي الحكاية التي تنطوي عليها تلك الأعمال يضع الناظر الىعمله في شيء من الارتباك، ذلك أنه يبدأ البحث، ما وراء الألوان والأشكال المجردة، عن أصول الحكاية التي لا توجد أحياناً، بل في الغالب، إلاّ في مخيلة الفنان. تجريدية أعمال عبود، وهو أحد رواد الفن اللبناني الذي ينتمي إلى مدرسة باريس، أضاف إليها مزيداً من أضوائه المتوسطية التي تمتاز عن مجايليه بسطوع اللون الى درجة تمحي فيها الظلال وتتحول اللوحة شلالاً من نور وتدرجات لا متناهية من الأبيض والأصفر والبرتقالي والأخضر والأزرق. عرس الألوان هو، لكنها الألوان المنبهرة، المتلألئة حتى الثمالة. وتكشف هذه الأعمال مدى تعلق الفنان بالطبيعة وبعناصرها وأجوائها المختلفة، وقد احتضنته في سنوات طفولته وشبابه وظلت تهدهده حتى أثناء إقامته الباريسية لأنه يحملها معه أينما كان. خمسون عاماً من الانكباب على التصوير والرسم، تطالعنا هنا من خلال أعمال متنوعة، وتعيدنا إلى تجربة تعدّ من التجارب التي أرست المعالم الأولى للوحة الحديثة في العالم العربي. شفيق عبود من مواليد قرية"المحيدثة"في لبنان عام 1926 جاء إلى باريس في العام 1947 يوم كانت المدينة مسرحاً للتحولات الفنية والأدبية والفكرية الكبرى في القرن العشرين. وطوال هذه الفترة ظل الفنان يتنقل بين باريسوبيروت حيث كان يدرس في معهد الفنون الجميلة، إلى أن اندلعت الحرب في 1975 فانقطع بعد هذا التاريخ عن التدريس واستقر نهائياً في العاصمة الفرنسية. انفتح منذ إقامته في باريس على تجارب الفن الحديث والتي تعد العاصمة الفرنسية مركزاً أساسياً له منذ نهاية القرن التاسع عشر. ففي هذه المدينة انتمى عبود إلى تيار التجريد الغنائي الذي تبلور في الخمسينات والستينات، وأقام أول معرض له بعدما تغذت تجربته من نتاج فنانين كبار شكلوا علامات بارزة في نتاج الفن الغربي الحديث، من أبرزهم ممثلو الحركة الانطباعية مونيه، وبونار. وكان شديد التعلق بهذا الأخير الذي سبقه إلى مناطق فنية طالما شعر عبود أنها موجودة في داخله، وأنه لا يحتاج إلى كبير عناء لإيجادها واستخراجها من مكامنها ووضعها فوق سطح اللوحة. لا بد من الإشارة إلى أن صاحب الغاليري كلود لمون أراد في هذا المعرض أن يحتفي على طريقته بشفيق عبود، فاستدعى صديقين له هما الشاعر أدونيس والشاعر صلاح ستيتية. الأول حضر من خلال مجموعة من أعماله الفنية المرفوعة كتحية إلى عبود، وتتألف من مكونات تشكيلية ومن خطوط خطها أدونيس بطريقة تتلاءم مع الكولاج والملصقات المرافقة. أما الشاعر صلاح ستيتية فخط بيده بعض ما أوحت به إليه أعمال عبود. وليست المرة الأولى يكتب فيها ستيتية عن عبود، فنصوصه الأولى عنه تعود إلى الخمسينات من القرن الماضي وقد صدر في صحيفة"لوريون"في بيروت، ثم في الستينات في صالون الخريف في متحف سرسق حيث كتب حينها:"يجب أن نتوقف طويلاً في الصالة المخصصة لشفيق عبود، دونكيشوت الفن اللبناني الشاب". من الخمسينات والستينات إلى التسعينات وصولاً إلى هذه اللحظة، يكتب ستيتية عن عبود كأنه يكتب معلقة، ونصه المخطوط بيده يبدو على أحد جدران المعرض أشبه بالمعلقة. يقول ستيتية إن"شفيق عبود، مثل رونوار وفويلار وبونار هو عين في الدرجة الأولى. ينظر إلى اللون ويفككه ويجعله ضوءاً. لوحته، كل لوحة من لوحاته، لباس للضوء: نافذة مفتوحة على تململات يتعذر التقاطها حيث الأشكال ترفض التمايز عن القوى التي تحييها وهي قوى تشكيلية منسابة شديدة الصلابة كتلك التقى التي يحفل بها في أعماقه العالم الأول". حضور الشاعرين أدونيس وستيتية في المعرض هو امتداد لحضور عبود نفسه، ويمنح بعداً آخر للقاء الشعر والفن، وللصداقة أيضاً. فالشاعران هنا لا يحضران إلا بمقدار حبهما لعبود واعجابهما بفنه. عبود الحي في أعماله دائماً سيكون موضوع كتالوغ كبير وفخم هو الأول من نوعه للفنان، ويعده كلود لمون جامعاً فيه صورة لأكثر الأعمال تمثيلاً في تجربة عبود الفنية، في أساليبها ومراحلها المتنوعة. هذا إضافة إلى مجموعة دراسات ومقالات وشهادات من نقاد فنيين وكتاب. والكتالوغ وان تأخر صدوره سنوات طويلة، سيشكل مرجعاً أساسياً حول الفنان وتجربته العميقة.