تركز المشروع الأميركي الغربي للإصلاح السياسي فى العالم العربي غداة الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001 على قضية الديموقراطية باعتبارها الضمان الوحيد والأكيد لإيقاف موجات الإرهاب المتصاعد وتحديث وجه الحياة فى العالمين العربي والإسلامي، ومارست واشنطن ومعها حلفاؤها، أوروبيين وغير أوروبيين، دوراً متصلاً لفرض الديموقراطية فى الأقطار الإسلامية مستخدمة فى ذلك كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة بدءاً من المسعى الثقافي وصولاً إلى الغزو العسكري مستخدمة في ما بينهما مساحة هائلة من المحاولات المستمرة لتدجين المنطقة العربية وتطويع العالم الإسلامي ثقافياً وفكرياً حتى يتحقق لها ما تريده متسقاً مع مصالحها متوافقاً مع أهدافها، ولقد بدأت تطفو على السطح فى الشهور الأخيرة بوادر تناقضات مقلقة على الساحة السياسية فى الشرق الأوسط، فالذين تحدثوا عن حرية الانتخابات والديموقراطية هم الذين يشعرون بالجذع من نتائجها ويندهشون مما جاءت به ويتحدثون عن معاقبة الشعب الفلسطيني لأنه أعطى لحركة"حماس"غالبية فى مجلسه التشريعي، والسؤال الذى يطرح نفسه هو هل لو تعارضت مسيرة الإصلاح التى يتحدث عنها الغرب مع مصالحه فى الشرق الأوسط فهل يختار الإصلاح بمنطق أخلاقي أم مصالحه بمنطق مادي؟ والواقع أن لنا قراءة لهذا الموضوع تدور حول المحاور التالية: - أولاً: لقد رددت كتابات غربية ودوائر أميركية أن الإصلاح السياسي والدستوري والتمكين للديموقراطية الغربية فى الشرق الأوسط هو الضمان الحقيقي لاستقرار المنطقة وتجفيف منابع الإرهاب التى ينطلق منها وهذه قد تكون مقولة صححية نظرياً ولكن هناك محاذير يجب أخذها فى الاعتبار فى مقدمها أن ذلك يجب أن يقترن بشيوع العدالة فى العلاقات الدولية وانتهاء احتلال أرض الغير والتوقف عن الدعم المطلق للدولة العبرية. - ثانياً: إن سياسة ازدواج المعايير والكيل بمكياليين لا تتسق مع مفهوم الإصلاح فحيازة دولة وحيدة فى الشرق الأوسط لترسانة أسلحة نووية دون غيرها من دول المنطقة وبقاء مجرد الشك فى احتمال حصول سواها على ذلك السلاح مبرراً لضرب بلد معين أو غزو أراضيه، إن مثل هذا المنطق لا يمكن أن يستقيم مع ما نسعى إليه من توازن مطلوب للقضاء على موجات الإرهاب ودعم النظم الجادة فى الإصلاح ولنأخذ ما جرى أخيراً كنموذج لسياسة ازدواج المعايير والكيل بمكياليين فعندما جرت الإساءة إلى نبي الإسلام صلى الله علية وسلم اعتبرت دوائر غربية كثيرة أن ذلك هو حق يرتبط بحرية التعبير ومظهر يعبر عن تقاليد الصحافة الغربية أما إذا جرؤ مسلم أو مسيحي أو حتى يهودي على التلويح ولو من بعيد بما يمس السامية أو حتى يقلل من حجم"الهولكوست"فإن الدنيا تقوم ولا تقعد، وهذا معناه أن الحرية لها أكثر من مفهوم وأن الإصلاح له أكثر من معيار أيضاً. - ثالثاً: إن للولايات المتحدة الأميركية وحلفائها سوابق معروفة فى دعم نظم ديكتاتورية والإطاحة بنظم ديموقراطية اختارتها شعوبها كما حدث مع نظام"الليندي"فى"شيلي"عام 1973 كذلك فإنها لا تمانع فى مساندة نظام تحوم حول ديموقراطيته الشكوك ما دام ذلك النظام موالياً لها، وهى أيضاً قد لا تتحمس لنظام ديموقراطي حقيقي ما دام لا يخدم مصالحها ولا يتبنى سياساتها وذلك أمر ينتقص من مصداقية دعاة التغيير وشفافية نداءات الإصلاح التى تكررها"واشنطن"فى السنوات الأخيرة. - رابعأً: إننا نشهد عبر الأعوام القليلة الماضية محاولات للغزل السياسي المتبادل بين الغرب وبعض التيارات الإسلامية فى الشرق الأوسط بصورة توحي بأنه إن لم يكن هناك رفض أميركي لقيام دول على أساس ديني فى الشرق الأوسط إلا أنه على الأقل لا توجد ممانعة فى ذلك، وهو ما يعنى أيضاً أن التعاون التاريخي بين بعض الاتجاهات الدينية الإسلامية والأجهزة الغربية هو أمر مقبول بلغ ذروته فى دعم النضال الأفغاني ضد الاتحاد السوفياتي السابق وهو الذى استغرق أيضاً عقوداً طويلة من التحالف الإسلامي الغربي ضد التيارات"الماركسية"عندما كان ذلك الأمر قائماً. - خامساً: إننا نظن عن يقين أن القيمة الحقيقية للتيارات الإصلاحية ودعم مسيرتها إنما تكمن فى اكتسابها لشرعية شعبية وقبول عام وهى تفترض بالضرورة أن يكون لها رموزاً تعبر عنها واتجاهات تشير إليها ولا يمكن"لفاقد الشيء أن يعطيه"كما لا يجوز أن تتبنى قوة معينة تياراً يتعارض مع حركة التاريخ وطبيعة الأشياء لذلك فإننا نظن أن تأخر حل الصراع العربي - الإسرائيلي بشكل عادل سيؤدي بالضرورة إلى ضرب مسيرة الإصلاح وتعطيل تقدمه، ويكفى أن نتذكر هنا أن صدام حسين ومن بعده بن لادن وغيرهما قد جعلوا من القضية الفلسطينية"قميص عثمان"دون أن تكون لديهم قناعات حقيقية ولكنها الرغبة فى ارتداء ثوب له جاذبية وأهمية عند من يشاركون فى العمل السياسي ويستجيبون لبريق الشعارات الملتهبة. ... هذه محاور سقناها لكي نؤكد أن الإصلاح السياسي والاقتصادي ليس بالضرورة بضاعة غربية أو صناعة أميركية بل قد يحدث العكس ونجد أن الذين يتحدثون عن الحرية لا يرحبون بها وأن الذين يطالبون بالديموقراطية لا يتحمسون لها، ولقد طرح فوز حركة"حماس"فى الانتخابات التشريعية الفلسطينية الأخيرة هذا المعنى بوضوح وأكد أن الغرب يبدو قلقاً من كل ما لا ترضى عنه إسرائيل ولا يجب أن ننسى أنه هو نفسه الغرب الذى ضرب الحركة القومية فى العالم العربي وفتح الأبواب أمام المشروع الإسلامي ليتقدم نتيجة الاحباطات المتوالية والهزائم المتتابعة والإحساس بأن الخلاص لا يكون إلا بالاعتماد على الأصولية الدينية والعودة إلى الجذور الروحية مهما كانت التكاليف باهظة وهو أمر يبدو لي محتملاً مع تطيبق برامج الإصلاح والأخذ بالديموقراطيات الحقيقية والانتخابات الحرة، ولا يجب والحال هكذا أن نتباكى أمام صناديق الاقتراع ونتناسى أن السياسة المزدوجة واستمرار احتلال أراضي الغير وقهر إرادة الشعوب هو الذى أدى إلى ما شهدناه بعد ذلك من موجات عنف وأحداث إرهاب وروح عدائية تجتاح المنطقة ضد السياسة الأميركية خصوصاً فى دعمها المتواصل للدولة العبرية فضلاً عن احتلالها غير المدروس للقطر العراقي على نحو يهدد وحدته الوطنية وسلامته الإقليمية، ونحن نظن أن تراجع المشروع القومي قد جاء بعد أن تلقى ضربات قاصمة منذ نكسة 1967 ثم جاءت أحداث الحادى من أيلول سبتمبر 2001 لتضع المنظور الديني فى مواجهة حادة مع الغرب بصورة مهدت تلقائياً للمشروع الإسلامي أن يتقدم خصوصاً وأنه مشروع له بريقه ولم يتم تجريبه بشكل كامل ولذلك فهو يطرح شعاراً جذاباً يستهوى القلوب ولكنه لا يقدم حلولاً موضوعية لذوى الحاجة والفقراء وهم الذين يشكلون الأغلبية فى ما نسعى إليه ونعمل من أجله، ولعله من المناسب أن نسوق هنا بعض الاعتبارات الأساسية التى تحكم معايير الإصلاح وتحدد علاقتها بالتيار القومي الذى انحسر بشكل ملحوظ على الساحة العربية: 1 إن سقوط الاتحاد السوفياتي السابق وانتهاء الحرب الباردة وظهور الولاياتالمتحدة الأميركية كقوة عظمى وحيدة قد جعل قدرة التيار القومي على المناورة السياسية محدودة والاستفادة من الظروف الدولية أمراً صعباً تبدو نتائجه غير مضمونة وآثاره ضعيفة، فضلاً عن اختفاء دور الشارع العربي وتعود جماهيره على الهزائم والاحباطات والقيادات التى لا تتمتع بشعبية والنظم المشكوك فى قدرتها على رفع مستوى الحياة وتعزيز الديمقراطية وفتح أبواب الحريات. 2 إن ضعف الأداء السياسي وشيوع الفساد المالي والإداري واختفاء القيم الأخلاقية قد سلب النظم جوهر قيمتها وسبب بقائها وجعلها متهاوية أمام القوى السياسية البديلة حتى لو جاءت على أساس ديني وذلك ما نعبر عنه بعبارة"التصويت العقابي"أى أن الجماهير تعطى دعمها للمشروع الإسلامي ربما ليس حماساً له فقط ولكنه رفض أيضاً للبدائل المترهلة فى إطار تطور إعلامي كاسح لا يسمح إلا بأن تصل الحقيقة إلى المجتمعات المختلفة فى شفافية زائدة ومصداقية تترسخ يوماً بعد يوم. 3 إن الذين يتحدثون عن تراجع المشروع القومي وتقدم المشروع الإسلامي - وأنا من أولئك الذين يقولون ذلك - يدركون فى الوقت ذاته أن العالم العربي والإسلامي قد مر بدورات مماثلة عبر تاريخه الطويل ولكن الذى حكم الموقف في النهاية هو قناعته الراسخة وإحساسه الصادق بأن الحركة القومية هي تعبير عن الكل أما الموجة الدينية فهي تعبير عن البعض، لذلك جاءت الكتابات المختلفة والتحليلات المتعددة لتؤكد أن المشروع القومي لم يختفِ تماماً كما أن المشروع الإسلامي لم يسيطر كلية. .. إن الإصلاح السياسي فى العالم العربي قد اقترن بعوامل ضعفه وأسباب تأخره لأن الرسالة جاءت من الخارج قبل الداخل ولأنها افتقدت المصداقية فى بعض المراحل كذلك فإن التطورات الإقليمية قد نالت هى الأخرى من قيمة ما يجري ومكانته وجعلت الحديث عن الديموقراطية يبدو أحياناً وكأنه لغو لا طائل من ورائه كذلك فإن قدرة النظم الحاكمة فى المنطقة العربية على تجديد نفسها وإحياء دورها لا تتحقق من دون أن يكون لها برنامج إصلاحي واضح لا يرتبط بمرحلة معينة أو ظروف بذاتها ولكنه يأتي منطلقاً من قناعات راسخة وشعور قوى يجعل العدالة فى العلاقات الدولية واتباع سياسة المعيار الواحد فى القرارات المصيرية هدفين لا يجب الخروج عنهما وذلك سيؤدي إلى صحوة محتملة للمشروع القومي ولكنه لن ينال فى الوقت ذاته من غيره من المشاريع، إذ العبرة فى النهاية هى بمدى التصاق كل مشروع بجماهيره وتعبيره عن روح عصره وقدرته على المواءمة بين ما يدور وما يجب أن يتحقق .. تلك هى رؤيتنا حول المشروع الغائب والمشروع القادم لأن الأمر برمته يرتبط بمكانة العرب ووجود رؤية شاملة لديهم يستشرفون بها المستقبل ويفتحون معها الآفاق الرحبة أمام أبناء هذا الإقليم الذى عانى كثيراً وجاء الوقت لكي يستريح قليلاً. * كاتب مصري.