أسهم التزوير بسهم راجح في اعتلاء محمود احمدي نجاد سدة الرئاسة الايرانية، خلفاً لمحمد خاتمي 1977-2005. ويقدر مراقبون محليون ان التزوير اعطى المرشح احمدي نجاد في الدورة الاولى 20 في المئة من الاقتراع، بينما اعطاه 45 في المئة منه في الدورة الثانية. ولكن التزوير، على رغم فداحته، لا يستوفي تعليل فوز الرئيس الجديد، ولا تعليل"ظاهرته"ودوره وصدى مواقفه وسياسته في صفوف الايرانيين. فعلى خلاف إحجام الناخبين عن الاقتراع في الانتخابات البلدية 2003، ثم في انتخابات مجلس الشورى 2004، اقبل الناخبون هذه المرة على الاقتراع. واتفق ترئيس احمدي نجاد مع بلوغ الثورة الايرانية ربع قرن. وهو عمر جيل واحد. وفي اعقاب ربع القرن هذا بلغ جمهور موظفي الدولة وادارييها وسياسييها، وهم دخلوا معترك العمل جماعات وكان معيار تقريبهم وتوظيفهم الاوحد حماستهم الثورية، بلغوا سناً متقدمة. فحل وقت خلافتهم. ولا شك في ان جيل خلافتهم على أتم الاستعداد للخلافة. وبدا، لبعض الوقت، ان دينامية وسطية، ليبرالية واصلاحية، تحدو جيل الخلافة هذا، تحت لواء رفسنجاني، الرئيس الاسبق. وتنافس المرشحون الى رئاسة الجمهورية على رفع لواء الليبرالية الاصلاحية. فلم يحجم محسن قاليباف، مرشح خامنئي، المرشد، عن اعلان شعارات تحديثية. وعقد مصطفى معين، مرشح المعارضة، ربطة عنق فوق قميصه. فلاح اجماع على الخروج عن جادة الثورة المحافظة. والحق ان انتصار احمدي نجاد، وهو تقدم رفسنجاني بسبعة ملايين صوت، توج وجهة ظهرت نذرها الاولى قبل ثلاثة اعوام. فمذ ذاك والمحافظون، ونواتهم الصلبة حراس الثورة الباسدران، يستولون على مرافق السلطة، مرفقاً بعد آخر. وانتهى بهم الامر الى الغاء الهيئات والقوى كلها التي اضطلعت، في وقت من الاوقات، بتقييد السلطات الرسمية ومراتب النفوذ، من قمة الهرم الى قاعدته. وعلى هذا، فانتصار احمدي نجاد، رئيس بلدية طهران السابق وجنرال الباسدران، هو انتصار جهاز الباسدران هذا. وترؤسه بلدية طهران كان مختبر فاعلية الجهاز وواجهته. فأحمدي نجاد، في اثناء ولايته البلدية، حسن البيئة المدينية تحسيناً ملحوظاً: فشق الجادات العريضة، وعالج اختناق السير، وقلل التلوث الناجم عن العوادم القديمة، وتدارك تآكل المباني. ويسر له القيام السريع بهذه الانجازات الكأداء انقياد حرّاس الثورة لمطاليبه. فأجلوا ثكنهم الكثيرة من غير تباطؤ. ولم يرعوا، على خلاف شأنهم سابقاً، المضاربة العقارية. فآذن ذلك باختبار أهلية"الحراس"، ومن ندبوه الى الرئاسة الاولى المنصب الثاني في ايران، لمعالجة شؤون الناس اليومية والملموسة. ورفعوا هذه المعالجة العملية والمادية مثالاً نقيضاً لمثال اليسار الخاتمي، ومناقشاته العقيمة، ومنازعاته المحتدمة، واقتصاره على الطلاب والمثقفين والمهن الحرة من سكان شمال طهران. فانتصر"المجتمع الحقيقي"على"المجتمع المدني". وأظهر الاقتراع ضعف تماسك الجمهور الاصلاحي". فالمحافظات الاحدى عشرة التي تقدم فيها مهدي كروبي، القريب من الاصلاحين المرشح احمدي نجاد في الدورة الاولى، وذلك لعلل قبلية ودينية، اقترعت في معظمها لاحمدي نجاد في الدورة الثانية. وفي اثناء حملته الانتخابية، ندد المرشح احمدي نجاد بالاوليغارشية الاسلامية، أو"أعيان"الجمهورية ووجهائها واثريائها الذين سطوا على المال العام. ورفسنجاني هو العلم على هذه الاوليغارشية. وانتقد بمرارة التفاوت بين احوال الايرانيين، والفساد الملازم له، واميركا التي تحضن ملايين المنفيين الايرانيين المعولين على شباب شمال طهران وفتياته ومجتمعه"المخملي". فخلصت حملة المرشح الى ان النظام الاسلامي ارتد على الثورة الاولى، وانحرف عنها وخانها، من غير ان يمحو روحها، أي سعيها في المساواة. ويتصدى احمدي نجاد والباسدران من ورائه، الى احياء روح الثورة، والنفخ فيها، وهم ينددون بالانفتاح على العالم الخارجي، الاوروبي ? الاميركي، دفاعاً عن روح المساواة، ارث الثورة الاول والثمين. ويسمي الرئيس الايراني احياء المساواة"ثورة اسلامية ثانية"، على ما قاله في فوزه الانتخابي. فتوقظ"ثورته"هذه منازع الجماهير الايرانية المحبطة، ومخاوفها وتصوراتها عن الماضي"الجميل"، وتجيشها في سبيل استتباب الحكم تحت لواء المحافظين الجدد. ولا ريب في ان مشاهد سقوط كابول وبغداد في 2001 و2003، تغذي نازع الايرانيين الى المحافظة والانكفاء في كنف احمدي نجاد وصحبه من الحرس. ويقوي هذا النازع اضطلاع الحرس الثوري بأعباء اجتماعية واقتصادية تمتد الى قلب المجتمع الايراني وجماعاته الفقيرة والضعيفة، الى الاعباء العسكرية. وحراس الثورة هم، من وجه، ذراع المرشد الطويلة، ولكنهم من وجه آخر، نواة سلطة مستقلة ومتماسكة يسعها، في بعض الظروف، تقييد سياسة المرشد نفسه، على ما حصل في 1999، يوم حذر 24 ضابطاً حرسياً كبيراً من التراخي في معالجة الاضطرابات الجامعية. وكان التحذير هذا بمنزلة تهديد بانقلاب عسكري. وهم يستقوون، الى استقوائهم بدورهم في الحرب العراقية ? الايرانية، بسيطرتهم على مرافق اقتصادية ومالية كثيرة ومتشابكة، وبالصناعات العسكرية التي يديرونها، وتتوجها الصناعة النووية التي ينيطون بها ارساء"الحمى"أو"المعقل"الايراني الحصين والمنيع بوجه السياسات الدولية والاقليمية والداخلية. وانقياد الحرس الثوري للمرشد لا يحول بينهم وبين تنصيب"علمانيين"أو دنيويين من غير العلماء المعممين في قمم الادارة السياسية، في رئاسة الدولة ورئاسة الشورى عادل حداد حيث توالى علماء الى اليوم، وخلف بعضهم بعضاً. فهم اشبه ما يكونون ب"هيكلية تقنية"تتخطى تدريجاً، التيوقراطية الخمينية. والانتصار الاخير انتصار على المعممين. ولا يحمل التخطي احمدي نجاد وصحبه على التقليل من الشأن الايديولوجي. فرئيس بلدية طهران السابق اقترح دفن"شهيد"حرسي في وسط ساحات طهران كلها، ورفع 24 ألف لوحة كتب عليها"يا مهدي أدركنا". ويقود الحرس سياسة خارجية أهلية مستقلة. فيبث دعاته وشبكاته في الجماعات الشيعية المهاجرة والمقيمة، في شاطئ العاج والسنغال واميركا الجنوبية واميركا الشمالية. ويوفد البعوث التجارية الى بلدان غربية واسيوية. فيستميل الشركاء من طريق العقود والصفقات، ويزرع خلايا نائمة يوقظها وقت الرد الرادع. وأثبتت فرقة القدس، نواة هذه الخلايا، فاعليتها حين حالت بين قوى تدخل سريع مختلطة وبين اخراج مقاتلي"القاعدة"المحتجزين من ايران. ولم يعتم فوز احمدي نجاد ان اتخذ شكل عملية"تطهير"واسعة طاولت الادارات والمراتب العليا وصاحبة القرار التنظيمي والسياسي فيها. ولم يميز التطهير انصار المعممين المحافظين من انصار الاصلاحيين. فالحزبان، على ما يرى احمدي نجاد وحرسه، ضالعان في الردة على الثورة، والانحراف عنها. والقومية الشعبوبة التي تهتدي بها سياسة الرئيس الجديد ليست عودة الى منابع الثورة الاسلامية الخمينية، ولا الى تنصيب رجالها وقادتها من جديد. فالقومية الشعبوية تطوي صفحة الثورة وطاقمها القيادي الديني، وتنتهج طريق"علمنة"دنيوية متشددة ومستبدة. وهذه اقرب الى العامة والجمهور من طاقم المعممين الضالعين في الفساد، على ما يرى الجنرال الحرسي وصحبه، شأن المجددين والاصلاحيين. فالمثال الجديد للسلطة"الثورة الاسلامية الثانية"يجمع الحماسة السياسية الثورية والعقلانية التقنية، والتعصب البارد الى الاخلاص غير المشروط، والمردود الجمعي. فهو يشبه، من هذا الباب، أشد الصفحات قتاماً في تاريخ القرن العشرين. والصراع هو المثال السياسي الوحيد للعلاقة بالخارج. فاحمدي نجاد قمين بتحويل الازمة النووية الايرانية الى جبهة حرب بين الشمال "الغرب" والجنوب "الشرق". وولى الباسدران وجههم، أي عقودهم النفطية، شطر الصين، عضو مجلس الامن الدائم. فاستقبلت منظمة شنغهاي من الصين وروسيا وبعض الجمهوريات السوفياتية السابقة ايران، جزاء جهود الحرس، عضواً مراقباً. فاحلاف ايران، ومصالح الصين واوروبا، في اعقاب اقتلاع عدويها الطالباني والصدامي، عقبة بوجه حصار نفطي شامل، وحده قادر على ثنيها عن استتمام بناء سلاح نووي. والحق ان المسألة النووية لا تستنفد المسألة الايرانية. فقصف المنشآت النووية لا يقضي على النظام، ولا يطفئ الهوى القومي الجامح. والازمة النووية تتستر، اليوم، على غفلة من الغرب على انهيار اكثر مجتمعات الشرق الاوسط حداثة وعلمانية فجأة. فخلف الانهيار"لغزاً اسلامياً"فاغراً. والى اليوم، لا يزال وفاض الادارات الديبلوماسية خاوياً من مثالات تقارع المثال الايراني الاسلامي القائم، وتتولى خلافته على نحو مقنع. وفصل المسألة النووية عن حقوق الانسان ومساندة الارهاب، قرينة على قصور تناول الغرب المسألة الايرانية. عن فريدريك تيلييه مؤلف "ساعة ايران"، 2005 "لوديبا" الفرنسية. 11/12/2005