لم تذهب حياة ياسر عرفات هباء، على ما نبهتني إليه صور شغب الناشطين في"فتح"والمصدومين بفوز"حماس". فأفكار عرفات وعاداته لا تزال حية في شعبه. فعرفات وجه طموحات شعبه نحو أهداف رومانسية، تقدم الخيال والانفعال على المنطق. وجعل عرفات الكوفية واللحية والسلاح رمز الفلسطينيين. وأسس القومية الفلسطينية على ركن أساطيرها. وبث في أتباعه روح الثورة و"ذهنيتها". فارتبط النزاع السياسي بالبطولة، والنضال بالسمو، والحكم بالوضاعة الدنيوية. وذهب الى ان العنف في الروح الثورية، ومعها، أفضل من المساومة، والمعارضون شرّ مطلق، والارهاب نبل، والفوز حتميّ وفاتن. ومع شيخوخة عرفات، ضعفت منظمة"فتح". ولكنها لم تقبل الاصطباغ بصبغة الحياة العادية وپ"النثرية"على خلاف"الشعر". فعرفات رفض السلام في كمب ديفيد، وفضل النضال على سلطة متواضعة. والوضاعة شأن السلطة في حكومات العالم كله. و"حماس"تشبه"فتح". فكلاهما تنتهجان ايديولوجية ثورية وبطولية، وتريان الى السياسة أحكاماً مطلقة على غرار الثأر والمجد، والنصر والاستشهاد. وأما الفكر الديموقراطي فغريب عن"حماس"و"فتح". فمظاهر الديموقراطية في الحياة اليومية بورجوازية وغير بطولية. والديموقراطية تعني نصراً محدوداً، وشيئاً من الخسارة، وقضايا لا تزول ولا تحل فوراً. ولا شك في أن الديموقراطية بدأت تتسلل الى فلسطين. وكان على الناخبين الفلسطينيين الاختيار بين حركتين ثوريتين، الأولى فاسدة والثانية تلبي حاجاتهم. والخيار بين السيئ والأسوأ رائج في العالم العربي. فنجاح الديموقراطية يعتمد على إرادة ناخبين وقادة ديموقراطيين. وهذا النوع من الناخبين والقادة لا ينشأ في ظل الاستبداد والارهاب. والانتقال الى الديموقراطية في هذه البلدان يشبه بناء طائرة في أثناء عملية إقلاعها. وهذه المرحلة الانتقالية مليئة بجروح معنوية أو رضات بدأت بفلسطين. فالفلسطينيون مدعوون الى التحول من شعب ثوري الى شعب عادي، الى حكم وحكومة عادية، على ما حصل بجنوب افريقيا بفضل جهود نلسون مانديلا. وليس بين الفلسطينيين نلسون مانديلا لينجز هذه المهمة. وعلى رغم نذر الازمة القادمة، الامل في محاسبة الناخبين الفلسطينيين للسلطة الفلسطينية قوي، فالفلسطينيون اقدموا على ما لم يقدم عليه الاوروبيون، أي محاسبة عرفات، وخليفته، على الفساد والكذب والقتل. ومن شأن عزلة"حماس"في المجتمع الدولي تنبيه الناخبين الفلسطينيين الى النتائج المترتبة على اقتراعهم. فالخيارات الراديكالية تعني الدمار في الديموقراطيات. عن ديفيد بروكس،"نيويورك تايمز"الاميركية، 29/1/2006