أفرد لنا البيروني باباً خاصاً، لتميز مقاله، في الدين الهندي، عمّا سبقه ولحقه من المؤلفين العرب، لقربه من موضوعه، من جهتين، معايشته التجريبية للهنود وتعرفه المباشر على حياتهم وأفكارهم ودياناتهم، وأيضاً إطلاعه المباشر على مصادره الهندية، باللغة الهندية، فهو أتقن اللغة السنسكريتية، وأجادها، وقرأ الكتب الدينية الهندوسية لا سيما بهاغها فاديتا واستطاع أن يعرض لهذه الديانة، بلغة موضوعية متراصة، من موقع الثقة بتفوق ثقافته، وعلو مقامها، وكان قد اهتم أكثر من أي مؤلف عربي - إسلامي بثقافة الهند، بعوائدها ومعارفها وعلومها وعلمائها وبدينها، وما انفك عن المقارنة بين الهند واليونان، وأحياناً بين الفكر الاسطوري الديني الهندي وبين ما يماثله عند الفرس أو اليهود، او النصارى، إلا أن المقارنة الأساسية يخصصها بين الهند واليونان، وهو في ذلك يعطي لليونان الميزة، وذلك لأن الهند في فكرها الديني توقفت عند مرحلة تجاوزها اليونان وهي مرحلة العلم المختلط بالفكر الديني الأسطوري، ويقارنها بالمرحلة الجاهلية التي مر بها العرب قبل الإسلام، إذ توقفت الهند في مفاهيمها الدينية عند هذه المرحلة، بينما تجاوزها العرب بالإسلام، كما تجاوزها اليونان بالفلسفة. فأشار الى ان قدماء اليونان قبل ظهور الحكمة فيهم، وبروز نجوم الفلسفة فيهم،"كانوا على مثال الهند"، فانتقل اليونان بذلك من الفكر الأسطوري الجاهلي الى الفكر العلمي، والتوحيدي، وارتفعوا عن عقائد العامة الأسطورية الى عقائد الخاصة التوحيدية. ونلاحظ هنا، ان البيروني يماثل بين دين الخاصة، والتوحيد الديني من جانب، والفكر العلمي من جانب آخر، ويماثل من جهة أخرى بين دين العامة ودين الجاهلية: الاختلاط والتعدد، وعلى هذا، وعلى رغم إظهاره تفوق اليونانيين على الهند في فكره الديني، بارتقائهم الى التوحيد عن طريق الحكمة الفلسفية، إلا انه في عرضه للديانة البرهمية/ الهندوسية، نجده يميز داخل معتنقي هذا الدين، بين خاصة تتسم عبادتها بالتوحيد، وعامة تختلط عبادتها بالتعدد والشرك، وهذا ما يجعل هؤلاء الخاصة على قرب من دين الفلاسفة اليونان من جهة، ومن الاعتقاد الاسلامي التوحيدي من جهة أخرى. إذ ينطلق البيروني من اعتقاد في شأن الدين، وهو"اختلف اعتقاد الخاص والعام في كل أمة بسبب أن اطباع الخاصة ينازع المعقول، ويقصد التحقق في الاصول، وطباع العامة يقف عند المحسوس ويقنع بالفروع ولا يروم التدقيق، وخصوصاً فيما افتتنت فيه الآراء ولم تتفق عليه الأهواء"، ثم ينتقل بعدها ليؤكد إيمان خاصة الهندوس بالوحدانية، بينما العامة تفردت بالتعدد والشرك، ليخلص الى القول:"واعتقاد الهند في الله سبحانه انه الواحد الأزلي من غير ابتداء ولا انتهاء، المختار في فعله، القادر الحكيم أي المدبر المبقي، الفرد في ملكوته... لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء". وقدم على ذلك أمثلة من كتب الهند تذكرنا بموضوعات علم الكلام الاسلامي، فينقل عن كتاب باتنجل، حواراً يقول السائل: من هذا المعبود الذي يُنال التوفيق بعبادته؟ قال المجيب: هو المستغني بأزليته ووحدانيته عن فعل لمكافأة عليه... والبريء عن الأفكار بتعاليه عن الأضداد المكروهة والانداد المحبوبة، والعالم بذاته سرمداً... ثم يقول السائل هل له من الصفات غير ما ذكرت؟ يقول المجيب: له العلو التام في القدر لا المكان، فإنه يجل عن التمكن، وهو الخير المحض التام الذي يشتاقه كل موجود، وهو العلم الخالص من دنس السهو والجهل"، ثم قال السائل"افتصفه بالكلام أم لا؟ قال المجيب: إذا كان عالماً فهو لا مجال متكلم، قال السائل: فإن كان متكلماً لأجل علمه فما الفرق بينه وبين العلماء والحكماء الذين تكلموا من أجل علومهم؟ قال المجيب: الفرق بينهم هو الزمان، فإنهم تعلموا فيه أي في الزمان وتكلموا بعد أن لم يكونوا عالمين ولا متكلمين، ونقلوا علومهم الى غيرهم، فكلامهم وإفادتهم في زمان، وإذ ليس للأمور الإلهية بالزمان اتصال فالله سبحانه عالم متكلم في الأزل، وهو الذي كلم براهم وغيرهم من الأوائل على أنحاء شتى، فمنهم من ألقى اليه كتاباً ومنهم من فتح لواسطة اليه باباً، ومنهم من أوحى إليه فنال بالفكرة ما أفاض عليه". وفي مكان آخر يجيب:"وهو إن غاب عن الحواس فلم تدركه، عقلته النفس، وأحاطته بصفاته الفكرة، وهذه عبادته الخالصة"، ونقل عن كتاب كيتا حواراً بين الحكيمين باسديو وپ"أرجن"جاء فيه،"إني أنا الكل من غير مبدأ بداية بولادة أو منتهى بوفاة، لا اقصد بفعلي مكافأة، ولا أختص بطبقة دون أخرى لصداقة او عداوة، قد اعطيت كلاً من خلقي حاجته في فعله"ثم يقول"ولأن الله ليس بظاهر لكل احد يدركه بحواسه فلذلك جهلوه. فمنهم من لم يتجاوز فيه المحسوسات، ومنهم من اذا تجاوزها وقف عند المطبوعات، ولم يعرفوا ان فوقها من لم يلد ولم يولد ولم يحط بغير أنيتة علم احد، وهو المحيط بكل شيء علماً". ويعلق البيروني على هذه الاقوال التي تؤكد الوحدانية وتنزه الله عن المحسوس، وتقترب من التصور الاسلامي عن الوحدانية. قائلاً:"فهذا قول خواصهم في الله تعالى ويسمونه"أيشفر"، أي المستغنى الجواد الذي يعطي ولا يأخذ، لأنهم رأوا وحدته هي المحضة، ووحدة ما سواه في وجه من الوجوه متكثرة"، ثم ينقلنا الى اعتقاد العوام التي تدرك الله في المحسوس والمتعدد، ولا تختلف نظرته الى عامة الهند، في ذلك، عن نظرته الى عوام جميع اصحاب الديانات، فعوام الهند"اختلفت الاقاويل عندهم، وربما سُمجت، كما يوجد مثله في سائر الملل، بل وفي الاسلام، من التشبيه والإجبار". فهم يحرفون القول عن مواضعه. فإذا سمّى بعض خواصهم الله تعالى"نقطة". ليبرئه عن صفات الأجسام... فعامهم يظن انه عظمه بالتصغير،"فلا يستطيع تجاوز سماجة التشبيه"، فيصوره"بطول إثني عشر إصبعاً في عرض عشر أصابع". في حال الأرواح وترددها بالتناسخ في العالم قارن البيروني بين الأديان، في شأن التناسخ قائلاً:"كما ان الشهادة بكلمة الإخلاص شعار المسلمين، التثليث علامة النصرانية، والإسبات أو تقديس السبت علامة اليهود، كذلك التناسخ علم النحلة الهندية، فمن لم ينتحله لم يك منها". والتناسخ عندهم، بحسب اعتقاد البيروني، ناتج عن الاعتقاد بأن"الأرواح تردد في الأبدان البالية بحسب افتتان الأفعال الى الخير او الشر، ليكون التردد في الثواب منبهاً على الخير، فتحرض على الاستكثار منه، وفي العقاب على الشر والمكروه فتبالغ في التباعد عنه، ويصير التردد من الأرذل الى الافضل دون عكسه". واستشهد بقول باسديو لأرجن يحرضه على القتال:"إذا كنت بالقضاء السابق مؤمناً فأعلم انهم ليسوا ولا نحن معاً بموتى، وإنما تتردد في الأبدان على تغاير الانسان من الطفولة الى الشباب والكهولة، ثم الشيخوخة التي عقباها موت البدن ثم العود". ويتساءل"كيف يذكر الموت والقتل من عرف ان النفس أبدية الوجود... هي ثابتة قائمة لا سيف يقطعها ولا نار تحرقها ولا ماء يغصها، ولا ريح تيبسها، لكنها تنتقل عن بدنها اذا عتق نحو آخر... كما يستبدل البدن اللباس... فإذا كنت تلمح البدن دونها، وتجزع لفساده، فكل مولود ميت، وكل ميت عائد، وليس لك من كلا الأمرين شيء، إنما هما الى الله". ولا يزال الانسان يتصفى في القوالب البدنية حتى ينال الخلاص على توالي التوالد، فاذا تجردت النفس عن المادة كانت عالمة، فإذا تلبست بها كانت بدورها جاهلة، وظنت انها فاعلة... لذا،"افضل الناس هو العالم الكامل لأنه يحب الله ويحبه الله، وكلما تكرر عليه الموت والولادة وهو في مدد عمره مواظب على طلب الكمال حتى ناله". كاتب من حلب