قدم الكاتب في الحلقة الأولى السبت الماضي تفسيراًلظاهرة الإرهاب الحالية يلقي اللوم على الإسلام، ويتابع اليوم في الحلقة الثانية الأخيرة، فيقدم تفسيري الثقافة والسياسة وآفاقاً للحل: تفسيريلقياللوم على الثقافة يمكن القول إنّ الحجّة الأكثر رواجاً التي يقدّمها اليسار في أوروبا، حول الأسباب البعيدة المدى المتعلّقة بالجهاد الإرهابي، هي حجّة ثقافيّة. وتفيد هذه الأخيرة أنّ الجهاد يعبّر عن انزعاج ثقافي عميق في العالم الإسلامي، وهو يرمز إلى انهيار شامل للهويّة. بدأت هذه الحجّة تظهر مع الانهيار البطيء"للثقافات البدائيّة"أو الثقافات والمجتمعات التقليديّة الذي سبّبه اجتياح الحداثة الغربيّة في القرن التاسع عشر. وبينما تقوم أيديولوجيات وطرق عيش متنافسة في المنطقة بإعادة النظر في الهيكليّات والأفكار التقليديّة، يبرز أيضاً التساؤل عن الهويّة: من نحن؟ وما نحن؟ وماذا نريد أن نكون؟ في نهاية القرن التاسع عشر، ظهر تيّارا تفكير مختلفان كلّياً للإجابة على هذه التساؤلات. فمن جهة، أخذ تيّار الحداثة العربيّة - علماني، عرقي، اشتراكي غالباً - معظم أفكاره من الغرب وحاول إعادة تطبيقها في إطار عربي. ومن جهة أخرى، حاول التيار الإسلامي الذي يروّجه نجوم عرب كالأفغاني ومحمد عبده إعادة صياغة الهويّة من خلال صيغة عصريّة للدين الإسلامي. وعلى المستوى السياسي، ربح تيّار الحداثة وحلّ مكان الحكومات الاستعماريّة التي سبقته ومهّدت له الطريق. وما زال خلفاؤهم الداعون إلى الحداثة يتولّون الحكم في معظم دول الشرق الأوسط، وجاءت النتائج وخيمة بشكل كبير. فالمعارضة العنيفة التي يواجهونها في كلّ مكان تقريباً وواجهوها منذ السبعينات تدلّ على أنّ التيار البديل لسياسات الهويّة هو تحويل كلّ شيء نحو الدين الإسلامي. واليوم، يتحارب العلمانيون الخاسرون مع المتطرّفين، ويدور الصراع حول التنافس لمنح العالم الإسلامي هويّته. ويكافح كلّ من الطرفين السياسيين وهما يجمعان اختلافات كبيرة داخل التيار الواحد ولكنهما انقسما إلى تيارين بارزين لإنقاذ العالم العربي المسلم من حالة إحباط ثقافيّ. وبرزت أيضاً آراء بعض المفكّرين الفرنسيين الذين ربطوا الإرهاب اليوم بأزمات الهويّة عبر التاريخ، واستنتجوا أنّ التوتّر القائم بين قطبي الهويّة يولّد الإرهاب. فالبعض يشبّه ذلك بانقطاع الوتر، والبعض الآخر يرى فيه اختباراً كيميائياً: أضيفوا التطرّف الإسلامي إلى الحداثة تحصلوا على التيار"البن لادني". الاختبار الكيميائي يرى"اوليفريه روا"من المركز الوطني للأبحاث في باريس، أنّ الشكوى البلاغية والسياسية الاسلاميّة تتحوّل إلى إرهاب، عندما يُضاف التفرّد الغربي إلى الخلطة. ويضيف أنّ الإسلام كديانة تواصليّة لا يمكنها أن تغذّي أبداً الإرهابيين الفردانيين دعاة الفرديّة وحدها. أمّا نظريّة البطل الرومنسي الوحيد التي يجسّدها ببشاعة أسامة بن لادن فهي فكرة مستوردة من الغرب. انقطاع الوتر: يعتقد"فرهاد خسروخافار"من مركز EHESS في باريس، أنّ التطرّف في أوروبا يتبع خطوطاً خاصة. وتتركّز دراساته عن التطرّف في أوروبا حول الأشخاص المتعلّمينپمحمد عطا، مجموعة سجن هامبورغ، البريطانيون من أصل باكستاني، الذين يجدون أنفسهم عالقين بين مجموعتين لتحديد الهويّة، ويتملّكهم اليأس لإيجاد خطواتهم، ويلجأون إلى نموذج الكاتب أوليفريه روا. ولكن مشكلة هذا التحليل تكمن في مادته الاساسيّة، فالمفكّرون الفرنسيون حصلوا على المعلومات من الغرب والبلدان الإسلامية الغربية المغرب والشرق الأدنى، حيث يتبع التطرّف أنماطاً مختلفة عن بقية أجزاء العالم الإسلامي. ولا يعطي هذا الأمر معنى للتطرّف في السعودية أو التطرّف الأوسع في الخليج، حيث غادرت جماعات كثيرة إلى أفغانستان، وكان بعضها ملتزماً ومتعلّقاً بالجهاد أكثر من البعض الآخر. تفسير يلقي اللوم على السياسة ينتشر التقويم السياسي بأكثريّته في أوروبا، وهو إلى حدّ بعيد شائع في الشرق الأوسط وشمال افريقيا. تنادي هذه الحجّة بتجاهل الصيغ والمفردات والتطلّع إلى المفكّرة السياسيّة. ويدلّ التفسير السياسي للإرهاب في الشرق الأوسط على أنّ مسببّ الإرهاب الوحيد والحصري هو المعاناة السياسيّة والظلم. كما تقول الحجّة بتجاهل البلاغة القرآنيّة، معتبرة أنّ الإرهابيين المجاهدين يتكلّمون فقط"لغة الإسلام"في سبيل تصحيح الظلم، لأنّ اللغات الأخرى كلّها تلطّخت بخسارتها. وفي ظلّ هذا التقويم، لطالما كان الغرب المتهم الأول، فالاستعمار ملام على تقسيم العالم العربي بما يتلاءم والمصالح الغربيّة. كما أنّه يَلقى اللوم على تدمير الفكرة والامكانيّة السياسيّة للأمّة. والغرب مسؤول أيضاً عن استغلال الثروات الطبيعيّة في المنطقة لتعزيز نموّه الخاص، بينما يُضعف باستمرار من يمدّه بالطاقة. وبواسطة العراق ووجود جيوش أجنبيّة لا تُحصى على أرض عربيّةاسلاميّة، يبدو الغرب كأحد الامبرياليين الجدد، فبعد الاستعمار الفرنسي-البريطاني في السابق، أتى الأميركيون. ويتمّ تصوير الغرب، خصوصاً الولاياتالمتحدة، على انه المسؤول الأول عن الإذلال المستمرّ الذي يتعرّض له الفلسطينيون. وربما الأهمّ هو أنّ الغرب يبدو المعذّب الرئيسي للمنطقة من خلال مساندته للحكّام الديكتاتوريين فيها، وكونه كفيل الأنظمة الوحشيّة يبدو أيضاً متواطئاً في تجريم القوى السياسيّة الحقيقيّة في المنطقة، أكانت إسلاميّة أم من ديانات أخرى. وللدفاع عن هذه المقاربة، ترمز فلسطين للطريقة التي ينظر بها العالم العربي إلى علاقته مع الغرب. وكما احتشد العالم حول لندن بعد تفجيرات 7/7/2005، هكذا يرى العالم العربي والإسلامي نفسه متضامناً مع الفلسطينيين. ولكن تبقى بعض المشكلات الأساسية مع المقاربة السياسية البحتة ومنها: لماذا بدأ الناس على سبيل المثال عبر الشرق الأوسط يتكلّمون"لغة الإسلام"؟ ولماذا يتمّ إلقاء اللوم على الغرب بشكل شامل بينما تقع المسؤولية أيضاً على الظلم السياسي في الداخل؟ ولماذا يتطابق وضع الشرق الأوسط بقوّة مع فلسطين؟ وهل يؤمن أحد ما بأنّ حلّ المسألة الفلسطينيّة سيوقف بن لادن بما أنّ الانتفاضة انطلقت بعد وقت طويل من بدء تخطيطه لشنّ هجمات 11 أيلول؟ ردّاً على السؤال الأول المتعلّق بسبب تكلّم الكثيرين"اللغة الإسلامية"، يرى الكثيرون أنّ بزوغ سياسات علمانيّة في العالم العربي بدءاً من القرن التاسع عشر هو الاستثناء وليس القاعدة في الوضع السياسي في المنطقة، ويعتقدون أنّ الإسلام - وخلافاً للدين المسيحي- هو دين الفرد المؤمن ودين الحاكم معاً. كما يقول البعض إنّ السياسات المحليّة الوحشيّة - العلمانيّة والداعية إلى الحداثة- اخترعت معارضتها المتناقضة، ويشير البعض إلى أنّه وكما يسعى الغرب إلى توحيد نفسه في مواجهة الآخرين، هكذا تعمل ظاهرة"التحدّث بلغة الإسلام"كمؤشّر قوي للهويّة من خلال مواجهتها للغرب. ويلعب خليط من العوامل السياسية والثقافية والإسلامية دوراً كبيراً في المسألة. أمّا السؤال حول سبب إلقاء اللوم الأكبر على الغرب للفشل السياسي الذي منيت به أنظمة الشرق الأوسط، فمن شأن مقاربة موحّدة أن تجيب عليه. ويمكن القول إنّه، وللأسف، في فترة سوداء من الإحباط الثقافي، يُعدّ التخلّي عن إلقاء اللوم على الخارج تجنّباً وتهرّباً من المسؤولية الداخليّة المؤلمة، وهذه الحالة مرض يُطلق عليه في علم النفس اسم"تناذر الضحيّة". وتلعب السياسات الحقيقيّة دوراً منذ أن بدأ الغرب بمساندة الحكم الفردي في الشرق الأوسط، أي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، مع عواقب مدمّرة ضربت التمثيل السياسي الحقيقي. غير أنّ هذه الحقيقة هي ما عبّر عنه الايديولوجيون الذين يرسمون الوقائع، على انّه استعباد يهودي - مسيحي متعمّد للأمّة الإسلامية. وأخيراً، تسلّط هذه الناحية من إلقاء اللوم على الغرب الضوء على أحد أعظم التباينات الخطابيّة في المنطقة، التي كانت تظهر مثالية الغرب: فكان يتمّ تصوير الغرب على انّه المسيح الذي لا يظهر نفسه أبداً. كيف نفهم إذاً هذا الجهاد الإرهابي لعدم القول"عالمي"أو"على طراز القاعدة"أو"عبر العالم"أو"ثوري"؟ مجدداً، يمكننا أن نعالج مشكلة التطرّف من خلال مزيج من المقاربات السياسية والثقافيّة والعقائديّة. سأبدأ بالسياسة ثمّ الثقافة وأخيراً سأضيف القليل من الإسلام على الخلطة، مع أنّ هذا التعبير قد يبدو غير صحيح سياسياً. سياسات الإرهاب: يشكّل التطرّف والتشدّد الإسلامي والجهاد في الشرق الأوسط إجابة على ثلاثة أنواع من القمع والاحتلال. احتلال المحيط السياسي المحلي: ويتمثّل في الطغيان غير الديني في البلد الأمّ والإبعاد عن دائرة السياسات التشاركيّة، وهذا ما أجبر حركات المعارضة العاقلة على اتخاذ خطّ التطرّف والعنف. احتلال الأراضي: إنّ انتهاك الغرب الذي لا تُعتبر إسرائيل جزءاً منه فحسب بل هي في الطليعة لسيادة البلدان الإسلامية أفغانستانوالعراقوفلسطين وحسب بعض المفكّرين البوسنة والشيشان أيضاً ساعد على نشوء فكرة الصدام الحضاري وتغذيتها. احتلال دائرة السيطرة الشاملة: من القواعد العسكرية الاميركية في الخليج وهو ما يراه الكثيرون على انّه استغلال الغرب لثروات المنطقة الطبيعيّة، إلى هيمنة الغرب الشاملة على الثقافة الإسلامية عبر العالم العربي والإسلامي، نجد أنّ المعنى السائد للعولمة هو فكرة الاستغلال الغربي أكثر من فكرة الشراكة. ثقافة الإرهاب وناحيتها الإسلامية: تكمن الطريقة الوحيدة لفهم عمق الامتعاض تجاه الغرب، في الفهم الثقافي لما يجري، وتقودنا المقاربة الثقافيّة إلى إعادة النظر في مسألة الإسلام أيضاً. تجنّب"جيل كيبل"، وهو عالمٌ فرنسي آخر في مجال الشرق الأوسط المعاصر، أن يذكر فكرة الجهاد في الأعوام القليلة الماضية، وركّز من جهة أخرى على مفهوم"الفتنة". ورأى كالآخرين أنّ تصادم الحضارات ليس بين الغرب والشرق الأوسط، بل داخل الشرق الأوسط نفسه. وفي هذه المعركة التي تحدّد هويّة المنطقة، لعلّ سبب توجيه العنف نحو الغرب هو أنّ هذا الأخير تورّط طويلاً في هذا الصراع على تحديد الهويّة إلى جانب جهة واحدة. أمّا السبب وراء ضرورة تطلّعنا إلى الإسلام فهو أنّ"العقيدة الإسلامية"تشكّل أحد أقطاب المناظرة، وعلينا أن ننظر إليه بتمعّن شديد لأنّه يدخل حالياً في دوامة من التغيير الدراماتيكي. ويحبّ النقّاد الليبيراليون الاعتقاد بأنّ ما يحتاج إليه العالم الإسلامي هو الإصلاح. ولكنّهم فشلوا في رؤية أنّ ما يحدث هو بالتحديد إصلاح أيضاً، وبأنّ كلاً من أيمن الظواهري من تنظيم القاعدة وقادة الإخوان المسلمين في مصر، والجماعة الإسلامية في آسيا، وغيرهم، يتنافسون ليصبحوا"مارتن لوثر"عصرهم، كما سبق وتنافس"لوثر"مع عقيدة تجديد العماد وعقيدة"كالفن"وعقيدة المصلح البروتستانتي السويسري"إتزونغلي"وسواها. وبعبارات أكثر شموليّة، حدث الإصلاح في أوروبا بعد نتائج إعادة اكتشاف هيئة تنافسيّة للتعلّم، ونموذج سياسي اجتماعي أخلاقي تنافسي، وهذا ما يُعرف بالحضارة الكلاسيكيّة. ويمكن أن يرى البعض الإصلاح كردة فعل على النهضة. أمّا العالم الإسلامي، فهو ما زال يترنّح من خسارته في المواجهة مع الحضارة الغربيّة، وقد يبدو في موقع مماثل حالياً. واستغرق الأمر أكثر من مئة عام من المجازر الدامية تكبّدتها أوروبا لتحرّر نفسها من مفهوم الإصلاح الذي ساد. وقد نكون في صدد اختبار الأمر ذاته في الجهة الأخرى من المتوسط. ما العمل إذاً؟ يتضمّن كلّ من النماذج التي تمّت مناقشتها الخطوط التي تحدّد سياسته. في مجال الدين: عليكم الجلوس وانتظار الحرب العالميّة الرابعة إلا إن تمّ فتح أبواب الاجتهاد التي اُقفلت على مدى قرون. وعلى الصعيد الثقافي: تجب الدعوة إلى التعدّد الثقافي وتشجيع حوار الحضارات، والخروج"بعالميّة"بديلة تقوم بإنشاء جوهر من القيم المشتركة. أمّا في السياسة: فمن الضروري تشجيع الإصلاح داخل العالم الإسلامي وعبره وخارجه. ومن خلال جمع هذه الخطوط الثلاثة، يصبح بالإمكان رؤية أنّه فقط عندما يعالج الدين أزماته السياسية والمتعلّقة بالهويّة يسود الاستقرار. كما على الغرب، ومن وجهة تعاطيه مع المسألة، أن يساعد في هذه الأمور من خلال العمل على إنهاء الاحتلال الثالوثي نسبة إلى الثالوث الأقدس. علينا إذاً أن ننشر بجهد الإصلاح السياسي المرجوّ عبر المنطقة، وعلينا السعي للحصول على حلّ بالمفاوضات حول المسألة الفلسطينيّة. وفي ما يتعلّق بالاحتلال الشامل، يجب أن نضمن أن نحرّر أنفسنا من الصراع على الهويّة في العالم الإسلامي، كما انه من الضروري دعم عمليّة الديموقراطيّة التي تنال إجماع العرب والمسلمين ويرغبون في تحقيقها، وعلينا الكفّ عن وضع أنفسنا في جبهة الحداثة ضدّ الإسلام. وأخيراً، يجب أن نقبل بأنّه في حال انتصرت الديموقراطيّة في المنطقة، ستتولّى بعض اشكال الحكومات الإسلامية الحكم في معظم البلدان. وبما إنني سبق وكتبت للمعهد الملكي المتحد للخدمات بأن علينا ألا نخاف من الحكومات الإسلامية في المنطقة وسيتمّ النظر إليها على انها قوميّة. وفي حال تمّت متابعة العملية الديموقراطية بالشكل الصحيح، ستحظى هذه الحكومات لمصلحة الشرعيّة. أمّا على الصعيد العقائدي، فعلينا ان نتذكّر أنه ما من شيء يفقد العقيدة السياسية بريقها بقدر الممارسات السياسية الخاطئة. ولمصلحة الأمن الدولي ولمزيد من التكامل الشامل، يجب ان نأخذ مَثل حركة"رجب طيب اردوغان"التركية الإسلامية التي تحكم تركيا حالياً، وليس مَثل النظام المصري الذي يعاني من الفساد ومن ركود اقتصادي، وهو نظام شكّل لوقت طويل نموذجاً لأصدقائنا وحلفائنا في المنطقة. كاتب بريطاني متابع لشؤون الشرق الأوسط.