مع تدفق الإيرادات النفطية ابتداء من منتصف القرن الماضي، شرعت الحكومات العربية باستثمار هذه الواردات في النشاط الإنمائي في شكل متوازن يأخذ في الاعتبار: أولاً، تحديد الأولويات بموجب الأهمية والحاجة، وثانياً، تقدير طاقة الاقتصاد على الادخار والاستثمار من الناحية الرأسمالية والبشرية، وثالثاً، احتساب العائد الاقتصادي والاجتماعي للمشاريع المختارة. إلا أن الحقائق تظهر بوضوح التأثير الضعيف لاعتبار العائد الاقتصادي كمعيار أساس لاعتماد مشاريع معينة، مما كان له أسوأ الأثر في تغيير خصائص البنى البشرية لمجتمعاتنا العربية وارتباك المجتمع المديني نتيجة تدفق الهجرة غير المنظمة من الأرياف إلى المدن. وهناك عامل آخر مستتر، وهو"ادعاء المعرفة الشاملة"، من قبل المتنفذين في السلطة، بما يحتاجه البلد من مشاريع، والتي كانت في الحقيقة ترتبط في أكثر الأحيان بالمصالح الخاصة لمتخذي القرار في السلطة. فكان التوجه نحو بناء المشاريع البالغة الترف وبمواصفات لا تعبر عن الاستعمال الكفي للمعايير الحقيقية للتصميم بقدر ما يكون غرضها إبهار الناس وعكس ذلك على مظاهر السلطة. إن عدم الالتزام بالمعطيات الوظيفية ومعايير الاستخدام في تخطيط وتصميم المشاريع، لا يفتح النوافذ لسوء التصرف في الكلفة فحسب، إنما يؤدي إلى إعاقة عملية النهوض الفعلي من حالة التخلف. لذا نرى أن الاهتمام الخاص بموضوع الفساد في قطاع التشييد ينطلق أساساً من ظاهرة طغيان تأثير العامل السياسي في تحديد أولويات مشاريع التنمية والذي يفوق تأثيره، في أكثر الأحيان، التقويم الموضوعي للحاجة للمشروع. كما أدى هذا النهج الى زيادة التكلفة الرأسمالية والتي انعكست بدورها في زيادة تكاليف التشغيل والصيانة، والتي لا يمكن تبريرها كونها ناتجة أساساً من اتخاذ القرارات الاستثمارية الخاطئة والتي تنعكس بدورها من خلال تدني نوعية وكمية الخدمات التي تقدم للمستهلك بعد الانتهاء من إنشاء تلك المشاريع خدمات المياه، الكهرباء، الاتصالات إضافة إلى ارتفاع أسعارها. ومن المفيد في هذا السياق إبراز دور العناصر المؤثرة التي تتحكم بوتيرة وكمية الفساد في هذا القطاع، المرتبطة أساساً بفشل المخطط العربي في تقويم الجدوى الصحيحة للمشاريع مما يمكّنه من تحديد الأولويات التنموية المبنية على الترابط القطاعي المتوازن لنشاطات الاقتصاد الوطني. أن المرحلة الأولى لدراسة أي مشروع إنمائي تقويم جدواه الاقتصادية والاجتماعية، إذا لم تستخدم بكفاية ومهنية عالية، تشكل الأرضية التي تتحكم بوتيرة وكمية الفساد في ذلك القطاع، فالفساد غير المباشر المؤثر على عدم التقويم الصحيح والمهني لجدوى المشروع خلال مرحلة الدراسة الأولية، يؤسس في شكل مباشر للكثير من الممارسات الفاسدة في المراحل التالية الإحالة والتنفيذ، كالمبالغة في اعتماد مواصفات فنية عالية لا تبررها الحاجة، والتي تنعكس في الزيادة غير المبررة للكلفة. كما أن"الاقتصاد"في استخدام المواد واختزال متطلبات التصميم الآمن، سواء كان من طريق الجهل أو السرقة، يؤدي في ما يؤديه، إلى إعاقة الاستخدام الأمثل للمنشأ، وفي بعض الأحيان إلى انهياره وما يتبع ذلك من كوارث إنسانية ومادية. إضافة إلى ذلك، فالقرار الاستثماري الخاطئ أساساً يشكل حاضنة لتفشي كثير من الممارسات الفاسدة التي تعتري المراحل اللاحقة، سواء تلك المتعلقة بقرارات الإحالة المبنية على تقويم متأثر بالمصالح والعلاقات الخاصة، أو ما يتبع ذلك من ممارسات فاسدة خلال مرحلة التنفيذ والإشراف، كالتساهل في مراقبة الجهة المنفذة بالالتزام بالمواصفات المحددة، أو إجراء تعديلات غير مبررة للمواصفات والتصاميم خلال مرحلة التنفيذ. إن قرارات التعديل في المواصفات وفي الكميات خلال مراحل التنفيذ، تشكل أهم نوافذ للفساد، حتى أن بعض المقاولين يعول حين تقديم عرضه، على هذه الآلية لتحقيق ربح، قد يكون حرفياً ضمن القانون إنما في الواقع هو أسلوب للكسب غير المشروع. * * * أما في الظروف الاستثنائية، كما في البلدان الخارجة من النزاعات المسلحة والحروب الأهلية، يتنامى تأثير العوامل المحفزة لتفاقم الفساد في فترة إعادة اعمارها بسبب تداعي أجهزة الدولة المركزية، وغلبة عنصر المحاصصة لدى القوى السياسية الجديدة، وتوجه القيادات السياسية في السلطة، في مرحلة ما بعد فصل النزاع، لاعتماد منهجية لإعادة الاعمار لا تراعي ضرورات المراقبة والمساءلة والشفافية. أما الوجه الآخر من الفساد في هذه الأقطار، فيتمثل بتوجه القيادات السياسية في السلطة، في مرحلة ما بعد فصل النزاع، إلى إعادة البناء والتشييد لما انهار وتهدم بفعل النزاع، في شكل عشوائي غير معني بوضع الحد الأدنى من آليات المراقبة والمساءلة و والشفافية في العمل، وكأن أعادة الاعمار بأي ثمن تجيز التجاوزات وتبيح الاستفادة غير المشروعة. إن دراسة التجربة العراقية بعد الاحتلال تشير بوضوح إلى التشجيع المنهجي للفساد في الإجراءات المتخذة من سلطات الاحتلال والحكومات المتعاقبة في ترسية العقود الرئيسية أو التعاقد من الباطن. * * * إلا أن التركيز على الممارسات الفاسدة ضمن قطاع الإنشاءات في الأقطار العربية، لا يجب أن يحجب عن ذهننا عدم جواز فهم الفساد في هذا القطاع كظاهرة مستقلة عن التأثيرات التي تتجاوز حدوده. فنرى مثلاً أن القرار الاستثماري الخاطئ ضمن هذا القطاع له ارتباط مباشر بالمنافع الخاصة الهائلة التي تحققت للمتحكمين باتخاذ القرار وذلك، على سبيل المثال، من خلال الاستملاكات المتعلقة بالأراضي الواجب تأمينها لإقامة المشاريع الإنشائية، والتي استندت بشكل عام، على ممارسة النفوذ السياسي لإجراء تلك الاستملاكات لمصلحة المجموعات المتنفذة من خلال شرائها بأسعار اسمية قبل إعادة بيعها للدولة بأسعار مضاعفة. كما تلعب"المعرفة المسبقة"المتوافرة للموقع السياسي والفني لما سيحصل في منطقة معينة من نشاط تنموي، دوراً بارزاً في شراء الأراضي المحيطة أو المجاورة للمشروع بسعر بخس، ومن ثم تحقيق أرباح خيالية تنتج من إعادة بيعها بأسعار مضاعفة بسبب تنفيذ المشروع أو حتى الإعلان عنه لاحقاً. ومن جملة ما أدى إلى تفشي الفساد في هذا القطاع هو الغياب التام للدور الفعال الذي تستطيع أن تلعبه الأطراف والشرائح الاجتماعية المتأثرة بالمشروع ونتائجه، من خلال آليات المشاركة في اتخاذ القرار المناسب في تحديد المعطيات الوظيفية للمشروع، من وجهة نظر المستخدم. مثل هذه الممارسات أدت في البلدان العربية إلى فقدان التوازن المطلوب بين ضرورات تأمين أعلى مستويات التصميم الهندسي من جهة، وضرورة ربط تقويم جدواها ودراسة آثارها على التنمية الإنسانية والبشرية. أن تجاهل هذه المعادلة الدقيقة ولأسباب كثيرة أهمها غياب الآليات الديموقراطية اللازمة لتفعيل هذه المشاركة أدى الى نتائج كارثية على مسيرة التنمية في أقطار الوطن العربي. ومن المفيد الاشارة الى فجوة واسعة في غالبية هذه الأقطار، بين وفرة التقنيات والخبرات الهندسية الفنية اللازمة للتصميم والتنفيذ، وغياب المشاركة الواسعة من خلال الآليات الديموقراطية اللازمة لإخضاع القرار السياسي لاعتماد المشاريع الإنشائية، ضمن خطط وبرامج التنمية بحسب معايير موضوعية تأخذ في الاعتبار المصلحة العامة. ومع كل ذلك، وبموازاته، يشار إلى أن النشاط الواسع في هذا القطاع أفرز كثيراً من المؤسسات وشركات المقاولات والتجهيز الوطنية التي استطاعت أن تلعب دوراً محورياً في عملية التنمية وفي شكل خاص في استيعاب وتطوير الطاقات البشرية الفنية والهندسية، التي كانت بدأت الجامعات المحلية والأجنبية تخريجها للسوق المحلية. هذا الأمر يجب إقراره والإشادة به. وإن كان من نقص في هذا الجهد فهو إهمال الجانب التكويني لإعداد مؤسسات هندسية وتقنية لها نظم هيكلية ديناميكية تضمن حسن استمرارها في شكل موضوعي. وهنا تبرز أهمية الحاجة إلى تحسين أداء آليات الرقابة والمساءلة في هذا القطاع. ويكون ذلك من طريق: أولاً- إخضاع المشاريع ذات النفع العام، إلى المساءلة الجماهيرية من طريق عرض المشروع والدفاع عن معطياته وجدواه أمام هيئات عامة وفي لقاءات مفتوحة. وهذا ما يعزز المفاهيم الديموقراطية فكرة وممارسة. ثانياً- إعطاء دور أكبر لمكاتب التدقيق المهني والمحاسبي، الأهلية منها والحكومية. ثالثا- رفع مستوى المهارات المهنية ضمن هذا القطاع من خلال دعم المنظمات النقابية والمهنية وتمكينها من المراقبة الفعالة للأداء المهني في ضمن معايير التزام النزاهة والكفاية في ممارسة المهنة. في الخلاصة، هنالك حاجة ملحة لتثبيت قواعد عمل ومسلكية شفافة في قطاع البناء والتشييد وذلك لكبح تنامي مستوى الأرباح الفاحشة التي كانت الصفة المميزة لهذا القطاع خلال العقود الأخيرة من القرن المنصرم، والتي نتجت أساساً من تنامي وتجذر الفساد في هذا القطاع الحيوي من الاقتصاد الوطني. * المدير العام للمنظمة العربية لمكافحة الفساد. إن الآراء الواردة في المقال لا تمثل بالضرورة أراء المنظمة التي ينتمي إليها الكاتب